في العمق

بقلم
د.لطفي زكري
التّمرّد على السلطة الشرعية: حق وواجب أم جريمة وخيانة؟

  تراوح علاقة المدني بالسياسي بين الارتخاء في ظل استقرار الأوضاع والتوتر في ظل انتشار الفوضى. وينعكس الحال على مشاعر المواطنين فتراهم يشيدون بسماحة السياسي وقدرته على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاتهم أو تسمعهم يتهامسون أحيانا ويصرخون أحيانا أخرى منددين بظلمه وفشله الذريع في تدبير الشأن اليومي. لكن هل يحق لهؤلاء المواطنين أن يتمردوا على الشرعية السياسية التي ساهموا في بنائها؟ يشكل هذا السؤال إحدى واجهات التوتر في العلاقة بين المدني والسياسي أو بين واجب الطاعة وحق التمرد. ذلك أن الحديث عن التمرد في تمثل هذه العلاقة لا يتم إلا في ظل التصادم بين إرادة الشعب وإرادة حاكمه. فكيف يجوِّز الشعب لنفسه الحق في أن يتمرد على حاكم «شرعي»؟ أو كيف يفقد الحاكم شرعيته ويدفع بمواطنيه إلى التمرد على سلطانه؟ إن مدار المشكل هو تقلبات العلاقة بين الطغيان والشرعية، أي هل يحافظ الحاكم على شرعية سلطانه حين يتحول إلى طاغية أم أن الطغيان يجرد الحاكم من كل صور السيادة الشرعية؟

