بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
الثّورات العربيّة ومخاطر التّدويل: التجلّيات والآليات

 

 تمهيد

 

  قد لا يشكّ أحد أنّنا أمام "نموذج ثوري" مازالت ملامحه لم تتبلور بصفة نهائية بعد. فهو يجمع بين الفعل الثوري والانتفاضي والاحتجاجي والعصيان المدني..الخ. وهي بالتأكيد كلّها حركات شعبية، متعدّد المضامين والأبعاد، نجد فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. كما أن جميع هذه المضامين المشكلة لها متفاعلة في ما بينها ومتصارعة في الوقت ذاته. والمشهد الثوري سوف يتأثر إيجابا وسلبا باتجاه هذا التفاعل ويبقى مدى التغيير السياسي العربي في المستقبل رهين الضغوطات العربية والعالمية التي تتعرض لها وتحد من انتشارها وتؤثر في إعادة ترتيب مؤسسات الدولة وتنظيم علاقتها بالمجتمع.

 

 فهذه الثورة هي نتاج عملية تاريخية أكثر عمقا وتعقيدا مما يحاول بعض مفكرينا أن يوهمنا به . لذلك، وبعيدا عن الصخب الأيديولوجي أو ما تردّده مختلف وسائل التعبير في الإعلام والخطب السياسية والبرامج التلفزيَونية صباحا ومساء، نعتقد أنّ الشروط الذاتية والموضوعية لنجاح هذه الثورة مازالت لم تنضج بعد وتعترضها صعوبات وتحدّيات تظلَ تقف حاجزا أمامها، وهي عقبات كثيرة ومتنوعة (داخلية وخارجية) ومعقَدة بنفس تعقَد تجليات الواقع العربي ذاته.. فالمناخ العربي والدّولي المضطرب لا يساعد على نجاح هذه الثورة بقدر ما يساعد على وأدها وإفشالها. والتاريخ العربي مفتوح على احتمالات كثيرة نأمل أن لا تكون كلّها سوداء.

 

  مدخل منهجي

 

إنَ الدراسة الموضوعية تقتضي أن ننظر إلي هذه الثورات باعتبارها حركات وانتفاضات جماهيرية ديناميكية ـ سلبا وإيجاباـ حتى لا نضعها في إطار مغلق وجامد قد يفقدها علاقاتها التاريخية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية. غالبا ما نقرأ بعض الكتابات والقراءات التي تهمل جانبا مهما من طبيعة الصراع الدّائر اليوم في الوطن العربي وعلاقته بالصراعات الإقليمية والدولية عموما. إنّ هدف هذه الثورات ليس الإطاحة بالحكام العرب الطغاة والمستبدين فقط، مثلما يحاول البعض من العرب والغربيين إيهامنا به، ولن يكون ذلك منتهى المعركة طالما بقيت أسبابها الحقيقية المباشرة وغير المباشرة قائمة.

 

  لقد كان السبب المباشر لهذه الثورة هو واقع الاستبداد والظَلم الذي هيمن على المشهد المجتمعي العربي. وكان الهدف منها هو بناء الديمقراطية والاعتراف بالمواطنة العربية وعودة سيادة الدولة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية..الخ. ولكن تبقى أهدافها الكبرى هي استعادة روح الأمّة والدّفاع عن هويتها العربية والإسلامية وعن قيمها الثقافية والدّينية التي تعرّضت إلى التهديم المنظّم من قبل أعداء الأمة في الدّاخل والخارج معا. وبما أنّ منطلقات هذه الثورة لم تكن مقطوعة الصّلة بما سبقها من ثورات أو انتفاضات عربية عديدة ضدَ الاستبداد والاستعمار والتخلف...الخ، فإنّ أهدافها الحقيقية والاستراتيجية سواء تمَ الإعلان عنها أو لم يتم ذلك، تم الاتفاق حولها أو لم يتم، فهي احتجاجات شعبية ضد الهيمنة الأمريكية والغربية في المنطقة العربية وضد سياسة التّطبيع مع الكيان الصهيوني أيضا. وبالتّالي، فمن الخطأ أن ننظر إليها بأنّها ثورة ضد الاستبداد الداخلي فقط، بل إنَها ثورة ضد حالات الانقسام العربي ومحاولات طمس خصوصيات الأمة الحضارية والدينية، لأنّ آليات استبداد الأنظمة العربية هي من صنع هذه القوى الاستعمارية والعلاقة بينهما جدلية وبدت اليوم أكثر وضوحا وتوافقا. فالاحتلال الأجنبي يسعى إلى أن يطول أمد وهن هذه الأمّة وأن يستديم ضعفها حتى يتمكن من نهب ثرواتها ومنع وحدتها وتفكيك نسيجها الاجتماعي وهويتها الثقافية.

