في النقد الادبي

بقلم
بن هشّوم الغالي
أدب الغرب الإسلامي والتعالي المشرقي

 قرئ أدب الغرب الإسلامي  بعيون مشرقية وأخرى محلية، قراءة مختلفة منها من كان منصفا، وبعضها كان معتدلا، وأكثرها كان مغاليا وهكذا يمكن أن نختزل هذه القراءات في ثلاثة مواقف(1) :

(I) الموقف الأول 
يمثله غلاة الباحثين الذين ألصقوا التهم بأدب الغرب الإسلامي؛ وهكذا فقد اتهم شعراء هذا القطر بأن شعرهم أدخل إلى النظم ومتون العلوم والأراجيز التاريخية، والابتهالات والتوسلات منه في الشعر الخالص وأنه لم يصلح للاستشهاد أو التمثيل به في المؤلفات البلاغية والنقدية والشروح الأدبية والمختارات الشعرية(2) وأنه شعر علماء لا يخلو من رقة إبداع الشعراء، ظاهر التكلف لعنايته بالموضوع وحده، ولصبه حقائق التاريخ على طريقة المتون في المدائح السلطانية(3)، ثم إنه  شعر فقهاء، والإبداعية معطلة في قسم غير قليل من نماذجه، وبالجملة فهو صدى للتحولات الشعرية في المشرق بناء وإيقاعا(4). بل هو تقليد وصورة شوهاء للأدب المشرقي، لا يعبر عن بيئته ولا عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري، وهلم من التهم التي لا تستند إلى رؤى علمية، أو أحكام موضوعية، وقد عبر الباحث محمد مفتاح عن وجهة النظر هاته بأنها «مجردة ومتعالية عن الزمان والمكان والإنسان، ونتيجة لهذه الرؤية المتعالية، فإن الأدب المغربي لم يكن إلا صدى خافتا للآداب المشرقية، أو لم يكن إلا مجرد هوامش على نصوص مركزية، أو لم يكن إلا محاكاة ساذجة لتلك النصوص وأغلب الآراء المشرقية المهتمة بحضارة الغرب الإسلامي تسير في هذا الاتجاه كما أن آراء مغربية تقول الشيء نفسه بلغة مغايرة»(5).
وأصحاب هذا الموقف ينطلقون من ثنائية المركـز والمحيـط،  فالمشرق في نظرهم مركز الإرسال والتأثير والغرب الإسلامي مركز التلقي والتأثر، مما خلق عقدة لدى مفكري هذا القطر. 
ومن أقدم النصوص المشرقية التي تحاملت على ثقافة الغرب الإسلامي، ونفت جانب الإبداع عنها، نذكر على سبيل المثال لا الحصر رأي الرحالة المقدسي الذي عكس وجهة نظر المشارقة حول خصوصية ثقافة الغرب الإسلامي، هذا الغرب الذي لم يخرج على حد قوله ـ عالما مذكورا ولا زاهدا مشهورا إلا القليل(6). وتعاقبت آراء أخرى لدارسين مشارقة محدثين تسير في نفس الاتجاه، فالباحث عمر فروخ عندما كان يقارن بين الأدب المشرقي  وأدب الغرب الإسلامي على مستوى الأغراض والأسلوب أشار إلى أنه: « من الواضح الجلي أن الأدب المغربي ومعه ( أدب الأندلس أيضا) كان نازلا عن مستوى الأدب المشرقي في ناحيتين: في عمق التفكير، وفي متانة الأسلوب. ونحن لا نجد في الأدب الأندلسي كاتبا كالجاحظ ولا شاعرا كأبي العلاء المعري ( في سعة الميدان الذي وزع فيه جهودهما) وكذلك في الأسلوب، لا نرى في تلك المتانة التي نعرفها للفرزدق أو لجرير مع العذوبة، أولا نرى مثل أسلوب المتنبي والشريف الرضي، وذلك لبعد المغرب ( الإفريقي) والأندلس (في