تجليات

بقلم
عادل دمّق
السنن الإلاهية لا مكر التاريخ

 وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 54 - سورة الانفال )

« وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» أي ومكر أولئك الذين أحس عيسى منهم الكفر به ، فحاولوا قتله وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيه ، وعبر عن ذلك بالمكر على طريق المشاكلة الفظية والمكر في الأصل : التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب ، ولما كان الغالب أن يكون ذلك في السوء لأن من يدبر للإنسان ما يسره وينفعه لا يكاد يحتاج إلى إخفاء تدبيره ، غلب استعمال المكر في التدبير السيئ وإن كان في المكر الحسن والسيئ جميعا. قال الله تعالى : «اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ»(1) ووجه الحاجة إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبر له من الخير أفسد على الفاعل تدبيره لجهله فيحتاج مربيه أو متولي شؤونه إلى أن يحتال عليه ويمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول، إذ يوجد في الماكرين الأشرار والأخيار والله خير الماكرين فإن تدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه وإتمام حكمه ، وكلها خير في نفسها وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم . 
المكر وجه من وجه السنن الإلاهية « يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (2)
إلا أن «هيغل» انخدع فأخذ بالمكر معزولا عن سوره -
« إن التاريخ عند «هيغل» يحقق فكرة المطلق في الزمان كما تحققها الطبيعة في المكان. بل إن التاريخ ليس قطّ تقدما خطيّا لإنسانية ما فتئت تسعد وترضى عن مصيرها. ذلك أن «هيغل» قد تجاوز بكثير التصور المبسط الذي أشاعته فلسفة الأنوار عن التقدم. هذا التقدم الذي كان قد انغمس في براءة هذه الصيرورة التي سيتحدث عنها «نيتشه»، والفكرة المطلقة، التي تظهر في التاريخ ليست تحققا بسيطا لإنسانية حكيمة وراضية. إن اللوحة التي يقدمها لنا تأمل التاريخ الكلي أبعد من أن تكون سارة من وجهة نظر الإنسان وحده، أما النزعة التفاؤلية للايبنتز فقد تمّ إبطالها: «ومن دون أي مبالغة خطابية، يمكن تضخيم هذه النتائج حتى اللوحة الأكثر هوة لا فقط بتقريب دقيق لكل الخسائر التي تكبدها أفضل ما حصل ثمة من صنيع الشعوب، ومن طبائع وفضائل خصوصية، وأيضا بدافع التأثر حتى الألم الأعمق والأكثر إرباكا وحيرة، حيث لا يمكن لأي نتيجة مسكنة أن تعادله». ومع ذلك فهيغل لا يثبت شيئا آخر غير كون التاريخ صيرورة للعقل المطلق، للحرية الحقيقية للروح. ولكن هذا العقل ليس هو العقل المجرد للفرد، فهو لا يطابق الآراء الفردية ولا صيغ التروي للأنماط الفردية للوعي بالذات. ذلك أن هذه الأنماط ما هي إلا لحظات التاريخ؛ ودون أن تشاء ذلك دائما، هي في خدمة ما يتجاوزها. فليست هي التي تقرر في معنى التاريخ أو قدره ولو أنها تحققت هذا المعنى. هذا المعنى هو الفكرة المطلقة، وهذه الفكرة موضوعية بقدر ما هي ذاتية. إنما جوهر التاريخ الكلي، ومع ذلك فهي لا نوجد إلا من خلال أنماط الوعي الفردية التي تصبح إذن أدوات في متناول الفكرة
ها هنا يتجلى غموض الهيجلية. فهل هذه الفكرة، التي هي محايثة للتاريخ فعلا كما أنها محايثة، وفي مقام أدنى للطبيعة، هي غاية التاريخ حيث يتحقق الإنسان أم هي اللوغوس الذي فيه الإنسان مجرد حامل أو حارس، وهو ما يعبر عنه بتيه التاريخ وضلاله؟
الفرضية الأولى التي ستدفعها الماركسية إلى حدها الأقصى، سبق لهيجل أن افترضها، على اعتبار أن هذه الفكرة تتجلى كإرادة كليلة للدولة، للدولة التي تنهي التاريخ أو ستنهيه.يظهر هيغل في البداية أن تحقق فكرة المطلق في التاريخ إنما يمر عبر تفاعل أنماط الوعي، وهذه الأخيرة تلعب دورها فوق مسرح التاريخ، ومن ثم فهي ليست جامدة؛ إذ لا شيء أغرب عند هيغل من إقامة فصل بين الفكرة المطلقة وتجليها. ذلك أن ما ينبغي أن يفهم هو وحدتهما لا ثنائية الماهية والتجلي.إن أبطال التاريخ انفعاليون: «فلا شيء عظيم يحدث دونما انفعال»، لهؤلاء مشروعهم الخاص المكتنز بالمعنى ولو أنه ليس بالمعنى الأخير. هكذا أمكن لهيغل أن يتكلم عن مكر للعقل في التاريخ كما تم الكلام عن التدابير الخفية للعناية الإلهية بتسخير رجال العهد القديم وطموحاتهم فوق الأرض لكي يجسدوا مسبقا ودون علم منهم قدوم المسيح ودعوته. بيد أن هيغل يعلمن هذا التصور للعناية الإلهية، ومن ثم يتجاوز كل رؤية أخلاقية للعالم.
