من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
«حتّى لا نضيع البوصلة» في الذكرى الـ44 لجريمة إحراق المسجد الأقصى ...

 في خضمّ الأحداث المتتالية التي تهزّ الربيع العربي وتهدد ثوراته وخاصّة ما يحدث هذه الأيام في مصر من مجازر وانقلاب على اختيار الشعب وما يخطط له من محاولات لتكرار السيناريو المصري في تونس وما تعيشه سوريا الجريحة من حرب دامية أتت على الأخضر واليابس وأصبحت تهدد البلاد بالانقسام إلى مجموعة دويلات صغيرة متصارعة. وفي مثل هذه الأوضاع يهتم أغلب العرب والمسلمين ومن تعاطف معهم بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بهذه الأحداث ويخصصون جزءا كبيرا من أوقاتهم لمتابعة ما تظهره وسائل الإعلام وتعلن عنه من أحداث وتحاليل مما يجعلهم يضيّعون قضيتهم المركزية وجوهر صراعهم مع الكيان الصهيوني المزروع في قلب الأمة. وينسون قضيتهم الأساسية ألا وهي تحرير فلسطين والقضاء على هذا الكيان الغاصب الذي لا يشك ذو عقل في دوره وتخطيطه لما يحدث من مشاكل وأزمات في البلدان العربية من أجل تحويل الربيع العربي إلى خريف أو شتاء ومحاولاته المتكررة بالتواطؤ مع بعض الحكام العرب الذين يعملون لصالحه لإدخال الشعوب العربية في أتون الصراعات الداخلية خاصّة مصر (إستخدام الاسلوب السوري في تدمير مصر من الداخل وبأيدي المصريين أنفسهم عن طريق تقليب المجتمع المصري على نفسه وتقسيمه إلى طوائف متناحرة تتقاتل فيما بينها) حتّى يتسنى له تحقيق مآربه التي تأسس من أجلها المتمثلة في القضاء على فلسطين وبناء دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. ولكي لا تضيع البوصلة ، فإننا سنحاول من خلال هذا المقال البسيط تذكير القرّاء الكرام بأحد أكبر جرائم الكيان الصهيوني في حق هذه الأمّة المتمثلة في محاولة حرق المسجد الأقصى التي يقترن إصدار هذا العدد بالذكرى 44 لتاريخ تنفيذها.

مدينة القدس التي يرجع تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة هي مهد الديانات السماوية وتحتل موقعا مميّزا لدى المسلمين لما لها من رمزية وما تحمله من دلالات وما تختزنه من تاريخ. فهي المدينة التي تحضن المسجد الأقصى أول القبلتين، صلى إليه النبي محمد والمسلمون سبعة عشر شهراً قبل أن يؤمروا بالتحول شطر المسجد الحرام (1)، كما أنه ثالث الحرمين بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة (2). وهو المسجد الذي إليه أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم وفيه صلّى إماما بالأنبياء قبل أن يعرج به إلى السماء (3). وقد ظلّ هذا المسجد على مدى قرون طويلة مركزا مهمّا لتدريس العلوم ومعارف الحضارة الإسلامية.

ونظرا لهذه الرمزية ، فقد كان ولا يزال لمدينة القدس عامّة والمسجد الاقصى خاصّة موقعا متقدّما في الصراع الإسلامي الصهيوني حيث تحتل مركز النزاع التاريخي بين المسلمين والصهاينة. ولهذا عملت الحركات الصهيونية ومن ورائها الكيان الصهيوني على ضمّ القدس إلى الكيان الصهيوني واعتبارها عاصمته الأبدية . كما عملت على تهجير العائلات الفلسطينية المسلمة من المدينة وتدمير كل المعالم الإسلامية الموجودة بها وعلى رأسها المسجد الأقصى. 

لقد عمل الكيان الصهيوني على تدمير المسجد الأقصى بمختلف الطرق لهدفين إثنين:

* طمس الهوية العربية الإسلامية لمدينة القدس وتحويلها إلى مدينة يهودية وبذلك يتم محو آثار «العهدة العمرية» التي كتبها عمر بن الخطاب خليفة المسلمين مع البطريرك صفرونيوس إبان انتصار جيوش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ، والتي نصّت ألا يسكن في القدس يهوديا .

* إعادة بناء الهيكل حيث يرى الصهاينة أن الهيكل الثاني كان مقاما مكان المسجد الأقصى وقد قام بتدميره تيطس في 21 أوت سنة 70 للميلاد ولذلك فإن هذا التاريخ يمثل ذكرى حزينة لديهم ، ولذلك لديهم الدافع لارتكاب اعتداءات ضد المسلمين وضد المسجد الأقصى بالذّات للإسراع في بناء الهيكل الثالث المزعوم، ولهذا يلاحظ أن الاعتداءات اليهودية عادة ما تزداد في شهر أوت من كل عام منذ احتلال اليهود لأرض فلسطين.