المكان والزمان ) عن بيئة اللسان العربي الأول. ولا شك أن المغاربة كانوا دائما أكثر عناية بتاريخ المشرق وأدبه من المشارقة بتاريخ المغرب وأدبه» (7). فهذا الرأي يذهب نحو تفضيل أدباء المشارقة على أدباء الغرب الإسلامي وهو تفضيل غير منطقي، إذ أن النبوغ والإبداع ليس حكرا على المشارقة دون غيرهم، بل هو موهبة مشتركة بين الناس في جميع الأقطار ذلك أن الله « لم يقصر العلم و الشعر والبلاغة على زمن دون زمن، وخص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر»(8)، وإذا أمكن لهؤلاء أن يتحدثوا عن نوابغ المشرق أمثال: الجاحظ وأبي نواس والمتنبي والمعري وغيرهم ـ ولا أحد يشك في فحولة هؤلاء، ولا أحد يجادل في عدم تكرار مثل هذه النماذج حتى في المشرق نفسه ـ فإنه وجد  في الغرب الإسلامي من لهم القدح المعلى في هذا الميدان، من أمثال ابن هانئ وابن زيدون وابن عبد ربه  ولسان الدين بن الخطيب وابن رشيق القيرواني، وحازم القرطاجني  وابن شرف القيرواني والجراوي والهوزالي والفشتالي وغيرهم، فأدبية هؤلاء لا تقل عن أولائك. ونلمس الرأي ذاته بحدة لدى شوقي ضيف الذي نفى كل إبداع وأصالة عن أدب الغرب الإسلامي إذ يقول: « والحق أن تأثر الأدب العربي بالأقاليم، كان ضئيلا بالرغم من اختلاف هذه الأقاليم وتباينها في الخصائص الجغرافية والمميزات الجنسية والعقلية والشعورية، لأن الأدباء كانوا يخرجون عن حياتهم في أقاليمهم إلى حياة عامة في الأدب العربي يعيشون فيها على تقليد المثل الأدبية التي خلفها العباسيون؛ فالأديب حين كان يحاول أن يكتب أو ينظم يريد أن يكون مثل الأدباء العباسيين؛ فهو يكتب نثرا كنثر ابن المقفع أو الجاحظ أو ابن العميد ،وهو ينظم شعرا كشعر البحتري  أو أبي تمام أو ابن المعتز أو المتنبي، فقد جمد شعراء الأقاليم عند الأزياء الفنية القديمة التي نسجها البحتري وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء»(9).
ومثل هذه الأحكام المتحاملة على أدب الغرب الإسلامي كثيرة جدا(10)، ويلاحظ عليها كونها تتصف بالتعميمية والإبهام، وربما استنطاق النصوص كفيل بإزالة مثل هذه الأحكام، فلا أحد يشك في تأثر شعرائنا بالشعراء الفحول، ولكنه تأثر لا تفقد معه الشخصية المتأثرة هويتها وخصوصيتها. 
وأمام نظرة الاستعلاء هاته تجاه ثقافة الغرب الإسلامي، تصدى العديد من الباحثين لها، وعلى رأسهم الباحث عبد الملك المرتاض الذي ألف كتابا في الموضوع « الجدل الثقافي بين المشرق والمغرب» فعبر عن امتعاضه وعتابه للمشارقة « فالإخوة في المشرق العربي مضى عليهم زمن كانوا يهملون فيه أدب المغاربة إهمالا يكاد يكون كاملا، وذلك هو الذي حز في نفسي وجعلني أحاول أن أثير الحديث حول هذه المسألة كما ذكرت بتفصيل في كتابي « الجدل الثقافي» [...] والظاهرة التي أثارت انتباهي حقا هي أن الإخوة في المشرق العربي كثيرا ما ينظرون إلى كتاباتنا في المغرب العربي كأنها غير راشدة تحتاج إلى تعهد» (11).
