بهدوء

بقلم
محمد القوماني
العبادة طريق إلى الكمال الذاتي والاجتماعي

 تختزل العبادة في الإسلام الأبعاد الروحية والعملية للعقيدة النظرية وتشكّل أحكام العبادات جانبا مهما من الفقه الإسلامي التطبيقي. وإذا كان التوحيد أساس العقيدة الإسلامية وعمودها الفقري، فإن العبادة هي صورة الإسلام والتجسيم العملي لمعاني التوحيد. لذلك لا نجانب الصواب حين نقول استنادا إلى  الآية «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، أن العبادة مُحقّقة  للمقصد من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، باعتبار أنّ عبادة الله طريق إلى الكمال الذاتي والاجتماعي للإنسان. وهذا هو المقصد الأسمى والحكمة الأساسية من تشريع العبادة في الإسلام، الذي نروم شرحه والاستدلال عليه في هذا المقال.

في معاني العبادة
العبادة في اللغة تعني «الطاعة مع الخضوع» كما يذكر صاحب لسان العرب. وهي في معناها العام تدلّ على كل قول أو فعل يفيد الخضوع والتعظيم الزائدين عن المعتاد، إذ تقترن العبادة بالتقديس والطاعة المطلقة. ولذلك وصف القرآن طاعة النصارى لأحبارهم ورهبانهم بأنها ضرب من التأليه والعبادة. «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة /31). وجاء في لسان العرب أيضا شرحا لقوله تعالى « وجعل منهم القردة والخنازير وعبدَ الطّاغوت» تأويل عبدَ الطّاغوت، أي أطاعه، يعني الشيطان، فيما سوّل له وغواه».(1) 
والعبادة في الإسلام تتّخذ معاني عديدة بحسب زوايا النظر. فتُعرّف بأنها طاعة الربّ والتقرّب إليه بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. وهي باعتبارها طاعة تمثل التزاما طوعيّا بشريعة الله. إذ المقصـــد الشرعـــي من وضع الشريعة  كما يذكر الإمام الشاطبي هو: «إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً». (2) فمثلما يخضع كل الناس كرها لنواميس الله في الكون، فهو وحده الخالق والمالك والمسيّر، وهم جميعا عباده، يخضع المؤمنون لربهم طوعا بفعل ما يأمرهم به واجتناب ما ينهاهم عنه. وقد يكون في التزام المسلم بالشعائر العبادية المفروضة، وفي مقدمتها  قواعد الإسلام الخمس من  شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام، وهي التعبير الظاهر عن الإيمان الباطن  المستقر في العقل والقلب، قد يكون في ذلك الالتزام مظهرا للخضوع الطوعي لما شرع الله تعالى. ولأن الله يٌعبد  بما شرع، تأتي سائر الأحكام الفقهية المستندة لصريح المنقول لتٌلزم المسلم بما لا تصحّ العبادة إلاّ به. وهذا ما يُفسّر جانبا من ثبات الشعائر وأحكامها، بما يمنحها الديمومة ويُعطيها البعد الرمزي في توحيد المسلمين عبر العصور والأمصار.
ولأن العبادة رياضة روحية بالأساس، شدّد المتصوّفة في الإسلام على عدم التوقّف فيها عند الرسوم المتمثلة في الأحكام الفقهية، وعلى وجوب النفاذ إلى معانيها العميقة ومقاصدها التربوية وآثارها الروحية. وطوّروا من خلالها مدارس تربوية متميّزة. وقالوا أنّ «من لم يذق لم يعرف».
ولئن كانت للإسلام، مثل سائر الأديان، شعائره الفردية والجماعية، فإن مفهوم العبادة في الإسلام يتجاوز البعد الشعائري بجميع تفاصيله الذي يشمل ما هو أبعد من القواعد الخمس. فالعبادة في الإسلام تمتدّ لجوانب الحياة المتنوعة وتشمل مختلف الأنشطة اليومية لتجعلها رموزا للاتصال الدائم بالله عز وجلّ والتقرب إليه. وهذا معنى مُتضمّن في خطاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، أول المسلمين. « قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (الأنعام / 162، 163) .وفي الحديث النبوي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابي أبا ذرّ فيقول له: «إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلا لله فأفعل». وإلى ذلك يذهب العلامة محمد باقر الصدر بقوله: « حين نلاحظ العبادات في الإسلام نجد فيها عنصر الشمول لجوانب الحياة المتنوعة، فلم تختص العبادات بأشكال معيّنة من الشعائر، ولم تقتصر على الأعمال التي تجسد مظاهر التعظيم لله سبحانه وتعالى فقط كالركوع والسجود والذكر والدعاء، بل امتدت إلى كل قطاعات النشاط الإنساني، فالجهاد عبادة وهو نشاط اجتماعي، والزكاة عبادة وهي نشاط اجتماعي مالي، والصيام هو نظام غذائي والوضوء والغسل وهما لونان من ألوان التنظيف للجسد.
