أسئلة خاصمتها الإجابة

بقلم
علي الطرهوني
مفاهيم الإرهاب في دول العولمة : الخطاب السلفي نموذجا وآفاق التجاوز

 مقـدمة : 

لقد دشّنت العولمة هويّة العصر الجديد من إعادة تشكيل الهويات الوطنية وتغييرها. وأمام هذا الواقع المتغيّر، كان على الأفكار العابرة للدّول أن تعيد صياغة استراتيجيتها وخطابها الإيديولوجي بحيث يمكّنها من امتصاص التحدّيات المصيرية التي تواجهها دون أن تفقد خصوصيتها. ومن هنا كانت الدعوات لإنجاح حوار الأديان بحيث ما تزال الرّؤية الطائفية المالكة للدين مهيمنة بدل أن يكون الدين للجميع.
وبمقدار ما أنتج عصرنا وبلادنا من استبداد علماني وديكتاتورية حداثية أفرز أيضا تشددا دينيا وتغلغلا سلفيا جهاديا أدّى إلى تنامي ظاهرة الإرهاب الأعمى.
يحقّ لنا أن نقول اليوم أنّ البشرية عجزت عن إنتاج خطاب ديني معتدل يؤمن بالتنوّع والانفتاح على الآخر ويحترم حقّ الأديان والأفكار بعيدا عن العنف والإقصاء بما ييسّر تجربة التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية. وهذا الكسل الإيديولوجي لم يقدّم بالنخب السياسية بقدر ما أفرز تطاحنا بل عودة للوراء أنتجت صراعات جوفاء داخل النخب السياسية والمجلس التأسيسي بل صرنا نشاهد جدلا عقيما اتسم بحوار الطرشان، فأضاعت الثورة التونسية فرص الانتقال الديمقراطي وإمكانات الإقلاع والبناء وتطهير الإدارة من الفساد وتحصين الثورة من السلفيين والتجمّعيين والسياسيين الراديكاليين والفاسدين والانتهازيين ودعاة العنف الثوري على حدّ سواء.
هذا يحدث نتيجة غياب العلماء والمثقفين عن الساحة وخلوّ الجوّ لدعاة الاستغراب والمستغربين. واستبدلت المفاهيم الغربية بالمفاهيم الإسلامية لغياب القدوة والنموذج، فتعدّدت المرجعيات إلى حدّ أصبح المسلمون يقتلون بعضهم بعضا ويكفّرون إخوانهم حتى غدا الانتماء إلى الإسلام من نقاب أو حجاب يفتعل لأجل معارك وهمية تخدم أغراضا سياسية مشبوهة.
لقد أفرزت العولمة الاقتصادية والسياسية ظواهر مخلّة بالأمن العام مثل الانتهاكات والتفجيرات وسهولة تداول السّلاح. وساهمت ثورة المعلومات في تطوير وسائل الاتصال بين الإرهابيين المتشدّدين وارتقت العولمة إلى ما قبل الحداثة أو تراجعت عن بعض قيمها كالتّسامح والانفتاح وقبول التعددية.
لقد كانت العولمة نتيجة سياسات مقصودة من أمريكا لزرع الفتن في مناطق الربيع العربي وتفتيت جسد الأمّة العربية. فقد وجدت أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أمام عدوّ اسمه الإرهاب الديني فشاءت أن تشجّع على التقاتل الداخلي وضرب الحركات الإسلامية بعضها ببعض من قبيل «فخار يكسر بعضه بعضا» حتى يتمّ لها إحكام قبضتها على الإرهاب الديني وعولمة الديمقراطية. فالديمقراطية سلاح جديد اخترعه المستعمر الجديد ليقلّص من دور الدولة ويضعف قبضتها على المجتمع. وفي ظلّ عدم الاستقرار الشديد الذي تتّصف به العلاقات الدولية وفي ظلّ تعدّد مصادر الإرهاب، أصبح الصّراع على تمثيل الإسلام شبيها بفترة انهيار الخلافة إذ قام التحالف بين الوهابية والحركة الإسلامية فاحتكر الأصوليون مهمّة الحديث باسم الإسلام. فجأة وجد التونسيون عدوّهم المشترك وهو الإرهاب السّلفي الذي تصاعد مع أحداث الشعانبي بالقصرين وتمرّد جماعة أنصار الشريعة بالقيروان ونحو ذلك.