وقد جاء حريق المسجد الأقصى الذي نفذه اليهودي المتطرف دينيس مايكل روهان في الحادي والعشرين من أوت سنة 1969 (4) في إطار سلسلة من الإجراءات التي قام بها الاحتلال الصهيوني منذ عام 1948 ولا يزال بهدف طمس الهوية الحضارية الإسلامية لمدينة القدس ومن أهم هذه الإجراءات :

* محاولات الإقتحام اليومي للمسجد الاقصى من طرف الجماعات اليهودية المتطرفة لفرض واقع جديد لهم فيه

* تنفيذ الحفريات تحت المسجد الأقصى والتي تؤثر على المباني المحيطة به وهي مبان أثرية تاريخية مهمة هدم العديد منها والخطط مستمرة لهدم ما تبقى، حيث تم تدمير 138 عمارة في حي المغاربة تحتوي على المدارس التاريخية والمقامات والمساجد اضافة الى تدمير المنطقة الجنوبية للمسجد المبارك بما فيها من قصور أموية . وتعد الحفريات التي تقوم بها جماعة أمناء الهيكل تحت المسجد الأقصى من أهم الأخطار التي تحيق به، وقد بدأت هذه الحفريات منذ عام 1967 تحت البيوت والمدارس والمساجد العربية بحجة البحث عن هيكل سليمان، ثم امتدت في عام 1968 تحت المسجد الأقصى نفسه، فحفرت نفقاً عميقاً وطويلاً تحت الحرم وأنشأت بداخله كنيساً يهودياً.

* استعمال كل الوسائل الاجرامية لإخراج أهل القدس من مدينتهم، بالاعتداء عليهم والتنكيل بهم في وضح النهار وإقامة الكنس في محيط المسجد الاقصى المبارك الأمر الذي يهدّد الوجود العربي الاسلامي المسيحي في القدس، ولا سيما منع المسلمين من الذهاب الى المسجد الأقصى لإفراغه منهم.

إن ذكرى حادثة إحراق المسجد الأقصى ستبقى تدق ناقوس الخطر في الذاكرة العربية والإسلامية الفردية والشعبية والرسمية، وتذكرنا شعوباً وحكومات بأن إسرائيل مصرّة على المضي قدماً في نهجها العدواني التوسعي الاستعماري وتدمير مقدساتنا  في الاراضي المحتلة واقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات. إننا ندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى عدم الانشغال عن القدس والمقدسات، وجعلها من أولوياتها وجوهر ثوراتها حتّى لا يفسح المجال للصهاينة للقيام بمزيد من الاجراءات التي ان استمرت سوف نخسر بها اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

الهوامش

(1) «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (سورة البقرة - الآية 144)  قد نرى تحوُّل وجهك -أيها الرسول- في جهة السماء، مرة بعد مرة، انتظارًا لنزول الوحي إليك في شأن القبلة، فلنصرفنك عن «بيت المقدس» إلى قبلة تحبها وترضاها، وهي وجهة المسجد الحرام بـ «مكة»، فولِّ وجهك إليها. وفي أي مكان كنتم -أيها المسلمون- وأردتم الصلاة فتوجهوا نحو المسجد الحرام. وإن الذين أعطاهم الله علم الكتاب من اليهود والنصارى لَيعلمون أن تحويلك إلى الكعبة هو الحق الثابت في كتبهم. 

(2) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى.»

(3) يقول الله تعالى : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ» «سورة الإسراء الآية 1»

(4) المجرم «دينيس مايكيل» قام بإشعال النيران في المسجد الأقصى، فأتت ألسنة اللهب المتصاعدة على أثاث المسجد المبارك وجدرانه ومنبر صلاح الدين الايوبي.. ذلك المنبر التاريخي الذي أعده القائد صلاح الدين لإلقاء خطبة من فوقه لدى انتصاره وتحرير لبيت المقدس، كما أتت النيران الملتهبة في ذلك الوقت على مسجد عمر بن الخطاب ومحراب زكريا ومقام الأربعين وثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب شمالا داخل المسجد الأقصى.

بلغت المساحة المحترقة من المسجد الأقصى أكثر من ثلث مساحته الإجمالية، حيث احترق ما يزيد عن 1500م2 من المساحة الأصلية البالغة 4400م2 وأحدثت النيران ضررا كبيرا في بناء المسجد الأقصى المبارك وأعمدته وأقواسه وزخرفته القديمة، وسقط سقف المسجد على الأرض نتيجة الاحتراق وسقط عمودان رئيسان مع القوس الحامل للقبة كما تضررت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والمحراب والجدران الجنوبية وتحطم 48 شباكا من شبابيك المسجد المصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترق السجاد وكثير من الزخارف والآيات القرآنية.