وهذا الشمول في العبادة يعبّر عن اتجاه عام في التربية الإسلامية يستهدف أن يربط الإنسان في كل أعماله ونشاطاته بالله تعالى، ويحوّل كل ما يقوم به من جهد صالح إلى عبادة مهما كان حقله ونوعه، ومن أجل إيجاد الأساس الثابت لهذا الاتجاه وزعت العبادات الثابتة على الحقول المختلفة للنشاط الإنساني تمهيداً إلى تمرين الإنسان على أن يسبغ روح العبادة على كل نشاطاته الصالحة، وروح المسجد على مكان عمله من أجل الله سبحانه.
وفي ذلك تختلف الشريعة الإسلامية عن اتجاهين دينين أخرين وهما:
أوّلاً: الاتجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة، وثانياً الاتجاه إلى حصر الحياة في إطار ضيق من العبادة كما يفعل المترهبون والمتصوفون.»  (3)
وهذا الاتجاه في إسباغ روح العبادة على كل أنشطة المسلم نجده في أحاديث نبوية عديدة، مثل تلك التي  تجعل العمل عبادة « من بات كالاّ من عمل يومه بات مغفورا له» وتجعل العلم عبادة « من سلك طريقا إلى العلم سلك الله له طريقا إلى الجنة» (رواه مسلم ، وأصحاب السنن عن أبي هريرة)...كما دعت أحاديث أخرى إلى الاختلاط بالناس ونهت عن العزلة وشدّدت على الربط بين الدنيا والآخرة وبين الدين والحياة « ليس منّا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا» (رواه ابن عساكر عن أنس: (كنز العمال 3/238).). كما لم يربط الإسلام العبادة بمكان معيّن، وإنما جعل المسجد رمزا للعبادة الجماعية وسمّاه «بيت الله» لأنه مفتوح للجميع، وأسبغ روحه على الأماكن الأخرى فقال عليه السلام « جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (صحيح البخاري). وبذلك تسري روح المسجد في الحقل والمصنع والمدرسة والمنزل...وتكون حياة المسلم لحظة عبادة متصلة في يقظته ونومه حتّى.
في الحكمة من العبادة
يصعب تخصيص الحديث عن الحكمة من العبادة وأغراضها الأساسية، دون تعميم ذلك على الدين عموما وعلى الإسلام خصوصا. فالعبادة أصل مشترك بين جميع الأديان. وهي تتفق في الغاية وتختلف في الأشكال والأوقات والمجالات التي تشملها. بل إن العبادة نزعة أصيلة في الإنسان وظاهرة عريقة في التاريخ، إذ لم تخل حضارة من وجود معابد كما تدلّ الحفريات. وإنما عراقة العبادة من عراقة التديّن. «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»(الروم/30).
    ففي العبادة تتكثّف معاني الإيمان بالغيب الذي يكاد يكون الفارق المميّز للمؤمن عن الملحد المنكر لوجود الله أصلا. «ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب»(البقرة/ 2ـ3). كما أن العبادة أهم أدوات التربية الدينية للإنسان لإصلاح نفسه وإصلاح علاقاته الاجتماعية. ومهما اجتهدنا في إبراز بعض أبعاد العبادة في الإسلام، يظل السؤال مُحيرا عن الحكمة من العبادة ونحن نقرأ قول الله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ». (الذاريات/ 56 ـ 58) فكيف تكون العبادة مُحقّقة للمقصد من خلق الإنسان كما تشير الآية؟
العبادة تتجه بالقصد إلى الله وبالنفع إلى العبد
إذا نظرنا إلى العبادة من جهة القصد، المعبّر عنه دينيا بالنيّة، نجدها عبادة من العبد لربه تعالى. «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». لكن حين ننظر إلى العبادة من جهة النفع والنتيجة نجدها عبادة من أجل الإنسان. فالله تعالى هو الكامل، الغني عن العالمين، لا تنفعه طاعة ولا تزيده ولا تضرّه معصية ولا تنقص منه. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» (فاطر/15-17). وفي الحديث القدسي «يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المِخْيَطْ إذا أُدخل البحر» (رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري وأخرجه في صحيحه). 
