في الصميم

بقلم
د.محمد بوقرين
رؤى إصلاحيّة

 1 – ضرورة قراءة الواقع أولا :

ان البداية المنهجية لعرض الأطروحات التي نراها تساعدنا على الكفاح من أجل الحرية واستئصال كل أشكال الاستبداد والتبعية هي تحديد خصائص الواقع المحلي والعالمي الذي ننخرط فيه لإدراك التناقضات الرئيسية والثانوية التي تحكمه. وتمكننا هذه المعرفة من امتلاك القدرة على التحرك فما لم نعرف منطلقاتنا أي الأرضية التي نتحرك عليها ونوعية القضايا التي تحيط بنا، فإنه يصعب تحديد العوائق التي تحول دون تحقيق حاجاتنا . ونبقى نتحرك دون بوصلة لا نعرف من أين نبدأ وإلى أين ننتهي ؟
وتشخيص العوائق يساعدنا على :
* ترتيب التناقضات إلى رئيسية وأخرى ثانوية. والمقصود بالتناقض هو التعارض بين ما يطمح إليه الشعب وما يعيشه من عوائق تحول دون تحقيق مطالبه، وقد يتحول التناقض الثانوي إلى رئيسي إذا ارتبط به ولم يكن مستقلا عنه.
* إدراك العدو الرئيسي والتركيز على أم المعارك ضمن استراتيجية مواجهة نتجنب من خلالها القضايا المصطنعة التي تلهينا عن معالجة ما هو أساسي، حتى لا تتحول وجهة الصراع إلى ما يسميه المفكر علي شريعتي «الاستحمار الثقافي». 
* امتلاك القدرة على النقد والتقييم، فتحديد التناقض الرئيسي والثانوي ومهام المرحلة يساعد على تصنيف الساحة السياسية والثقافية.ورغم كثرتها وتنوعها، يمكن أن نصنّف المواقف داخل هذه الساحة إلى صنفين: صنف مساعد وأخر معرقل يعمل على تعطيل المسيرة التي نسعى من خلالها إلى تحقيق أهدافنا . 
وبهذه الرؤية نتجنب : 
* الأفكار المسبقة التي تدفعنا إلى شيطنة الآخر لمجرد أنه يختلف معنا في المرجعية الايديولوجية، إلا أنه ينسجم معنا في مواجهة العدو الرئيسي (على سبيل المثال الاستبداد أو الامبريالية والعولمة الليبرالية المتوحشة ).
* الرضا على الذات، فقد يكون أداؤنا في المواجهة دون المستوى المطلوب مقارنة بمن نتقاسم معهم نفس الخندق. وهكذا نكون أقدر على نقد ذواتنا والأخر، مقياسنا في ذلك مدى إسهام هذا الموقف أو ذاك في مقاومة العوائق التي تحول دون تحقيق حاجتنا والدفاع عنها. فالتصنيف ليس دائما اديولوجيا أو عقائديا، لذلك أخبرنا القرآن الكريم بأن المؤمن ليس دائما مساندا للقضايا المبدئية، فمن المؤمنين من هو عدو لنفسه ولأهله وولده، والكافر ليس دائما معطلا للمشروع الاجتماعي الذي يتطلّع إليه المؤمن فقد يكون مسالما وعادلا لذلك حرص النّص القرآني على أن يكون المحدّد في التعامل هو السلوك وفي هذا السّياق قال الرسول صلى الله عليه وسلّم «الدين المعاملة» .
2 – رؤية لقراءة الواقع التونسي ومعالجته :
تستند قراءتنا للواقع التونسي إلى العقل الذي يسترشد بجملة من القيم حثنا القران الكريم على تمثلها والكدح الى تحقيقها كالعدل والحرية . ونؤمن بالتطور الجدلي للمجتمع البشري، فلكل مرحلة تاريخية أهدافها . وندرك أن امتلاك أدوات تحليل نابعة من الواقع بكل خصوصياته هو الذي يساعدنا على تشكيل وعي محايث . من هذا المنطلق نرى أن موقفنا من الاستبداد والرأسمالية محليا وعالميا هو الذي يحدد موقعنا لذلك ننتصر للديمقراطية والمقاومة في إطار الثقافة الإسلامية . ويمكن أن نوضح هذه الرؤية بتقديم الايضاحات التالية: 
أ – ضرورة المقاومة 
إن حصر النضال في الداخل والادعاء بإمكانية انجاز أهداف الثورة في التحرر من الفقر والبطالة والمديونية دون مواجهة الليبرالية المتوحشة وهم كبير. فخروج الشعب التونسي ضدّ سياسات الحيف الاجتماعي والتّهميش مطالبا بإسقاط النّظام كان يؤكّد أنّ العدالة الاجتماعيّة مدخلٌ لكلّ الحريات، وأنّ حقّه في الدّيمقراطيّة والكرامة يَمُرُّ حتمًا عبر مراجعة خيارات منوال تنموي أثبت فشله منذ سبعينات القرن الماضي، باعتباره المنوال الذي ساهمت الدّولة في صياغته تحت ضغوط مؤسّسات المال العالميّة وتوصياتهِا .