 

 نعتقد أنّ الثّورات العربية وضعتنا أمام معادلة معقدة. وهذه المعادلة يحكمها منطقان اثنان وهما: منطق الرغبة في سقوط ثقافة الهزيمة ومنطق تأسيس ثقافة الديمقراطية. وهذه المعادلة لن تتحقق دون الدخول في مواجهة مع أعداء الشعب العربي المتسببين في حرمانه من هذه الحقوق أي الانخراط الفعلي في الصيرورة التاريخية من أجل إعادة إنتاج علاقات ندية مع هؤلاء الأعداء في الدّاخل والخارج وفرض منطق التأسيس الجديد للعلاقة بين الدولة والمجتمع العربيين.

 

 فالفعل الثوري الحقيقي هو ذلك الفعل الذي يستهدف تكسير معادلات الهيمنة والتجزئة والتخلف والاضطهاد والفقر وإعادة بناء المنظومة الحقوقية والقيمية والفكرية الفعالة لتغيير المجتمع. وبالتالي فالمطالبة بتغيير هذه المنظومات أي أن هذه الحقـــوق إذا اقتصرت علــى وسائل لا تستفز العدو (الداخلي أو الخارجي) أو ليس من شأنها أن تهدّد مصالحه أيا كان مجالها سوف تتيح له الفرصة حتى يتعامل معها بنجاح دون مساس بقدراته على التحكم في معادلات الهيمنة وتكريس مبدأ التعامل بخنوع مع ما يسمى بـ" حقائق العصر" وفق المشروع الصهيوني ومتعصبي العولمة والرأسمالية العالمية.

 

 لن نتمكن من تجاوز هذه المعضلة وتحدياتها الداخلية(الذاتية) والخارجية (الدولية) إلا من خلال "الوعي التاريخي" الهادف بقراءة التاريخ القديم والحديث، ومن خلال " التوغل في قراءة صفحات التجارب البشرية الكثيرة والمتنوعة وفحصها وتدبرها واكتشاف المؤثّرات والسّنن التي ساهمت في بعثها وإيجادها قصد التزوّد والاعتبار"(1).  

 

فما لاحظناه من خلال متابعتنا البحثية للمسار الذي اعتمدته بعض المؤتمرات الاقليمية والدولية ومن خلال بعض الدراسات والمقالات العلمية والصحفية وبعض الكتب والمؤلفات التي تناولت الثورة العربية قد وقعت في خطأ منهجي تجزيئي في طريقة تناول أبعاد هــذه الثورة أي كمن يرى الشجرة دون الغابة.

 

 

 لهذا، نعتقد أن التحليل التاريخي لأبعاد هذه الثورة يظل عملا ضروريا من أجل فهم تحدياتها باعتبارها تعبر عن تغيير لمسار سياسي واجتماعي، وتحول تاريخي ومؤشر يرمز به المجتمع العربي إلى تحقيق نقلة سياسية وحضارية نوعية أي يعبر من خلاله على الانخراط فعلا في نسق الحداثة من حيث الفكر والعمل السياسيين وكذلك في مستوى الحياة الاجتماعية عامة.