ومن خصائص الفلسفة التربوية في الإسلام عامة أن تُنسب الأفعال لله تعالى، والحال أن نتائجها تخصّ العبد، وذلك في إطار إسباغ روحانية على الفعل وتشجيع المؤمن عليه. وسبيل الله تعبير إسلامي عن سبيل الناس أو سبيل الجماعة. فالمسلم يتصدّق ويُقرض ويجاهد...في سبيل الله ويحرص على أن يصدر في جميع أفعاله عن نيّة خالصة لله، لكن عباد الله هم المنتفعون فعلا من الصدقة والقرض والدفاع عن المستضعفين منهم من الرجال والنساء والأطفال. وربما تنفرد التربية الدينية بهذا التدريب على الموضوعية في القصد والتفكير في الغير. بل في دمج الذاتي بالموضوعي وجعل مرضاة الله تعالى، وهي مصلحة ذاتية، تمر عبر تحقيق نفع موضوعي للآخر. وهي غيرية تبلغ حدّ أن تكون شرطا لكمال الإيمان. ففي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». (متفق عليه)
ويبدو القرآن صريحا في تقديم ما ينفع الناس فعلا، عن غيره من الأمور الشكلية في الشعائر الإسلامية،  كما تكرّر ذلك على سبيل المثال في مواضع عديدة «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة/177). وفي الحديث «أحبّكم إلى الله أنفعكم لعياله» (رواه البخاري).
العبادة محققة للمقصد من الخلق
ومن جهة أخرى فإن التصور الإسلامي للوجود المؤسس على عقيدة التوحيد، حينما يؤكد على غائيّة الطبيعة، «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ « (الدخان/38ـ39).  فإنما يؤسس على ذلك غائيّة الحياة. إذ بشعر الموحّد بنفسه جديّا ومسؤولا في هذا العالم الذي لم يخلقه الله عبثا «أفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»  ( المؤمنون/ 115). وعليه فإن التصور التوحيدي يمنح الحياة روحا وهدفا وغنى، ويعطي للإنسان رسالة فيها. فالإنسان خليفة الله في الأرض «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة/30). والاستخلاف في القرآن يعني إنابة الله النوع الإنساني لتعمير الأرض وإدارتها ومن هنا تتأسس غائية الحياة  ومركزية الإنسان على الأرض في التصور التوحيدي للوجود. مما يعطيه نوعا من الاتزان/التوازن ويمدّه بالقدرة على الخلق والإبداع . فلا يبقى الإنسان مترددا بين النظريات الشكيّة أو العدميّة ولا يبقى أسيرا للتديّن الزائف والآلهة المصطنعة التي يعجّ بها الشعور المُشرك والرؤى المادية.
والتصور التوحيدي بهذا المعنى يبدو ذا جاذبية وقدرة على بعث الحرارة والطاقة في النفوس، ويقدم أهدافا مقدّسة سامية، ويصنع المُضحيـــن والمتفانيــــن والاستشهادييــن(4). وإنما شرعت العبادة لتذكية شعور الإيمان وشدّ الإنسان إلى ربه على الدوام. ولأن التوحيد الإسلامي القائم على التنزيه يجعل صلة العبد بربّه تتأسس على العلاقة بصفاته تعالى وليس بذاته «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(الشـــورى/11). فإن العبادة تقرّب الإنسان الذي يراوح بين «الطين» و «النفخة الإلهيّة» من صفات الله تعالى وتسمو به، «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» (الأعراف/180). وهو متجه أبدا إلى الكمال والمطلق دون إدعاء تحقيق ذلك في أية مرحلة. «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيــــه» ِ (الانشقاق/6).  فكلما كان المسلم أكثر علما وقدرة وعدلا ورحمة...كان أقرب إلى ربه تعالى. وكأنما حياة الإنسان سعي لا يتوقف إلى تحقيق كماله الذاتي والاجتماعــــي باكتساب صفــــات الله دون إدعـــاء الألوهيّة. فالإنسان/ الخليفة يظلّ مشدودا إلى مُستخلِفه وهو الله تعالى، حتّى لا يؤله الإنسان نفسه فيتنكر لأصله  ويحاول عبثا تجاوز حدوده فيطغى «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى  أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى» (العلـــق/6ـ7). وبذلك نقضي على  كل «العوائق المصطنعة والقيود التي تجمّد الطاقات البشرية وتهدر إمكانيات الإنسان. وبهذا تصبح فرص النمو متوفرة توفرا حقيقيّا. فكل هدف محدود لحركة الإنسان وكل إدعاء لبلوغ سقف التاريخ هو تجميد لحركة الإنسان». (5).
