بهدوء

بقلم
محمد القوماني
على هامش الحصاد المدرسي المشاكل المزمنة والأسئلة المُحيّرة حول تعليمنا


مع الإعلان عن النتائج النهائيـــة فـــي مختلف مراحل التعليـــم، يُســـدل الستـــار علــــى السنــــة الدراسيـــة الثانيـــة بعد الثــــورة. وفي حين يفرح الأولياء بنجاحات أبنائهم ويباهي المسؤولون بإلإرتفاع المطّرد في نسب النجاح في جميــــع مستويات التعليم، يبدو المدرّسون وحدهم قلقين إلــــــى حد التشاؤم علــــى مستقبـــل التربية والتعليم ببلادنا وغير مرتاحين تماما للمفارقــة المسجلـة بين ارتفاع نسب النجاح وتراجع مستوى التلاميذ . وإذا كان تراجع مستوى التكوين ليس المشكلة الوحيدة التي يعانـــي منها نظامنا التربوي والتعليمي، فإنها إحدى المشكلات الأساسية التي تحتاج إلى اهتمامنا. كما قد يكون الحصاد المدرسي مناسبة للتعبير عن كبرى انشغالاتنا حول واقع التعليم ببلادنا.

 

ينص الفصل التاسع من القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي المؤرخ فــــي 23 جويليــة 2002 على ما يلي: ” تعمل المدرسة، في إطار وظيفتها التعليمية، على ضمان تعليم جيد للجميع يتيح إكتساب ثقافة عامة و معارف نظرية و عملية ويمكّن من تنمية مواهب المتعلمين وتطوير قدراتهم على التعلم الذاتي والانخراط في مجتمع المعرفة. والمدرسة مدعوّة بالخصوص إلى تمكين المتعلمين من إتقان اللغة العربية، بصفتها اللغــــة الوطنية وتمكين المتعلمين من حذق لغتين أجنبيتيـــن علــــى الأقـــل ...“ ويضيف الفصــــل 51: ”تُعلم اللغة العربية في كافة المراحل تعلّما يضمن حذقها وإتقانها بما يمكن من التعامل بها ومعها بإعتبارها أداة تواصل وتثقيف ومن استعمالها، تحصيلا وإنتاجا في مختلف مجالات المعرفة. وتُعلم اللغات الأجنبية منذ المرحلة الأولى للتعليم باعتبارها أدوات تواصل وسبيلا للإطلاع المباشر على إنتاج الفكر العالمي ...“.

 

وإزاء هذا الهدف غير المختلف عليه، يقرّ المدرسون في مختلف مستويات التعليم، ويعاضدهم في ذلك أعضاء لجان الانتداب بالمؤسسات العمومية والخاصة وكثير من الأولياء،  بالتراجع الواضح بل المفزع لمستــوى المتعلميــــن خاصة فــــي امتلاك اللغـــات بما في ذلك اللغة العربية فضلا عن اللغات الأجنبية، وكذلك ضعفهم الفادح في استيعاب العلـــوم المميزة لكل شعبة من شعب التعليم الثانوي. صحيح أن كل مدرسة أو معهد عموما يضم اليوم نخبــة محـــدودة جدا مـــن التلاميذ الممتازيـــن في مختلف المـــواد، لكــــن ذلك لا يجـــب أن يحجب عنــا حقيقـــة أن أغلب التلاميذ هم في مستوى دون المتوسط بل ضعيف وهزيل. وكم هي نماذج إجابات التلاميذ في الامتحانـــات ونوادر الفصـــول من المضحكات المبكيات التي يحتفظ بها المدرسون أو يتداولونها يوميا في مجالسهم، للتدليل على هبوط المستوى التعليمي.

 

فــــإذا أخذنـــــا مقيــــاس امتـــلاك اللغات علـــــى سبيــــل المثـــال، لم يعد الأمر متعلقا بأخطاء فادحة في الرسم أو التركيب أو التعبير بل صار التلاميذ في مستويات متقدمة من التعليم ـ المرحلة الثانية من التعليم الأساســي  أو التعليم الثانــــوي ـ  يرصفـــون حروفـــا  ـ في اللغة العربيــة بالـــذات ـ  لا تـكوّن كلمــــة أصــلا ولا تعبّــــر عن أي معنى. أما في الفرنسية أو الأنجليزية أو في المواد المدرّسة بالفرنسية فهم لا يفهمون الأسئلة أصلا و لا يقدرون على قراءتها فضلا على أن يجيبوا عنها . وقد زادت نسب النجاح شبه الآلــــي في التعليم الإبتدائي، في تعميق هذه الظاهرة. ففي كل عام دراسي تصل المدارس الإعدادية أفواج أكبر من التلاميذ الذين يفتقـــدون إلى التكوين الأساسي الأدنى مما يسهم في تراجع المستوى العام للأقسام. فالتلميذ الذي يعانـــي مــــن ضعف أساســــي في اللغـــات أو الرياضيات لا يزيد مع تقدمه في سنوات التعليم إلا مراكمة للضعف والهزال. مما يجعل عددا كبيـــرا مــــن تلاميـــذ القســـم غير مؤهلين أصلا لمتابعة البرامج المقــــررة لذلك المستـــوى، وهو ما يخلـــــــق صعوبات جمــــــة للمدرسين ويضطرهم أحيانا إلى التوجــه إلـــى بعض التلاميذ فقط، مما يدفــــع أغلبيـــة التلاميــــذ الآخرين إلى اللاّمبالاة واليأس والعبث أثناء الحصة. وربما تكون المعاهد النموذجية أيضا قد عمقت السياسة الإنتقائية في التعليـــم ونالــت من ديمقراطيته وزادت في تردي المستوى بالمعاهد العادية .