 

  تجليات تدويل الثورات العربية

 

 يمكن الانطلاق من بعض التَساؤلات لفهم تجليات تدويل الثورات العربية وتبعاتها على نسق الفعل الثوري العربي الجديد وهي:

 

أولا: كيف يمكن أن يصدّق أحد أن الدّيمقراطية يمكن أن تبنى تحت نظام الحراسة العسكرية؟ ألم يؤد التدخل العسكري الغربي في العراق إلى توتر الوضع الأمني وإلى التفكك الاجتماعي والمؤسّساتي للدّولة؟

 ثانيا: كيف يمكن لحكومة العملاء وللمليشيات المسلحة هنا وهناك أن تحمي البلاد من الاقتتال الدَاخلي وتمنع الدول الغربية من أن تثبَت أقدامها على الأرض العربية في ليبيا وغيرها من الأقطار العربية الأخرى من جديد احتلالاً واستيطانًا؟

وما هي آليات الهيمنة التي تعتمدها القوى العالمية الاستعمارية التي طالت آثارها السلبية جميع المجالات؟

كلما فهمنا محدّدات الصراع الإقليمي والعالمي نستطيع أن نحدّد قوانين هذا الصراع وآلياته الممكنة واتجاهه في المستقبل. لن نتحدث هنا عن تفاصيل ما تسمى بـ"الثورة المضادة" أو عن آلياتها التي باتت تعتمدها القوى الرجعية في الوطن العربي والتي باتت مكشوفة أمام الجميع. فالانقلاب الذي نلاحظه في مسار الثورات العربية اليوم، دليل كاف وقاطع على أنّ هناك "ثورة مضادة"  بكل ما في هذه العبارة من معنى. ونعني بـ"الثورة المضادة" في هذا المقام ما تقوم به القوى الغربية وحلفائها العرب، في الخليج العربي خاصة، من عمليات تدخل معلن وخفي معا في هندسة اتجاه هذا الحراك الشعبي من أجل السيطرة على اتجاه التغيير السياسي وعلى نتائجه المحتملة في المستقبل.  أي لا بد لنا من البحث بشكل علمي وموضوعي، دون مجاملة أو تجن على أحد، في تضاريس هذه التحولات ومدى نجاحها في تحقيق القطيعة الفعلية مع منظوماتها السياسية والاقتصادية والثقافية والرمزية السابقة. فالانجازات النضالية للجماهير العربية مازالت تعترضها وتلاحقها معارك مضادة وذات مصادر داخلية وخارجية متعددة.

 

لقد كشفت لنا الأحداث خلال الأشهر الماضية أنّ أكبر تحدّ تواجهه الثورة العربية الرّاهنة هو أن حقيقة الصرّاع الدائر هو صراع حول الوجود والمصير العربيين. فهو صراع بين الوجود العربي واستقلال شعوبه ونهضتها وبين الوجود الاستعماري ومصيره في الوطن العربي وربّما في العالم كلّه. ومن أبرز مظاهر التحدّيات الخارجية التي تواجهها هذه الثورة وأخطرها على الإطلاق هي قضية التدويل. ويتجلى منطق التدويل في الهيمنة الغربية على مسار الثورة من خلال الجمع بين التدخل المباشر للقوة العسكرية مثلما تم في القطر الليبي والسّوري من قبل قوات الحلف الأطلسي، وبين التدخل السياسي المعلن في الشؤون الداخلية العربية مثلما هو الأمر بالنسبة إلى مصر وتونس واليمن.

