مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
التحديات التنموية - الفقر في تونس

 لا تزال الثورة في بلدنا تراوح مكانها السياسي دون أن تتخطاه إلى بعدها الاجتماعي الذي كانت تحدياته التنموية من فقر وبطالة وتفاوت جهوي محركها الأساس ويبقى الشروع في رفعها تدريجيا مؤشرا لانعطاف  الثورة نحو تحقيق أهدافها الإستراتيجية.

وان كان كل من جون جاك روسو وماركس اعتبرا أن الوعي بالشيء شرط إحداث تغييره إلا أن القرآن الكريم يؤكد على أن ذلك غير كاف بل الأهم هو منهج التغيير. 
لكن الحديث عن الأهم يستوجب التمهيد له بعمق الإلمام بالمهم لذلك كان لابد من الانطلاق من تشخيص واقع الفقر في مجتمعنا لما لهذا التشخيص من أهمية بالغة وذلك لاعتبارات عديدة و متنوعة نذكر من بينها:
(*) أن المعرفة الدقيقة لدائرة الفقر في بلدنا تنبع من الحاجة الحيوية لصناع القرار إلى فهم عميق لتطور الظاهرة عبر الزمن وعلى المستوى الجغرافي وصولا إلى معرفة اشمل لأثر مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجت سابقا على مستوى عيش الأقل حظا وذلك للتفاعل الايجابي والبناء سياسيا و إجرائيا مع الحالة بما يوفر الأمن الغذائي باعتباره أول شرط لإيمان الناس بأهلية الحاكم ومن ثمة وجوب طاعته.
(*) إن قيس الفقر على المستوى الجهوي يمكن من حسن تحديد أولويات التنمية الجهوية للحيلولة دون أن يتحول الإحساس بالظلم الناتج عن التفاوت الكبير لنسب الفقر بين الجهات إلى سلوكيات من شانها أن تؤثر سلبا على الاستقرار الاجتماعي وما له من حساسية بالغة خاصة في المرحلة السياسية التي تعيشها البلاد.
(*) إن إدراك حجم الظاهرة يوفر مقياسا لمدى أهلية المنوال التنموي المتبع ونصيب البعدين الاجتماعي والإنساني فيه.
(*) إن تشخيص واقع الفقر في بلدنا يمكن من معرفة الأسر التي هي في حالة فقر انتقالي نحو عتبة الفقر وتلك التي هي في حالة فقر مدقع ولم تقدر على التخلص منه.
(*) إن الإلمام بالوضع الاجتماعي لكل الأسر من شانه أن يمكن من الوقوف عند حقيقة الحالة ويساعد بالتالي على تحديد المسارات المطلوب إتباعها خاصة بعد معرفة مدى فاعلية المنظومة المالية وكذلك مدى نجاح السياسات المالية المقررة لمواجهة الظاهرة ومدى الحاجة أيضا إلى آليات تمويل جديدة .
(*) إن التقليص من التفاوت الجهوي ومقاومة الفقر شكلتا أولويات على مستوى الشعارات بالنسبة للحكومات المتعاقبة بعد ثورة 14 جانفي في سياق عالمي يبحث عن تحقيق الهدف التنموي الأول الذي وضعه برنامج الأمم المتحدة للتنمية منذ سنة 2000 والمتمثل في مواجهة الفقر، إلا أن هاته الأولويات لم ترتقي بعد إلى مستوى الاهتمام الوطني الجامع كما أن السياق الاقتصادي و السياسي العالمي الملائم والذي كان مشجعا سنة 2000 لم يعد موجودا.                  
(1)  تشخيص واقع الفقر في تونس
   في تقرير للمعهد العالي للإحصاء تحت عنوان « قيس الفقر والتفاوت والاستقطاب في تونس 2000-2010» والصادر في أكتوبر 2012 والذي يمثل أول منتج لمشروع « تقوية القدرات الإحصائية» للمعهد السالف الذكر على مستوى قيس الفقر وتحليله، نجد عرضا للملامح العامة للفقر مع تسليط الضوء على اتجاهاته الكبرى ومظاهره الجلية في تونس - عرضا - نحسب انه جدير بالاعتماد في تشخيصنا لواقع الفقر ببلدنا نظرا لأنه يمثل إفرازا لتعاون وثيق بين خبراء تونسيين وآخرين من البنك الإفريقي للتنمية و البنك العالمي.
و في هذا التقرير نقرأ أن المعهد أسس في نهاية 2011 نظرة جديدة متكاملة وقام بتحيين منهجية قيس الفقر بالتعاون مع البنك الإفريقي للتنمية والبنك العالمي وبالتشاور مع خبراء جامعيين تونسيين وممثلين عن الحكومة وعن منظمات غير حكومية.
كما أجرى فريق من الخبراء في المعهد اختبارا للمعطيات الواردة في تقارير حول العائلات سنوات 2000 – 2005 – 2010 وسجل أن المنهجية السابقة من وجهة نظر تقنية كانت متينة وقياسات الفقر السابقة كانت صائبة على مستوى التقديرات، إلا أن القراءات التسويقية التي انتهجها النظام المخلوع واعتماده على أرقام وتعمّد تغييب أرقام أخرى، ألقى بغيوم من الشك على سلامة الإحصائيات التي يقوم بها المعهد الأعلى للإحصاء ودرجة مصداقيتها. كما توصل المعهد إلى العديد من التطويرات على مستوى المنهجية بغاية الوصول إلى نتائج جيدة ومطابقة للممارسات العالمية.