 

وفي مقابل تراجع المستوى، نلاحظ في كل سنة دراسية  نسب نجاح عالية لا تناسب ذلك التراجع. وليست القرارات المتخذة في طرق وضع الإمتحانات ومقاييس الإصــلاح  وتوجيهـــات المتفقديــــن،  الاّ آليّات لتكريس هذا التوجه. و يكفي تشكيكا في علاقة  نسب النجاح بالمستوى التعليمي الرجوع إلى نتائج تلاميذ السنة التاسعة من التعليم الأساسي الذين يجتازون الإمتحان الإختياري، ومقارنة نتائجهم أثناء السنة الدراسية بنتائجهم في المناظرة. فأعداد كبيرة من الذين يكونون قد سجّل مجلس الأقسام نجاحهم بناء على معدلهم السنوي بالإستحقـــاق أو بالإسعـــاف،  يحصلون في المناظــــرة على معدّلات ضعيفة و هزيلة ( بين 5 و8 من 20).

 

وبصرف النظر عن الأمثلة الدقيقة والتفاصيــــل والإحصائيات التـــي لا يتسع لها هذا المجال، نعتقــــد جازمين أن الإجمـــاع حاصل بين المدرسين على الإقرار بتراجـــع مستـــوى التكوين سواء بالنسبة للمنقطعيــــن عـــن التعليـــم أو الذين مازالـــوا يواصلـــون مشوارهم الدراسي. وربمــا يكــون الأمــر أكثر خطورة حين يمتد التقويم إلى تراجع مستوى الخرّيجين الجدد من أجيال المُدرّسين أنفسهم والتشكيك في مستوى أدائهم في ظل المتغيرات التي عرفها مجتمعنا وخاصة الوسط المدرسي. و لا شك أن لهذا التراجع في مستوى التكوين والتحصيل أسباب عديدة ومعقدة تعود إلى الاختيارات السياسية والتربوية وإلى التحولات الاجتماعيــة وإلى وظيفة المدرسة في الواقع الجديد وإلى الأوضاع المادية لمؤسسات التعليم وللمدرسين وأسباب أخرى.

 

 

لكن يبقى السؤال المحيّر حقّا هو ما جدوى الإصلاحات المتكررة التي عرفتها المؤسسة التربوية في العقود الأخيرة وما جدوى تغيير الطرق البيداغوجية و هذه الأموال الطائلة التي تصرف كل عام للتكوين والرسكلة وهذه اللخبطة التي بات يشكو منها المدرسون لكثرة التعديــــلات المتلاحقـــة، إذا كانت النتيجة هي تراجع مستوى التكوين والتعليم لدى الناشئة وعدم رضـــــا القائميــــن علـــى تكويـــن تلك الناشئة في المقـــام الأول وأعنــــي بهم المدرسين ؟ و متى سيكون مستقبل التربية والتعليــــم في بلادنا محل إستشارة  وطنية جادة، تشرف عليها هيئــــة وطنية ممثلة تحظى بالمصداقية وتضمن إشـــراك مختلف الأطراف المعنية وتضع تقريرا يتسم بالشفافية ويعكس الإجماع الوطني في رســـــم سياسات مدرسة جديدة بعد الثورة؟      

 

نقدّر جيّدا أن مشاكل التربية والتعليم متعددة ومتشابكة وأن جوانــــب عديــــدة منهــــا لا يقتصـــر علاجهـــا على المؤسسـة التربوية. لأن أسبابها تعود إلى عوامل موضوعية فـــي المجتمـــع وفي الظرفية التاريخية التي تمر بها مؤسسات التعليـــم التقليديــــة في العالم. كما نقدر أن بلادنا حققــــت  خطــــوات ايجابيـــة هامة في مستوى التعليم خلال فتـــــرة الاستقلال، يحق لها أن تفاخر بها، ولعلّ ذلك أحد البواعث الرئيسيــــة على الانشغال بهذا المجـــــال الحيوي. كما نقـــــدّر أن هذه المرحلـــــة الانتقاليــــة لا تتيح مراجعة جذرية وإصلاحات عميقة، رغم رفع الوزارة لشعار الإصلاح واعتزام تنظيم استشارة وطنية في هذا الغرض. ومع ذلك كله نشدّد على أن اوضاع تعليمنا لا تسرّ، ونتساءل عن علاقة  تراجع مستوى المتعلمين والخريجين بالواقع المادي لمؤسسات التعليم بجميع مراحله التي بلغت مستويات لم تعد تُطاق من الضعف والترهل واستحالة أداء الوظيفة؟ وبأوضاع المدرسين المادية والنفسية؟ وبتدهـور القيــــم والعلاقــــات في الفضــــاء المدرســـي؟ وبعدم التكامل بين المواد الدراسية وعدم التكامل بين مراحل التعليم؟ وبتراجع الدور التثقيفي والتنويري للمدرسة؟ والأخطر من ذلك كله علاقة ذلك بتراجع قيمة التعليم في نظر المتعلمين بسبب انسداد الآفاق بعد التخرج وتراجع دور المدرسة في الرقي الاجتماعي؟

 

هذه المشاكل التي تأخرت معالجتها حتى صارت شبه مزمنــــة، وهذه الأسئلة المُحيرة التي تراودنا في نهاية كل عـــام دراســــي متى تجد الاهتمام المناسب في حوارات المسؤولين  وفي اهتمامات النخب وفي أولويات استحقاقات الثورة المجيدة؟ فمجتمـع لا يرتقي بتعليمه يخشى على مستقبله.