 

علينا أن نكون حذرين من استعمال بعض المفردات أو الكلمات في غير مواضعها. ومن بين هذه الكلمات التي يستخدمها الأعداء لتمرير مشاريعهم الاستعمارية هي كلمة "التحرير". إنها كلمة نبيلة يراد بها باطل. ألم يتدخل الأمريكيون وحلفائهم في العراق سنة 2003 باسم "التحرير" وبناء الديمقراطية، فماذا كانت النتيجة؟ ألم يتحول التحرير الذي يزعمونه إلى احتلال وسفك للدماء العربية، وهتك للأعراض ونهب لخيرات الأمة العربية في هذا القطر؟

 

فمن الخطأ أو لنقل من المغالطة والزيف التاريخيين أن يعتقد البعض أن الشّعب العربي في ليبيا مثلا، قد كسب معركته من أجل الحرية والديمقراطية بموت " معمر القذافي" طالما أن الأعداء مستمرون في انتهاك سيادة هذه الدّولة والهيمنة على مقدراتها النفطية. فالنّظام الديمقراطي في أي بلد يشترط أولا، أن تكون هناك ظروفا اقتصادية وأمنية وعسكرية سليمة ومناخات سياسية  واجتماعية مواتية وتساعد على ممارستها على أرض الواقع. وثانيا، أن لا يكون هناك محتل للبلاد الذي مافتئ يملي شروطه ويفرض إرادته و"أجنداته" السياسية والاقتصادية والأمنية على السلطة الحاكمة. فمهما ادعت الحكومة الليبية الجديدة المنتظرة من وطنية وديمقراطية، فإنّها ستظلّ حكومة لا تملك الحق في اتخاذ قراراتها المصيرية ولا الحق في وضع سياساتها الداخلية أو الخارجية، لأنّها بكل بساطة ولدت من رحم الاستعمار وستظل حكومة تابعة للغرب  الذي أتى بها من وراء البحار لتكون حارسه الأمين على مصالحه في ليبيا بعد القذافي. كما ستبقى مدينة وممتنة لهذا الاحتلال العسكري "الثوري" وستبقى في تبعية إلى أن تسقط بالتقادم أو عبر فعل ثوري جديد في المستقبل.

 

 إن الحالة التي تخترق الواقع العربي هي تعبير عن أزمة بنيوية شاملة وعميقة حدا. حتى أصبحت الكلمات غير الدقيقة والعبارات الغامضة والتراكيب الملتوية هي إحدى آليات الهيمنة على المخيال الاجتماعي من قبل رجال السياسة والإعلام من أجل إخفاء حقائق الوقائع وإعطائها أكثر من معنى وتأويل(2).  أضف إلى ذلك ما نلاحظه من عودة إلى ثقافة الكراهية التي أصبحت تهيمن على المشهد العربي منذ اندلاع الأيام الأولى للثورة، فكثرت الصراعات والنزاعات السياسية والأيديولوجية التي زادت الوضع تأزما نتيجة "انبهار" بعض القوى السياسية وتعاملها مع "كرونولوجيا الثورة"(3) وفق منطق الحماسة العاطفية والبراغماتية.

 

 لقد تحولت لغة "التحرير" إلى أداة للتعبئة ووسيلة للمغالطة ووفق

فنون تزييف الحقائق. وهكذا أصبحنا أمام منطق لإنتاج المغالطات والأوهام مثلما يوجد منطق لإنتاج الحقائق والإنجازات. وهذا المنطق التضليلي (sophism) يعتمد لتمرير الأكاذيب وإيقاع الآخر في الزيف وقلب الحقائق حتى يظل جوهر السياسات الغربية في المنطقة العربية والإسلامية ثابتا لكن تتغير مفرداتها ومواضعها فقط. فكانت نتائجها كلها مضادة لما ادَعته هذه القوى والمتمثلة أساسا في القضاء على نظام حكم القذافي و" تحرير" الشَعب العربي في ليبيا مثلما يزعمون. وتحوَلت الثورة في هذا البلد إلى حرب صليبية جديدة من أجل فرض الوصاية على إرادة هذا الشعب. وبالطبع لم تكن هذه الحرب مفصولة عن أهدافها الاستراتيجية وهي استدامة هيمنتها على المنطقة وإعادة تقسيم خارطتها الجغرافية والديمغرافية. وتحول التدخَل الغربي ـ العربي الاستعماري في الوطن العربي من "نظام للوصاية" إلى "نظام للحراسة" وإلى استعمار جديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. لقد تحوَل المشهد اللَيبي والعربي عموما، إلى احتلال وعملاء وفوض وسفك دماء و...نفط. وأصبح وضع هذا البلد شبيها بالوضع العراقي بل أكثر منه خطرا وعمقا من حيث الجرائم التي ترتكب في حق الشعب وانتهاكات حقوق الإنسان والأوضاع الفوضويّة وسفك الدَماء علنا ودون خجل من قبل ما يسمى بـ "قادة المجلس العسكري الانتقالي"...الخ.