إذا كان المتمرد هو من يقول: «لا»، وإذ هو لا ينثني عن هذا الرفض فهو أيضا الذي يقول: «نعم»، فذاك يعني أن أساس التمرد هو المطالبة بالحق إلزاما والتزاما. إن المتمرد الحق مواطن يجيد فنّ الجمع بين التمرد حفاظا على الحرية وبين الطاعة حفاظا على النظام. فليس يسيرا على المرء أن يجمع بين الرفض والقبول أو بين التمرد والطاعة. إن الموقف السهل واليسير هو أن ترفض كل شيء أو أن تقبل بكل شيء. لكن ما الذي يبرر تردد العقل السياسي بين تجريم المتمرد والدعوة إلى إقصائه وبين إشادته برفعة سلوكه والاعتراف بنضاليته؟
قد يعود ذلك إلى لبس في موقع الدستور - بوصفه أعلى النصوص التشريعية- من العلاقة بين المدني (الشعب) والسياسي (الحاكم). فلمّا كانت الدساتير هي المرجعيات التي تبين نظام الحق وتحدد دور السلطات وتقرر ما للأفراد من حريات وحقوق وواجبات، فإنّ أي فعل يتجاوز حدود النصوص التشريعية يعد خرقا يستوجب العقاب والردع. وبما أنّه  «لا يمكن فعليا أن يتضمن الدستور أي بند يسمح لسلطة أن تقاوم القائد الأعلى للدولة في صورة خرقه للقوانين التشريعية»  بتعبير الفيلسوف الألماني كانط E. Kant،  فإنّه لا يوجد تمرد للشعب ضد الحاكم يكتسب صفة الشرعية بل إن أبسط محاولة من هذا القبيل تعد خيانة عظمى تستحق عقوبة الإعدام. فالتمرد بهذا المعنى ليس أكثر من اختراق للحصانة ونيل من أمن الدولة وسيادتها ممثلة في شخص الحاكم. وكأنّنــــا بكانط يستعيد نــداء الفيلسوف الإنجليــزي هوبـــس T. Hobbes  وهـو يحذر من التمرد على الملك أو الطاغية حين يقول: « انتزعوا الطاعة (وبالتالي وئام الشعب) من أي نوع من أنواع الدول، وسترون كيف سيتحلل هذا الشعب في مدة وجيزة، وسيكتشف أولئك الذين يتمردون بقصد إصلاح الجمهورية، أنهم بذلك يفسدونها». لكن هل تستحق المواطنة كل هذه التضحيـــة؟ وإذا كـــان « صاحب السيادة ينزع دوما لابتزاز السّيادة » بتعبير المفكر الفرنسي بول ريكور  P. Ricœur ، فهل قدر المواطنين هو أن يبقوا ضحايا لهذا الابتزاز؟ 
إنّ تجريم المواطن المتمرد يضعنا أمام صورة للمواطنة المفرغة من كل مضمون وصورة للسيادة الخالية من كل أصالة أو تأصيل سياسي. لأنّ خرق القوانين التشريعية من قبل الحاكم يعد أيضا نيلا من السيادة قبل أن يكون تعديا على المواطنة. إنه نيل من سيادة الشعب الذي خول له تلك الصلاحيات السياسية. وعلى هذا الأساس أكّد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك  J.Locke شرعية بل وجوب التمرد على كل حاكم يتجاوز سلطة القانون الأعلى (أي الدستور) أو يتصرف دون تفويض شرعي، وتعظم الجريمة في نظره بقدر رفعة الوظيفة. وإذا كان الطغيان يبتدئ حيث تنتهي سلطة القانون، فإن شرعية التمرد تبدأ حيث يبدأ الطغيان ولا تحتاج إلى نص دستوري يعترف لها بتلك الشرعية. إنّ « كل ما يطلبه الشعب لا يعدو أن يكون إلا الخلاص من الطغيان » بتعبير صاحب كتاب «الأمير» الإيطالي ماكيافيلي N.Machiavelli .   
إن التردد بين تجريم التمرد والتشريع له يفرض السؤال عن مرجعية الموقف الفلسفي السياسي هل هي مرجعية منطقية خالصة كما هو الحال لدى كانط أم هي مرجعية واقعية سياسية كما هو الحال لدى جون لوك؟ وهل ينبغي للعلاقة بين المدني والسياسي أن تتأسس على المنطق أم على الواقع؟ وإذا سلمنا بمشروعية الغايات السياسية في الحالتين فهل يمكننا رتق الفتق بين المنطقي والواقعي في اتجاه التأليف بين الحاجة إلى الحفاظ على النظام الجمهوري والحاجة إلى الوقاية من الطغيان؟
يبدو أنه من العسير الاختيار بين المقاربتين وكذلك التأليف بينهما في بناء موقف سياسي عقلاني. ذلك أن المنطقي والعقلاني ليس دوما واقعيا أو قابلا للتجربة كما أن الواقعي والتجربي ليس بالضرورة منطقيا أو عقلانيا كما زعم الفيلسوف الألماني هيغل W.F.Hegel. ويزداد هذا العسر حدة في ظل تجارب انتقالية تتلمس الطريق نحو الشرعية وتروم المرور من الطغيان إلى الديمقراطية بأخف الأضرار وبعيدا عن منطق الثأر والتشفي الذي حكم تاريخ التجارب الثورية في العالم. ولعل ما يعمق الشعور بالخوف من مآلات الحراك السياسي في هذه المنطقة من العالم اليوم هو انعدام الثقة بين المدني والسياسي أو بين الفرقاء السياسيين أنفسهم بسبب الصور المهيمنة على المخيال السياسي سواء بفعل التراكمات الماضية أو بفعل تأثير بشاعة التجارب المجاورة. فلا مراء في أن أثر الإسلاموفوبيا ما يزال محفورا في الضمير الإسلامي بعمق لا يقل عن عمقه في الضمير الغربي وفي ضمير النخب الإسلامية بالقدر الذي هو عليه في ضمير النخب العلمانية اليسارية والليبرالية. وإذا لم ينجح الإسلاميون في محو هذا الأثر فإن بقاءهم في سدة الحكم أو في صف المعارضة سيكون محفوفا دوما بالتوتر وانعدام الاستقرار. وليس أبلغ في التعبير عن هذه الخشية المتزايدة اليوم هو صراع الشرعيات (الشرعية الثورية، الشرعية التوافقية، الشرعية الانتخابية،...) وترددها بين القيام والتهافت. 
إن بقاء الشرعية السياسية غائمة بين صور مختلفة كما هو الحال في بلدان «الربيع العربي» يجعل التمرد ذاته فعلا غائما. ذلك أنه في كل الأحوال سيكون فعلا مغلبا لتفوق شرعية على أخرى، ومن ثم لن يكون فعلا نضاليا ضد الشرعية أو معها بل سيكون فعلا ممزقا ومتشظيا بين شرعيات تزعم كل منها أنها الأقوى والأصدق تعبيرا عن إرادة الشعب. بل لعله يمكننا الذهاب إلى حد القول أنه في مثل هذه الحال يضمحل مفهوم الشرعية ويتلاشى وراء الصور التي تريد احتكاره لنفسها. ففي اللحظة التي تتعدد فيها الشرعيات ينتفي تماما مفهوم الشرعية وتغدو فيه الحياة المدنية والسياسية مهددة بالفوضى والعنف والقتل حتى وإن زعمت كل الأطراف أنها مع تغليب منطق الحوار. ذلك أنه لا حوار بين الشرعيات لسبب بسيط وهو أن الشرعيات لا تتعايش بل تتعاقب وفق منطق التهافت والتأسيس. فلا غرابة في أن يدفع البعض نحو الإسراع باستكمال بناء الشرعية في الوقت الذي يعمل فيه آخرون بنفس السرعة أو يزيد على إسقاط تلك الشرعية والحيلولة دون استكمال بنائها. 
إن التمرد في مثل هذه الحال ليس حقا وليس واجبا، وإنما هو وجه من وجوه البحث عن شرعية لم توجد بعد. وليس المتمرد كما نراه في واقعنا صورة مطابقة لنظيراتها في المتون الفلسفية السياسية أو في وثائق المؤرخين لتجارب السابقين. بل لعل ما يعمق لدينا الاقتناع بهشاشة صورة المتمرد في واقعنا هو استحالة التمرد إلى تسمية تعرف بها بعض الحركات السياسية. ذلك أن وجود هذه الحركات دليل كاف على ضبابية الوعي بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المتمرد وبالشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه، وفي مقدمتها أنه لا يسمي نفسه متمردا بل يترك أمر التسمية للآخرين المغرمين بالتصنيف. وثانيها أنه يتمرد ليحمل الآخر على احترام الحق أو الشرعية المكتملة البناء. لذلك لا يبدو المتمرد كائنا مغرورا يملي على الآخرين ما ينبغي أن يكون عليه الحق، بل إرادة حرة تطلب ما هو كائن من الحق وتحارب ما هو كائن من الباطل في واقع مدني وسياسي مكتمل البناء لا في واقع يتشكل ويسير ببطء نحو اكتمال البناء.