نفس النبرة حركت حساسية الناقدان ابن رشيق القيرواني صاحب « العمدة» وحازم القرطاجني في « منهاج البلاغاء وسيراج الأدباء»  اللذان بارزا المشارقة في مجال النقد الأدبي وتفوقا على كثير منهم في هذا الجانب، كذلك الشأن بالنسبة للباحث عبد الله كنون، الذي امتعض من التعالي المشرقي مما دفع به إلى تأليف كتابه الرائع: «النبوغ المغربي» نافيا بذلك قانون التبعية والتقليد، ومعرفا بالأدب المغربي في المشرق ومدللا للمشارقة على فضل المغاربة ونبوغهم، في مجال الإبداع الأدبي، وكثيرة هي المؤلفات التي ردت على هذه المزاعم وما تنطوي عليها من خلفيات إيديولوجية وذاتية لا تمت بصلة إلى واقع أدبنا وأصالته.
(II) الموقف الثاني 
إذا كان الموقف الأول قد جانب الحقيقة والصواب، فإنه في المقابل ظهر موقف نقيض له، سعى نحو تأكيد الخصوصية والتفرد، أي التأسيس لثقافة مغاربية متجذرة تتجه نحو التعبير عن نفسها، وترفض الإتباع والتقليد، ويأتي الباحث عباس الجراري على رأس هذا الموقف من خلال تبنيه «للنظرية الإقليمية» التي تعتمد البيئة ومقوماتها ومؤثراتها أساسا للدراسة، وهو ما عبر عنه بقوله: « وأما الإطار فيتمثل في الإقليمية التي تعتمد البيئة ومقوماتها ومؤثراتها أساسا للدراسة. وأؤكد أنني حين أقول الإقليمية وتأثير البيئة في الأديب، لا أنسى الشخصية الذاتية والموهبة الفردية، ولا أعني تضييق الأفق والانحصار في إطار المحلية، ولكني أعتبرها الوسيلة الوحيدة للم شـتات الأدب العربي في كـل الاقـطار التي أبدعتـه، والوسيـلة كذلك للـعالمية والإنسانية» (12) وتبني مثل هذه النظرية سعي من الباحث لإعطاء رؤية متكاملة عن الأدب في كل قطر من الأقطار. كما اتجه البعض إلى البحث عن خصوصية أدب الغرب الإسلامي  في أنماط مبتكرة، كالموشحات والملحون والزجل، وفي الأدب الشفهي(13)، وفي المؤثرات الاجتماعية والثقافية والسياسية وفي روحه ومواجهته للغرب.
(III) الموقف الثالث 
أصحاب هذا الموقف يقولون بوجود أدب عربي في الغرب الإسلامي لا يقل روعة وحيوية من صنوه المشرقي، بل ثمة خصائص مشتركة بين أدبين يتبادلان التأثير والتأثر في إطار تواصلي بدأ في العصور الأولى، وما زال مستمرا حتى الآن، ذلك إنه بالقدر الذي كانت تغزو فيه الثقافة المشرقية بلاد المغرب الإسلامي، وهو ما يسجل من خلال كثرة الدواوين الشعرية والمؤلفات المختلفة، كان غزو مماثل في الاتجاه المعاكس وبشكل أعمق، ولعل تأثير فلسفات كل من ابن رشد وابن طيفيل وابن عربي وابن حزم وابن خلدون أمر جلي لا يحتاج إلـى برهـان، فـالمسألة لم تكن مسألة تقابل ثنائي بين جسمين منفصلين بل كانت دورة واحدة متكاملة بحيث تنشأ بذرة الإبداع في المشرق لتنضج وتزدهر في المغرب، وهكذا فموسيقى زرياب تسافر من بغداد لتحط الرحال في قرطبة وتدخل في صلب الموسيقى الأندلسية، وموقف الغزالي من الفلاسفة في « التهافت» نمت تلك العلاقة الجدلية الإبداعية لدى ابن رشد في « تهافت التهافت»، وكم من متصوفة وزهاد ساروا على درب ابن عربي وكم من مفكرين مشارقة ساروا واحتفوا بابن خلدون (14) . وبحازم القرطاجني وغيرهم كثير، في إطار التواصل المستمر بين البلدين، وبذلك  أصبح الغرب الإسلامي في هذا يمثل مركز الإرسال والتأثير في وقت كان فيه متلقيا ومتأثرا. 