 

هكذا، بدأت تسقط البلاد العربية باسم التحرير وحماية حقوق الإنسان وبناء الديمقراطية المزعومة تحت الاستعمار الغربي المباشر من جديد. وتتحول الثورة فيها إلى انتكاسة حقيقية للشعب العربي الثائر. وبدلا من أن تستثمر هذه الثورات لتغيير وضع الجماهير العربية والإسلامية المنتفضة من المحيط إلى الخليج تستخدم لخلق مناخ عربي مضطرب، وضع عربي تابع للغرب الاستعماري. وتستخدم فيه مختلف المنظمات الإقليمية والدولية والحقوقية من أجل خلق مناخ سياسي تهيمن عليه حالة الانقسام الداخلي لحماية مصالح الاستعمار تحت وهم التغيير الثوري. ونعتقد أنه ليس من المنتظر إنجاز الأهداف الحقيقية لهذه الثورة في المستقبل القريب لأن المتغيرات الإقليمية والدولية مازالت تهدد إرادة الشعب العربي، وتستند إلى مقاييس معولمة من أجل شرعنة السّلط السياسية المعتدلة، واستخدام القوة من خلال فرض أمر واقع عربي جديد.

 

إذًا، لا يكفي أن تتوفَر الشَروط الذاتيَة (الداخلية) للثورة لضمان النجاح في المستقبل، بل لا بدَ أيضا أن تتوفر لها الحصانة من التدخلات الخارجية. فالشَروط الداخلية للثورة غير كافية لوحدها خاصة في ظلَ تعقَد المسائل والأشياء التَي لا بدَ من معالجتها. فهناك علاقة جدليّة وتاريخية بين واقع الاحتلال والهزيمة والاستبداد في وطننا العربي وبين مناخ العنصرية الصهيونية والهيمنة الغربية التي تمت تحت مسميات كثيرة تختلف باختلاف المراحل التاريخية من الادعاء بأنّها "حرب على الإرهاب" إلى فرض الإصلاح و"إعادة التأهيــــل" ثم أصبحت في ظل المناخ الثوري العربي الجديــد تتــم باسم "حرب التحرير" من الاستبداد الداخلي ومن أجل بناء الديمقراطيــة على المقاس الأمريكي والغربي.

 

ألم تكن المعارك الماضية بانتصاراتها وهزائمها كافية ليتعلم منها الشعب العربي أنَه وحده الذي سيدفع تبعات أي تخاذل أو تواطؤ مع أعداء الأمس و اليوم وغدا. ألا يكفيه ما قدَمه من شهداء وما تعرَض له من خديعة من قبل "الأصدقاء" قبل الأعداء ومن خوض لمعارك ليست في موضعها؟ أليس الاستعمار الغربي هو من اغتصب الأرض العربية في فلسطين وهو الذي دمَر حضارتنا في العراق وفككه إلى مقاطعات متصارعة وقسَم السَودان واحتل ليبيا...الخ؟

 

إنّ القوى الغربية الاستعمارية وحلفائها العرب مازالت متمسكة بمواقعها في المنطقة وتغذي منطق التفرقة والانقسام الداخلي( قبلية كانت أو عشائرية أو دينية ) من أجل استدامة التبعية العربية وبهدف ضمان طلب الدَعم الأمني غير المحدود من الغرب. فالرّأسمالية العالمية التي من الممكن أن تحرمها الثورة بعض امتيازاتها القديمة في الوطن العربي (الاحتكار، الاستثمار، الاستغلال..) لن تقبل للقوى الوطنية والقومية والتقدّمية عموما صاحبة المصلحة في نجاح هذه الثورة من أن تأخذ بزمام الأمور. لأنّه بكل بساطة لا يمكن لمصالح القوى الرأسمالية أن تلتقي مع مصالح الجماهير الشعبية المهمَشــة في أوطانها. هذه المسألة هامة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو ينكر مدى خطورتها وتأثيرها في مستقبل هذه الثّورات .