وعن خطأ نلقي باللائمة على كبار الشخصيات، متهمينهم بالسعي وراء مصالحهم الشخصية فقط، وخصوصا بكونهم مدفوعين بالطموح وحب الانتظار. إننا نرى دائما أن هناك مصلحة ما في أعمالهم: «بيد أن من ينذر عمله لشأن واحد لا ينتفع به لوحده، بل يكون هو أيضا موضع انتفاع». إن الفائدة موضوعية، فهي فائدتنا نحن (وهذا وجه ذاتي لا يمكن نقصانه)، وفائدة الشأن ذاته. يفترض العمل مجاوزة للثنائية الانعكاسية، فهو منة وإهمال، ضياع للذات يقرب أن يكون ضياعا كاملا في هذا الشأن الذي أفضى به الأمر إلى أن يكون «شأن الجميع وشأن كل واحد على حدة»، أن يكون كليا متعينا، وبما أن هناك دائما وبالقوة انعكاس ذاتي، فإننا نستطيع أن نظهر إظهارا خاطئا عمل كبار الرجال إذ نحاكمهم «من وجهة نظر خادم البيت». إنه حكم الهوى الذي يسعى جاهدا إلى التنقيص دائما من عمل العظماء من الرجال ورده إلى مستواه الخاص. والحق أن هؤلاء قد انتهوا إلى فعل ما أرادوا وإرادة ما فعلوا. أو على الأقل إن مجرى العالم الذي لا يتعرفون فيه إطلاقا على مشروعهم، إنما هو إرادتهم وقد صارت موضوعية. «بيد أن الفرد وقد انصرف عن ذاته أيضا، يتخلص من الفردية وينمو من أجل الذات كذات كلية. إن الفرد الذي يريد أن يعرف الكلية، فقط في هيئة وجوده المباشر من أجل الذات، لا يعترف به إذن داخل هذه الكلية في الحالة الاختيارية، ولو أنه في الوقت ذاته، منتسب على أي حال إلى هذه الكلية، لأنها عمليته.(3)
«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» (4)
السنة هي القانون المطرد الذي يقتضي أن توقَع النتيجة المعينة على شيء كلما وقع نظير هذا الشيء ..ولولا صحة ذلك لما صحّ الأمر بالاعتبار : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين *هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (5) فالجهل بسنن الله يفضي بالناس ولو كانت منسوبة للعلم أن تبعد النجاعة في فهم مقاصد الشرع نفسها، وفهم حركة التاريخ ، والوقوف على حكمة الشارع سبحانه وتعالى ..إلخ 
سنن الله في النصر والهزيمة في التمكين والاستخلاف في الابتلاء والعقوبة في التدافع بين الحق والباطل في الوصول للهدى لمن سلك سبله..إلخ ، فتكون مطردة على نظام كلما حقت الشروط وقع مقتضى السنة ..من وجه الدلالة على صحة الإسلام أن متعلق السنن الإلهية هو الأمور الشرعية لا الفيزيائية فهذه الثانية قابلة للتبدل ..وهذا هو السر في كون السنة الإلهية في آيات القرآن العظيم وقعت قرينة الأمور الدينية ..عبقري الإسلام ابن تيمية لحظ هذا المعنى الدقيق فقال : (وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية ) ، وهذا يدلك أن الإنسان وهو لبنة في بنيان الأمة ، ليس مادة مجردة ..وإلا لجرى عليه ما يجري على الكونيات سواء بسواء (6)
«وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(7)، «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ»(8)، « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ»(9)، «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (10) ، «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (11)  ، «أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ» (12)، «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ»(13)، «فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ»(14) ، «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»(15)، «وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلً* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا» (16)...إلخ
هوامش
(1)  سورة فاطر الآية 43
(2) سورة النساء الآية 26
(3) مكر العقل والتاريخ عند هيغل - جان هيبوليت ترجمة فؤاد بن أحمد
(4)  سورة آل عمران الآية 137
(5)  سورة آل عمران الآيتين 137 و 138
(6)  دلالة السنن الإلهية على وجود الله وعلى صحة الإسلام - منتدى التوحيد - أبو القاسم المقدسي
(7)  سورة الأنبياء الآية 105
(8)  سورة هود الآية 117
(9)  سورة غافر الآية 51
(10)  سورة النور الآية 55
(11)  سورة النمل الآية 56
(12)  سورة الذاريات الآية 53
(13)  سورة الأنعام الآية 112
(14)  سورة إبراهيم الآية 13
(15)  سورة القصص الآية 5
(16)  سورة الإسراء الآية 76 و77