هكذا إذن كانت الطريقة التي قومت بها العلاقة بين المشرق والمغرب انطلاقا من المواقف الثلاثة المختلفة. وواقع الأمر ينبغي لها أن تكون جدلية تتسم بتبادل التأثير والتأثر وفق تفاعل فكري، ديني وفلسفي وثقافي متميز، دون أن يصطبغ ذلك بميل مشرقي أو هوى مغاربي أو عقدة تجاهل أو تعال، لأن ما يجمع بين الثقافتين من خصائص متشابهة أكثر ما يفرق بينهما،(15). وبناء عليه ينبغي الإقرار بحقيقة مفادها أن الفكر العربي، يمثل وحدة في الممارسة والمنطلق، ولا مجال للفصل بين المشرق والغرب الإسلامي، إلا من باب التعسف، ذلك أن مثل هذا الفصل لا يستقيم حضاريا ولا دينيا ولا لغويا، مادامت روافد اللغة والإنجاز الحضاري مشتركة بين شقي العالم الإسلامي (16)، ومادامت وحدة التاريخ والأهداف والمنطلقات مشتركة. 
الهوامش
(1) استعنا في هذا التقسيم بعمل الباحث محمد مفتاح في كتابـــه:  « التشابه والاختلاف نحو منهاجية شمولية»  المركز الثقافي العربي ط 1 سنة 1996 ص 157 وما بعدها. 
(2) الشعر المغربي،  عبد السلام شقورص19-20.
(3) القصيدة المادحة دعز الدين السلاوي  ص 29  . 
(4) في بلاغة القصيدة المغربية، مصطفى الشليح، ص: 13-14-417
(5) التشابه والاختلاف، ص:  157.
(6) « حسن التقاسيم ومعرفة الاقاليم» المقدسي، ط2، نشرة خوجة مكتبة خياط، ، بيروت 1906. ص 212. ينظر في الموضوع:  ثقافة الغرب الإسلامي بين إشكالية التحقيب والخصوصية والقطيعة، عبد المجيد الصغير:  130، وما بعدها. 
(7) تاريخ  الأدب العربي، عمر فروخ، ، الجزء الرابع، الأدب في المغرب والأندلس أواخر عصر ملوك   الطوائف،  ط1دار العلم للملايين،  بيروت 1981 م. 
(8) الشعر والشعراء، ابن قتيبة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، ط2، دار الحديت القاهرة 1998، ج1/62-63.
(9) الفن ومذاهبه، شوقــــي ضيف، ط9 دار المعارف مصـــــر،(ب ت)، ص 255 و 412-431 .
(10) للتوسع أكثر ينظر ( بلاغة القصيدة في الأندلس ) أحمد ضيف ص:  35 وما بعدهـــــــــــا، ( ظهر الإسلام) أحمد أميــن، ج 3 ( العرب والفكر التاريخي ) عبد الله العـروي، (الأدب الأندلسي التطور والتجديد ) عبد المنعم خفاجة ص ( 310 ـ 330 ). ( تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين) إحسان عباس، ( الأدب الأندلسي ) عبد الله عنان. 
(11) «الجدل الثقافي بين المشرق والمغرب ، عبد الملك المرتاض ، ط1،  دار الحداثة، بيروت 1982 ص 18. 
(12) الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، ص:  8.
(13)، ينظر في الموضوع :  موشحات مغربية، الإبداع الشعبي، الزجل في المغرب،  عباس الجراري .
(14) الحساسية المغربية والثقافة المشرقية، محمد جابر الأنصاري، ص:  51.
(15)  تاريخ النقد الأدبي في الأندلس، رضوان الداية، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان 1993، ص 66.
(16) سؤال الحداثة في الشعرية العربية القديمة، محمد أديوان، ص 115