 

فالدَيمقراطية وحقوق الإنسان التَي شرَعت بها هذه الدَول تدخلها العسكري في المنطقة  العربية والإسلامية لم تعد من بين انشغالاتها بقدر ما هي مشغولة ومهتمة بحماية الأنظمة العربية التَابعة لها والتي تحمي مصالحها. وعلى مدى العقود السَابقة من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتخلف الاقتصادي في الوطن العربي لم تتبع القوى الاستعمارية أيَة سياسة حقوقيـــة ولم تمارس أي نفوذ مــادي أو معنوي من أجل حل هذه المشاكل أو البعض منها، بل كانت ومازالت تتخوف من إمكانية نجاح الشعب العربي في بناء نظامه الديمقراطي لأنها تعرف أنها ستكون الخاسر الأول إذا ما تم ذلك فعلا.

 

  والتدخَل الخارجي في الوطن العربي لا يمكن أن يكون بريئا وإيجابيا، لأنه لا توجد مساعدة خارجية مجانية، بل إن لكلَ دولار أمريكي تمَ إنفاقه في هذه الحملة العسكرية الأطلسية ثمنا سياسيا واقتصاديا وثقافيا ستدفعه الجماهير العربية الثائرة. فهذه الحرب سيتبعها وابل من الضغوط المعلنة والخفية من أجل أن تضمن انصياع السلطة الحاكمة الجديـدة المطلق لإملاءاتهــــا. ومهندسو السياسة الغربيـــة في الوطن العربي منذ انطلاق الثورة في تونس، يحاولون أن يخفوا ازدواجية خطاباتهم السياسية ويتخفوا وراء مقولات"الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" ولو كان ذلك قد تم على جثث الشهداء. والصَورة التي يسعى زعماء حلف "الناتو" إظهارها إلى الرأي العام العالمي لهذه المقولة هي صور مبهرة لأنها منفصلة عن سياقها التاريخي وعن ظروف تحقيقها حتى أصبحت في تصور عبيدهم متجسَــدة فعلا

في أسيادهم ولو كانت طرق الوصول إليها سيئة على شعوبهم (الدمار والقتل والاقتتال والفساد والفوضى..). فكيف يمكن أن نبرّر أو نتجاهل ما أقدمت عليه القوى الاستعماريــة منذ انطـــلاق حملتها العسكريــة في أفغانستان سنة 2001 من عمليات قصف ودمار وإبادة للبشر والحيوان وانتهاك صريح لحقوق الإنسان من أجل فرض إرادتها السياسية دون أي وجه حق مع ما تدعيه من شرعية دولية زائفة؟.

 

 إن الغزوة الاستعمارية الجديدة التي تتخفى وراءها النزعة الإمبراطورية الأمريكية فرضت تحديات أشد بكثير من تلك التي أثارتها حروبا وغزوات سابقة عرفتها الأمة في تاريخها المعاصر. وبالتالي تستوجب هذه التحديات مقاومة ذات مسلكيات نوعية جديدة من قبل مختلف القوى التقدمية والوطنية في جميع الأقطار العربية، لأن المستهدف في هذه الحملة ليس قطرا بعينه أو جزءا من الوطن، وإنَما هو الأمة كلها. فهذه الحرب الجديدة تستهدف ضرب وحدة انتمائنا العربي والإسلامي وتفكيك نسيجنا الاجتماعي ومحو ذاكرتنا الحضارية وقيمنا الثقافية.

