مقامات

بقلم
علي الطرهوني
المقامة الثورية

 حدّثني بعض الثقاة ممّن أثق بهم من الموالين عن رجل قصير قريب من الأرض بعيد عن السّماء مستكرش ورجلاه في الماء أنّه كان يقتعد عتبة أحد المخازن على ملكه والمسبحة في يده وهو يتزعّم فريقا يتقن المبايعة والتصفيق المجاني والثناء فيوزّع عطاياه لهذا المجلس أو ذاك ويقدّم فروض الطاعة والولاء فهو من محترفي الخطابة ونهج البلغاء. لقد نزع من الجدار ذلك الإطار الذي يوشّح بهم مخزنه في البيع بالجملة والذي ارتسمت فيه صورة «حامي الحمى والدين» والذي صفقت له الملايين بلوحة موشّاة بأحرف غليظة كتب فوقها « إن ينصركم الله فلا غالب لكم ». يقول صاحبي : أنا واحد من الذين أغدق عليهم صاحبنا من بركاته لأنفذ طلباته التي حفظتها عن ظهر قلب، وهو صاحب المقولة الشهيرة «تونس بلد الأمن والأمان». ردّدت في نفسي : أمّا الأمن فقد خبرناه في أحداث الشعانبي وأمّا الأمان فلتونس ربّ يحميها.

رجلنا هذا لا يتردّد عن دعم الجمعيات الخيرية فهو يحثّ على الإحسان وفعل الخير ويموّل بعض صحف العار كما يدافع بشراسة عن الجمعية الوطنية النقابية ضدّ بقايا الدكتاتورية التي كان أحد المناشدين لها ذات خريف نوفمبري. إنّه كالحيّة التي تبدّل جلدها، أصبح اليوم مناضلا في الصفوف الأمامية ضدّ المرتزقة من فلول العلمانية كل ذلك يتمّ باسم الشرعية الثورية والشفافية الحزبية.
يقول صديقنا الثوري جدّا : لقد مررت ذات يوم بشارع الثورة، فرأيت يافطات وأهازيج وخيام تبثّ الأغاني الثورية، فقلت في نفسي : لمَ لا أندسّ في كلّ حلقة صائحا «اعتصام، اعتصام حتى يسقط النظام» ثم أعود في نهاية النهار يعد أن أستوفي الفرض وأجوب الاعتصام بالطول والعرض إلى تلك الخمّارة أسعى حثيثا لأخطب في جموع السّكارى وقد ثملوا حتى حسبوا الديك حمارا صائحا : «خمر، خمر حتى تنتهي أيام الجمر».
فمن سيضمن لي خلاص الجلسة إذا دارت الأقداح وتلاقت الأرواح ووصالهم ريحانها والراح. فهؤلاء الرّجعيّون مصرّون على المحاسبة ! قال أحد المخمورين : «سمعت أنّ جماعة اللّحي سيمنعون الخمر !» «ما العمل إذن يا صاحبي ؟».
أجاب صاحبنا إجابة حاسمة : «هوّن عليك الأمر، يستحيل ذلك. إنّ المداخيل تبيح المحظورات. فإيّاك أن ترتدّ عن مذهب أصحابك، غيّر موقعك واقتد بشيخنا الموقر. هل تريد أن أساعدك ؟ أنا أعرف حمّاما يغيّر حتى الألوان ويجعل الشاب جميلا أو قريبا من الجمال. فما رأيك في الاغتسال ؟ إيّاك أن تسكن الجبال بل اترك المعاصي والضلال حتى تجتنب الأهوال وتبعد عنك الشبهة والسّؤال !».
نصيحتي لك : احمل شعارك الأزرق واسمع الدّيك بمئذنة يصيح قم حيّي على الفلاح، فاعلم أنّه قد حان وقت الصلاة وستنطلق مع شيخنا الجليل في قافلة خيريّة لدعم المناطق المنسية ونملأ الصناديق فنوزّعها بالعدل والإنصاف. بركاتك أيّتها الثورة. وقبل أن أغادرك، فكّر في الأمر حتى لا يفوتك الأجر وإذا وافقت هاتفني قبل صلاة الشفع والوتر.
تركني صاحبي مذهولا وأنا أفكّر في كلّ ما قاله «أليس ما يقوله السّكارى هو نصف الحقيقة بل عين الصّواب !». وتذكّرت لتوّي كلام فيلسوف الجنون في هكذا تكلم زرادشت : «انظروا كيف يتسلقون الواحد فوق الآخر ويدفعون بعضهم بعضا متمرّغين في الأوحال والحفر، جميعهم يريدون الوصول إلى العرش. ذلك هو حمقهم كما لو أنّ السّعادة جالسة على العرش بل الأوحال هي التي غاليا ما تكون متربّعة على العرش وغالبا ما يكون العرش فوق الأوحال».
غادرني صاحبي الثوري بعد أن أسّر في أذني ببعض الوصايا : «آن الأوان لتقتنع يا صديقي بضرورة تغيير الأصنام القديمة بأصنام أخرى جديدة في لحظة ثورية فارقة فالمشهد لا يحتمل التأجيل ولعلّ الانضمام معي إلى حزب جديد سيغيّر من الأمر كثيرا أو قليلا فلنحافظ على امتيازاتنا، ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل...».
سلامي للرّفيق وللطريق وللصّفيق.
تعقيب :
أنا الممضي أسفله، أشهد وأنا بكامل مداركي العقلية أنّ المقولة الصحيحة أصبحت اليوم : «من لم يتحزّب فقد خان». لذا، باسم الخيانة أوقّع على وثيقة انضمامي لحزب جديد من فصيلة الأحمرة والمناشدين.
كما أطلب منكم باسم الدين قبول عضويتي والالتزام بتحقيق أهداف الثورة.
ومن الثـورة مـا ينـالك نفعـه ***ومن البلاهـة ما يضـرّ ويـؤلـم