وهكذا يصير تطوّر المجتمع غاية ومقياسا للإيمان، وتلك من أهم دلالات العبادة التي خلق الله تعالى الإنسان من أجلها، كما يذهب إلى ذلك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بقوله «كما أنّه تعالى جعل نظامه في هذا العالم متّصل الارتباط بين أفراده، فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلاّ يفسد النظام، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضا شرّعت العبادة لتذكّر به، على أن في ذلك التذكر دوام الفكر في الخالق وشؤونه، وفي ذلك تخلّق بالكمالات تدريجا، فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مبدأ ونهاية، وبه يتضح معنى قوله تعالى «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون»، فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من الخلق». (6).
العبادة اتصال دائم بالله وتأصيل للرقابة الذاتية
العبادة في الإسلام وثيقة الصلة بمفهوم التقوى، بما هي استحضار دائم للرقابة الإلهية على الأفراد. ولما كان احتجاب الله تعالى بسبحات الجلال وعدم حضور ذاته، قد يُسرّب نسيانه إلى النفوس، كان لا بد من سلوك يُرسّخه، ولهذا الغرض أيضا فرضت الشعائر العبادية، التي تمثل محطات للتزوّد الروحي على طريق الإيمان، لذلك كان منها اليومي مثل الصلوات الخمس والأسبوعي مثل صلاة الجمعة والموسمي مثل الصوم والحج. إضافة إلى النوافل التي تكثر بارتفاع شعور الإيمان والتقوى. ويظل الدعاء، الذي يُوصف بمُخّ العبادة، والذكر عموما، من أهم أدوات شحذ الإيمان والتعبير عن التقوى والاتصال الدائم بالله تعالى. «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِين» (الذاريات/ 55) « الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» .(الرعد/ 28) يقول سيد قطب في تفسيره «تطمئن بإحساسها بالصلة بالله ، والأنس بجواره ، والأمن في جانبه وفي حماه ، تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق ، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضرر ومن كل شرّ إلا بما يشاء مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء ، وتطمئن برحمته بالهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة ، ذلك الاطمئنان حقيقة عميقـــة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله ، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين ، لأنها لا تنقل بالكلمات إنما تسري في القلب فيستروحها فيهش لها ويندى بها ويستريح إليها ، ويستشعر الطمأنينة والسلام» .(7).
والرقابة الداخلية المعبّرة عن تقوى المؤمن، تجعل التزامه بالنظام وبفعل الخير واجتناب المنكر والمسيئ، التزاما ذاتيا. ويتعزز هذا الشعور بعقائذ غيبية تؤصّله مثل الاعتقاد في الملائكة التي تحصي على المؤمن أعماله خيرها وشرها. كما أن الشعائر العبادية تساهم بدورها في تعميق هذا الشعور بالحثّ على الطاعة والتزام الضوابط كما يتجلى ذلك في الصلوات وما يتخللها من قراءة القرآن والعمل به. «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» (سورة العنكبوت/45). وإننا لنجد عبادات تفرض السرية في أدائها مثل الصوم الذي يربّي المسلم على التقوى والإخلاص. كما نجد عبادات أخرى مثل الحج، تفرض التفرُغ أيّاما معدودات والانقطاع عن نسق الحياة العادية ومحاولة التزام سلوك مثالي تفرضه مقتضيات الإحرام في المظهر والقول والعمل.
تلك بعض دلالات العبادة ومقاصدها في الإسلام التي تجعلها عبادة من أجل الحياة وليست مصادرة لها أو تضييقا عليها كما يذهب الظنّ بالبعض. وقد دلّت السنة النبوية القولية والفعلية أن الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو خير العابدين وأقرب الناس إلى الله تعالى، لم يكن يفصل بين العبادة والحياة ورفض المبالغة في التعبّد الذي يُجافي الحياة ويخرج عن سمات الاعتدال والواقعية والتيسير في الإسلام، فأنكر عليه الصلاة والسلام  كما ورد بالأثر،على الرهط الذين تقالّوا عبادته تشدّدهم، وقال: «من رغب عن سنتي فليس منّي»( رواه البخاري ومسلم)
الإحالات
(1) ابن منظور، لسان العرب، دار الكتب العلمية، بيـــروت، ج3، ص 335
(2) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، ج2 ، ص ص ص455 ـ 456
(3) محمد باقر الصدر، موجز في أصول الدين، دار الزهراء، بيروت، ص ص127، 128
(4) مرتضى مطهري، «المفهوم التوحيدي للعالم»، تونس (1990)، ص 15.
(5) محمد باقر الصدر، «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»، مكتبة الجديد، تونس، ص 19.
(6) محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس1984، ج1، ص 182.
(7) سيد قطب، في ظلال القرآن، (تفسير)