 

 ويمكن أن نخلص إلى الاتجاهات السلبية التالية:

1ـ الخارطة السياسيـــــة للثـــورة لم تعد تعبّـــر عن أهداف الثـــورة، أو عن القوى والشرائح الاجتماعيـــــة التي فجرتها. بل إن ّالساحة السياسية العربية اليوم، باتت تسيطر عليها القوى المضادة للثورة.

2ـ الإطاحة برؤساء بعض الأنظمة السياسية في بعض الأقطار العربية لم يؤد إلى الاستقرار السياسي والأمني. بل تفجرت الخلافات السياسية بين الأحزاب المواليــــة لهذه الأنظمــــة والحركات الداعمة للثـــورة. وهو ما أدى إلى تعميق المناخ الخلافي بينهما وهي إحدى عوامل الضعف في تحقيق أهداف الثورة وإحدى مداخل التدويل.

3ـ أدى انشغال القوى السياسية في الإعداد والتعبئة للمشاركة في الانتخابات التشريعية إلى إحداث فراغ سياسي ونضالي وميداني مكن القوى المناهضة للثورة من ملئه خاصة في ظل تصاعد الانقسامات والشللية الحزبية لدى المعارضة.

4ـ هيمنة التيار الإصلاحي على التيار الثوري وسيطرته الحالية على المشهد السياسي والإعلامي والدعم الذي وجده من قبل المؤسسة الأمنية والعسكرية والقضائية من أجل الالتفاف على أهداف الثورة الحقيقية.

 لهذا، فإنه من السذاجة العلمية ومن غير المعقولية السوسيولوجية أن تترك قوى الثورة طليقة دون أن تتدخل الدول الكبرى، بشكل مباشر وغير مباشر، وعبر مختلف الآليات والتأثير في مسار الحراك الثوري من اجل حماية مصالحها في المنطقة وخدمة لأهدافها الإستراتيجية.

 

2ـ آليات التدويل ( مصادر التدويل)

 

  نعتقد أنّ نجاح الثورة صعب ويحتاج إلى مواصلة النّضــال لأن هنــــاك شبكـــــة معقّدة من الاكراهــات أو الضغوطات des contraintes) ( الماليّة والعسكرية والاقتصادية التّي ستضاف إليها المقاومات المتوقّعة من مجموعات المصالح القديمة. فمن أجل منع هؤلاء القادمون الجدد (القوى السياسية التقدمية والأطراف الاجتماعية والمنظمات الحقوقية...( إلى السّاحات السياسية والاجتماعية والإعلامية..الخ من تحقيق أهداف الثورة، سوف تعتمد القوى الرجعية والدوليــــــة والاستعماريــــة في مقاومتها للتغيير العربي الحقيقي،  بشكل معلــــن أو خفي، كل آلياتهــــا ووسائلها الممكنــــة، عبــــــر " الشرعية الدولية" و "أنظمة التمويل والمساعدات المالية" و"الحملات الإعلامية...الخ من أجل ضمان هيمنتها من جديد على المشهد السياسي  للدّولة والمجتمع العربيين في المرحلة القادمة.

 

 نؤكّد في البداية، على أنّه من الصعب الإلمام في دراسة مقتضبة بمختلف أبعاد ظاهرة التدويل ومعرفــة آلياتهــا المعلنــــة والخفيــــة في مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما إن النظرة العابرة للأحداث العربية الرّاهنة ولدت أخطاء سياسية وإدراكيــــة وأدت إلى إنتاج أحكام خاطئة ومواقف ارتجالية وازدواجية أحيانــــا. في حين أن الفكر النقـــــدي يقتضي عــــــدم إصدار أحكامـــــا قطعية في مسائل ذات مسالك مختلفة وأبعاد تاريخية هامـــة. لكن البعد التآمري على الثورة العربية من الخارج اتخذ أشكالا متعددة ومصادره مختلفة.