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أننا نختلف مع دعوة المجموعات اليسارية التي ترفع شعار : «إلغاء الدّيون الخارجية». فحزب مثل حزب العمال الشيوعي التونسي يعتبر «تعليق تسديد الدّيون الخارجية» بمثابة الوصفة السحرية لفضّ الأزمة الاقتصادية التي يعيشها النظام الرأسمالي في تونس، ويضع هذه «المهمّة الثورية» في مركز حملته التي أطلق عليها اسم «آش تبدل». بل إن مجموعات ثورية صغيرة تضع شعار «القطع مع المديونية» كيافطة من يافطات دعايتها اليومية ولا يخفى على أحد ما لهذه الدعوة من مآلات خطيرة على مستقبل البلاد فإذا أدركنا أن البلاد مثلا قد تربح مليارا برفضها ارجاع الديون التي أخذها النظام السابق وهي في حاجة إلى خمس مليارات لاستكمال التنمية، فكيف ستوفّر الأربع مليارات المتبقية في حالة رفض الدوائر الرأسمالية تقديم قروض بتعلّة سحب الثقة من النظام ؟ مع العلم أن مواردنا الماليّة اليوم لا تفي بالغرض حتى في صورة القيام بالإصلاح جبائي الذي لم ينجز الى اليوم . 
وبنفس الدرجة نرفض رفع شعار التحرر الوطني لغايات انتخابية دون برنامج واضح وإرادة صادقة 
فحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، قبل أن يتحول إلى أحد مكونات الائتلاف الحاكم، ظل طيلة الحملة الانتخابية يندّد بسياسة التداين التي اعتمدتها الحكومة السابقة ويعتبر «المديونية» «ضربا لاستقلالية القرار الوطني». وحزب حركة النهضة نفسه، ورغم أن برنامجه لا يتضمن دعوة صريحة لتعليق تسديد الديون الخارجية، فان زعماءه كانوا خلال كل الأشهر التي سبقت الانتخابات يوجهون النقد اللاّذع لحكومة الباجي قايد السبسي على اعتمادها «إغراق البلاد بالديون» و «رهن القرار الوطني للمؤسسات المالية العالمية»، بل إنهم يتهمون الحكومة السابقة بكونها قد تركت لهم إرثا ثقيلا من الديون. ولم يمنعهم هذا الانتقاد بعد وصولهم الى الحكم من إطلاق حملة استجداء للقروض والهبات ، مضحّين في ذلك بكل الشعارات التي حشدوا بها أنصارهم من نوع «مقاومة قوى الاستكبار العالمي» و «مواجهة الهيمنة الصليبية على البلدان الإسلامية»، لتتحول الولايات المتحدة الأمريكية من «الطاغوت الأكبر» إلى الضامن لتونس عند اقتراضها من السوق المالية .
إن موقفنا من الرأسمالية التي تعاملنا كسوق لترويج بضاعتها ووسط ملائم لاستغلال اليد العاملة والثروات مما فرض علينا الاشتغال بأعمال طفيليّة وجعل قطاع الخدمات يتضخّم مقارنة بالقطاعات المنتجة، يجعلنا نتموقع في معسكر المقاومة الكادح إلى تطور محلي دون ضغوط امبريالية وإنجاز علاقات متكافئة في الوضع الدولي وهو يقتضي برنامجا وطنيا تلتف حوله أغلبية الشعب يعيد الاعتبار لقيمة العمل والانتاج . فيراهن على الصناعة والزراعة حتى يسدّ الأسواق في وجه السلع الامبريالية وينهي النهب الاستعماري على مقدرات البلاد ويحوّل الصراع داخل المراكز الرأسمالية التي تصبح عاجزة عن دفع الرشاوي لعمالها بعد أن نضع حدا لسرقة ثرواتنا (1)
ب – ضرورة الديمقراطية
 ان اختزال الاهتمامات السياسية بما يحدث في الخارج باعتبار دور القوى الدولية الكبرى كأمريكا وأنقلترا وفرنسا في احداث التغيير المحلي هو وقوع في التفسير التآمري للتاريخ واختصار للأوضاع في الفعل دون احتساب رد الفعل – أي المقاومة – إن تغييب الشعب عن الإسهام في صنع القرارات المصيرية وتعويضه بموقف سياسوي نخبوي يدّعي العقلانية ويسمح لنفسه بأن يحمل المجتمع على التحرّر الفكري والاجتماعي والاقتصادي كما يراه هو استدعاء للنموذج الفرنسي الديغولي الذي دعا إلى نظام الجمهورية المطلقة واعتبرها الرئيس الراحل ميتران نظام الانقلاب الدائم (2). وهو تمشي يستحضر مثال المستبد العادل الذي أثبت فشله في ظل الدولة الوطنية العربية الحديثة التي راهنت على الحاكم المستنير وأعرضت عن تشريك الشعب ضمن أحزاب ومؤسسات مدنية فأفرزت الفقر والبطالة والمديونية ولم تفلح في تحرير الأراضي المحتلة – وأهمها فلسطين –. لقد كشفت ثورات الربيع العربي زيف ادعاء المقاومة والممانعة دون ديمقراطية. 