وقد أدت أعماله إلى تقدير نسبة الفقر على المستوى الوطني ب 15.5 % سنة 2010 مقابل 23.3 % سنة 2005 و 32.4 % سنة 2000  و بتتبع تطور المعدل الوطني لمؤشر الفقر في تونس بين سنتي 2000 و2010 نلاحظ انه عرف تراجعا ملحوظا ولعل نمو الاستهلاك لدى الشعب التونسي يفسر هذا الاتجاه إلا أن هذا المنحى لم يترجم بتراجع الهوة بين الأماكن البلدية و تلك الغير بلدية ولا بتقلص التفاوت بين جهات الشمال وجهات الجنوب من جهة و لا أيضا بين الجهات الساحلية و الأخرى الداخلية فالتراجع الملاحظ على المستوى الوطني لم تستفد منه مناطق الوسط الغربي و لا الجنوب الغربي بل على العكس تماما حيث أن الهوة بينهما وبين بقية البلاد تعمقت طيلة العشرية السابقة.
ففي جهات الشمال الغربي وخاصة الوسط الغربي سجلت نسب الفقر ارتفاعا متواصلا وتجاوزت كثيرا المعدل الوطني كما تأخرت هذه الجهات عن بقية الجهات الأخرى من سنة 2000  إلى سنة  2010 عوضا عن تحقيق العكس مما شكل خطرا حقيقيا ترجمه المحرومون بثورة انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 ولم تضع بعد أوزارها رغم مكسب الحرية الذي أصبح الجميع يتمتع به دون أن يستفيدوا منه لإحداث ثروة تبدد شبح الفقر المخيم على كثير من جهات البلاد  .
وقد اعتبرت الأسرة فقيرة حين يكون استهلاكها تحت سقف الفقر المحدد للفرد سنويا بـ 1277 دينارا في المدن الكبرى و 820 دينارا في غيرها من الأماكن.
كما حددت نسبة الفقر الأقصى بـ 4.6 % سنة 2010 مقابل 7.6% سنة 2005 و 12% سنة 2000.
وقد وضع سقف للفقر الأقصى ب 757 دينار في السنة في المدن الكبرى مقابل 571 دينار بالنسبة لبقية الأماكن.
   أما عن الفئة التي تكون عرضة أكثر من غيرها للفقر فإنها حسب المعهد الأعلى للإحصاء الأسر التي يكون عائلها في حالة بطالة أو/ و أقل مستوى تعليمي أضف إلى ذلك أن نسب الفقر في المناطق الريفية أعلى من تلك الموجودة في المدن الكبرى.                             
(2)  تشخيص واقع التفاوت في تونس
 يتراوح مؤشر «جيني» المعتمد على المستوى الدولي لقيس التفاوت بين مستويات العيش لمجتمع ما  بين صفر(0) في حالة المساواة التامة وواحد(1) في حالة اللامساواة المطلقة وبالاعتماد عليه لاحظ التقرير تراجعـــا طفيفا للتفاوت على المستوى الوطنـــي اذ سجل  مؤشـــر « جيني» انخفاضـــا طفيفـــــا من 34.4 % سنــــة 2000 إلى 32.7 % سنة 2010  و الذي فسره  بتراجع التفاوت داخل الجهات مــــن 23 % سنــــة 2000 إلى 20.1 % سنــــة 2010 وليس بالتفــاوت بين الجهـات الذي سجـــل ارتفاعـا مـــن 11.4 % سنـــة 2000 إلى 12.6 % سنة 2012. كما سجـــل الاستقطاب تزايــدا من 49.9 % سنة 2000 إلى 62.5 % سنة 2010 مما يعمق الشعور بالغبن والإحســـاس بالاستلاب لدى المواطنين الأقل حظوة واهتماما طيلة العشرية السابقة.
(3)  الخاتمة
إن الوعي بحالة الفقر والتفاوت التي تعاني منها فئات عريضة من مجتمعنا يمثل جانبا مهما في عملية التغيير، غير أن الأهم يبقى  إختيار المنهج المناسب للتغيير والذي بامكانه أن يؤدي إلى تحقيق ما يصبو إليه الجميع من تنمية شاملة تزيل الفوارق بين التونسيين وتحدّ من ظاهرة الفقر والتهميش. وإذا بان للعيان محدودية المناهج المتبعة محليا إلى حدّ الآن لمواجهة ظاهرة الفقر، وفشل السياسات التنموية الحالية على المستوى العالمي والتي أصبحت موضع تساؤل بسبب مجموعة من المشاكل المتفاقمة نتيجة أزمات الغذاء والمناخ وأزمات الطاقة والمالية المعاصرة. فإنه حريّ بنا الإتجاه إلى رسم ملامح منهج التغيير الذي رسمه القران الكريم واعتماده في البحث عن حلول للتحديات التنموية التي تعترض ثورتنا وهو ما سنحاول التعمق فيه في مقالات لاحقة إن شاء الله.