أـ الحلف الأطلسي

 

 منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي تكثفت حملات التفكيك للوطن العربي والإسلامي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الاستعمارية. وقد كان أبرز متغير في هذه الأبعاد وفي مسرح ما يسمى بـ"الصراع الدولـــي" هــو إشــــراك " الحلف الأطلســي "الناتــو" في الغزوات خارج أراضيه. وقد قامت السياسة الواقعية الأمريكية بدور كبير في تحوير دور هذا الحلف ليتحول تدريجيا إلى القوة العسكرية الوحيدة لمشكلة الأمن العالمي، وأصبح القانون الدولي والأمم المتحدة وحتى مجلس الأمن مجرد مؤسسات عالمية وهمية.

 

 هذا التحول النوعي في مهام هذا الحلف وصلاحياته مثل نقطة فاصلة وسلبية ألقت بضلالها على الأمن والسلم الدوليين، وشرع لمنظومة شريعة الغاب الأمريكية من أجل الاستئثار بالهيمنة على العالم وقيادته. وتجل هذا التحول منذ حرب البلقان وأفغانستان والعراق وأفريقيا واليمن والصومال...الخ. ناهيك عن الوجود العسكري والأمني والتدريبي الدائم في الخليج وفي بعض الأقطار العربية الأخرى المتحالفة مع الغرب تحت يافطة الحرب على الإرهاب. ومن هنا انحرفت غايته الدفاعية التي تأسس من أجلها في 24 أفريل 1949 ليتحول إلى أداة تنفيذ مهام استراتيجية: عسكرية واقتصادية وسياسية واستعمارية منذ انهيار حلف وارسو. ومن ثم تمكن الحلف الأطلسي من التمرد على المنظومة الدولية خاصة في وثائقه التي حدد فيها مهامه في القمة الخمسينية عام 1999.

 

 

 فالتحرك الأمريكي والأطلسي ضد الأنظمة الوطنية العربية هو التطبيق المباشر لمقولات هيننجتون عن صدام الحضارات، سواء نطقت السياسات رسميا بذلك أم لم تنطق. فالمضمون هو المهم، ومضمون الغايات مكشوف مسبقا في وثيقة المهام الجديدة للحلف الأطلسي التي أشرنا إليها سابقا.

 

  إذ يسعى الحلف الأطلسي منذ التسعينيات، إلى تعديل ثوابت الشرعية الدولية، التي كانت تستند إلى النصوص الدولية وعبر منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. لكن يستهدف هذا الحلف تحميلها ما لا تحتمل أو تجاهلها أو انتهاك قراراتها بشكل صريح مثلما تم في حربه ضد أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003. أي كلما شعر بالتناقض بينه وبين قرارات "الشرعية الدولية" يعتمد عنصر القوة لفرض الإرادة السياسية دون حق مع تلك الشرعية، وأصبح هدفه الرئيس هو ضمان أكبر قدر من أشكال الهيمنة وترسيخها بالقوة في الخارطة العالمية في المستقبل.

 

 فالدَيمقراطية وحقوق الإنسان التَي شرَعت بها هذه الدَول تدخلها العسكري في المنطقة العربية والإسلامية لم تعد من بين انشغالاتها بقدر ما هي مشغولة ومهتمة بحماية الأنظمة العربية التَابعة لها والتي تحمي مصالحها. وعلى مدى العقود السَابقة من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعــــي والتخلف الاقتصــــادي في الوطــــن العربــــــي لم تتبع القــــوى الاستعماريــــة أيَة سياسة حقوقيــــة ولم تمــــارس أي نفوذ مــــادي أو معنوي من أجل حل هذه المشاكل أو البعض منها، بل كانـــت ومازالت تتخــــوف من إمكانية نجاح الشعب العربي في بناء نظامــــه الديمقراطـــي لأنهــــا تعرف أنهـــا ستكــــون الخاســـر الأول إذا ما تم ذلك فعلا.

 

 

ب ـ المؤسسات الإقليمية والدولية: <