كما بيّنت فشل التحديث وهشاشة الدولة نظرا لغياب الحرية والعدالة الاجتماعية فانتهى الأمر إلى ثورة أحدثت فرزا بين قطبين قطب الجماهير الواسعة المستغلة والمفقرة وقطب قوى الانقلاب على الحركة الثورية. وبقدر التنوع الذي عليه القطب الأول والذي يشمل عمال ومعطلين وشريحة واسعة من التجار والحرفيين والمزارعين الفقراء، إلا أن هذه الشرائح جميعا تلتقي موضوعيا على مشترك ألا وهو أن لا مصلحة لها في تواصل سياسات التفقير والاستغلال والتهميش وأنها تطمح إلى تغيير جذري للمجتمع وللنظام القائم على قاعدة حقها في موارد البلاد وثرواتها والذي يتطلب أن تكون لها السيادة الكاملة على التصرف في هذه الموارد والثروات والقطع مع سيطرة الأقلية الموالية لسياسة النهب الاستعماري. 
ج – ضرورة التأسيس الثقافي
إن انتظار أفعال قوية تتصدى للاستبداد والامبريالية وتسهم في البناء الديمقراطي والتنمية خارج القيم الاسلامية هو تعطيل لإرادة الشعب .
والجمع بين الديمقراطية والمقاومة والثقافة الإسلامية هو رد ضمني على تبرير الاستبداد والاستغلال والطبقية وإضفاء شرعية دينية على أسلوب الإنتاج الرأسمالي – الذي يعطي الأولوية للرّبح على توفير حاجات المجتمع - وتصويره كأسلوب طبيعي وأزلي بتعلة أن الاسلام قد أباح الملكية الفردية .
إن معركتنا في بعدها الأساسي ثورة ثقافية تنظر إلى الموروث العربي الإسلامي نظرة نقدية فتبرز الجوانب النيرة التي تساعدنا اليوم على التصدي للأنساق الفكرية والعملية الشمولية التي تسعى إلى تغييرالحكام والإبقاء على منظومة الحكم المستبد وتفرّط في الرهان على النظام الليبرالي والخصخصة حتى تساهم في خلق حالة من الثبات وتزيل الحدود الفاصلة بين الثورة وما قبلها. 
ان الثقافة الإسلامية غنية بالقيم التي تحرّرالمسألة السياسية من الوقوع تحت رحمة الأهواء أو الاستراتيجيات الأجنبية المعادية فأخلاق الواجب والمسؤولية والنصيحة والاستقامة والعدل والعمل الصالح والتصدي للرشوة والمحسوبية ....كلها دعائم لرفع مستوى الوعي وترسيخ المواطنة وتقوية مؤسسات المجتمع ودحر الخنوع والتواكل والسلبية واللامبالاة وكل ما يشي بخيانة الثورة .
فخيارنا الاستراتيجي هو الانحياز إلى ثقافة المجتمع ورموزه ومقوماته الحضارية ووحدته الحضارية في وجه أعدائه والتصــدي لكل الأطروحات التي لا تزال تؤدي دورا كبيرا في غلق أي أفق لتجاوز الرأسمالية بالاكتفاء بتحويرات شكلية . ونعتبر ما يحدث اليوم هو مواصلة لصراع تاريخي بين قوتين : قوة للقهر والاستغلال والعنف وإلغاء الآخر والفهم الأحادي للنص والجذب إلى الوراء وقوة للمقاومة والتغييرباستيعاب قيمتي الحرية والعدل والدفع الى الأمام. ولكن لا يحجب عنا هذا التمشّي الانفتاح على مكتسبات الفكر الانساني الحديث والاستفادة من ابداعات العقل البشري حول انجاح العقد الاجتماعي وإيجاد صيغ تهدف إلى الحدّ من الاستبداد والتوسّع في السلطة واستثمار الطرق السيارة للمعرفة حيث تدار الشؤون بتفكير أفقي تواصلي للعمل على تغيير الأوضاع وتحسين الأحوال، بأساليب سلمية، مدنية. 
اننا نتطلع اليوم إلى نموذج وطني يجمع بين لاهوت التحرر والمقاومة. يرفض الفصل بين التناقضات الداخلية والخارجية في ظل العولمة الليبرالية. ونحن في هذا السياق نستحضر ما قاله برهان غليون في إحدى كتاباته : «إن أمة من العبيد لن تكون إلاّ من عبيد الأمم».
وندرك أهمية مراعاة المزاج الشعبي وموازين القوى داخل القطر وخارجه حتى نتجنب تهافت القراءات الايديولوجية التي تغلب النصوص والمقولات والمفاهيم الجاهزة على التشريح الموضوعي للواقع فتقع في التضخم في الطموح النهضوي على حد تعبير المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري .
خاتمة
رؤيتنا واضحة تقوم على النضال من أجل استكمال أهداف الثورة علـــى طريـــق التحرر الشامـــل من بقايــــا الاستبــــداد والتبعيـــة . إن ما يطالب به أغلب التونسيين اليوم هو العيش الكريم بكل ما يتضمنه من تشغيل وتحسيـــن للمقدرة الشرائية وتوفير للخدمات الأساسية من صحة وتعليم ونقل. ولكن التونسي له حاجات معنوية لا يمكن تجاهلها، فهو يرفض حل مشكلته الاجتماعية – الخبزة – على حساب دينه أو حريتـــه. بل قد يغلب الانتصــــار للدّين إن أدرك أن حـــــــلّ مشاكله الاجتماعيــــة أو السياسية سيفقده عقيدته أو حريته . لذلك فهو لا يحتاج الى ديمقراطية تحوّله إلى ملحد، فالعقيدة في هذا المجال حنان عميق لا يجتثّ كما قال فرويد . وهو يأبى الاستبداد والتبعية حتى وإن اقترنت بتوفير حلول عقلانية لأوضاعه الاجتماعية . فقد رفع الشعب شعارا أثناء الثورة «خبز وماء وبن علي لا». أما العوائق التي تحول دون تحقيق هذه المطالب فهي عديدة منها ما هو داخلي وخارجي، لعل من أخطرها اتباع سياسة تنحاز إلى رأس المال وترويج ما يفيد بأن الرأسمالية هي الأفق التاريخي الوحيد والممكن وهي نظام طبيعي يوافق الفطرة البشرية. وهو ما يدعونا الى التكتل في كتلة تاريخية نتجاوز بها التجاذبات الايدولوجية والسياسية بتحديد الموقع في دائرة الصراع بين أغلبية تريد تلبية حاجاتها في التشغيل والضمان الاجتماعي والصحي والحرية والكرامة وأقلية تسعى الى الاستحواذ على مزيد من الثروات وتكريس التبعية . لذلك وجب التفريق بين من يعمل على التحرر الفعلي ومقاومة التبعية بتغيير النظام الليبرالي التابع مهما كانت مرجعيته الايديولوجية ومن يكتفي بالدعوة إلى اصلاحات شكلية ويوهم الشعب بأنه من الممكن التمتّع بالشغل والحرية وكرامة العيش بالإبقاء على نفس النظام المتسبب في كوارث البطالة والفقر والمديونية، والدخول في تنافس ديمقراطي عبر تحالفات يقودها اللهث وراء اقتلاع مكان في السلطة. إن ادارة الصراع اليوم تحتّم التّمسك بالمقاومة كحلّ للتناقض مع النهب الاستعماري الجديد والديمقراطية كمعالجة للتناقض مع الاستبداد وإقرار بحق الاختلاف في بناء تونس الحرة والمستقلة والإسلام التنموي كطاقة روحية تتضمن قيما قادرة على تجاوز التناقض الداخلي الموجود في كل فرد فقد جاء في القران الكريم أن الانسان خلق في كبد أي في صراع بين أهوائه وعقله والوازع الديني يساعده على تخطي هذه العقبة وكسب مواجهة التناقضات الخارجية
هوامش
(1) موقف مستوحى من كتابات سلامة كيلة في موقع الحوارالمتمدن 
(2) راجع مقالا بعنوان : هل هي نهاية الدولة الوطنية العربية ؟ للسيد ولد أباه صادر بموقع الأوان.