فما المقصود بالإرهاب السّلفي ؟
ليس هناك مفهوم موحّد للإرهاب لأنّه أعمى لا هوية له ولا طبيعة له غير القتل وسفك الدّماء. جاء في تعريف جامعة الدول العربية للإرهاب ما يلي : «الإرهاب هو كلّ فعل من أفعال العنف أو التهديد به أيّا كان بواعثه وأغراضه تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي يهدف إلى إلقاء الرّعب بين الناس أو ترويعهم وإيذائهم أو تعريض حياتهم للخطر أو إلحاق الضّرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة».
إذن كلّ الأفعال التي ترمي إلى إيجاد حالة من الذعر بواسطة مواد متفجرة أو ملتهبة أو مواد سامّة هي أعمال إرهابية.
أمّا الحديث عن السّلفية فهو حديث عن مفهوم زمني تاريخي يعني محاولة إيقاف سير الزمن وحركة التاريخ وإجباره على التقهقر وإنتاج حياة ماضية في غير عصرها الذي نشأت فيه فهي عملية إحيائية.
إنّ الخطاب السّلفي هو خطاب طوباوي يضمر أملا في إنجاز أعمال خارقة لا يأتيها البشر ويبشّر بالجهاد حتى صار لدينا فائضا من الجهاديين نصدّرهم لدول شقيقة وهو منهج عكسي في الحياة انقلابي على العقل بل هو من علامات الكسل الإيديولوجي.
علامات الإرهاب كثيرة وأسئلته عديدة. أفلا يعدّ اغتيال الزّعيم صدام حسين والمناضل شكري بلعيد عملا إرهابيّا ؟ وجرائم الإبادة في صفوف مسلمي البورما ألا تعدّ عملا إرهابيّا شنيعا ؟ وما يحصل في سوريا بين الجيش النظامي والجيش الحرّ من مذابح ألا يدخل في خانة الإرهاب الأعمى ؟ وما حصل من قبل في نيجيريا ومالي والسيراليون وغزّة وفي سجن غوانتنامو ألا يصنّف ذلك ضمن الأعمال الإرهابية ؟
وهل إحراق السّفارة الأمريكية في تونس وتفجير سفارة فرنسا في طرابلس واغتيال السّفير الأمريكي في بنغازي إبّان الثورة ألا تعدّ من الأفعال الإرهابية ؟
بل إنّ أعمال الشّغب في بلادنا وحرق الممتلكات العامّة والخاصّة أليست كلّها أعمالا إرهابية ترقى إلى مستوى إرهاب الأفراد وإرهاب الدّول ؟! فكلّ جريمة لها قانون يعاقب عليها إلا قانون الإرهاب الذي لم يفعّل والذي يستبيح ذبح رجل أمن واغتصاب النساء والأطفال وقتل الجنود وإضرام النار في الأجساد والاعتداء على سلامة الأشخاص والتنقل في الطرقات ألا ترتقي إلى الجرائم والجنايات ؟ !
وأدعياء العلمانية واللاتي يتعرّين بدعوى الحريّة ألا يسلط ذلك علينا إرهابا بصريا متخفيّا ؟ إنّه الإرهاب المعولم بلا لون ولا طعم ولا رائحة. 
أبشري يا تونس !
إنّ القول بأنّ الإسلام هو الحلّ أو بأنّه هو المشكل لا يقدّم لنا معرفة أو تحليلا موضوعيا للواقع الإسلامي، فهو يطرح على المثقف المسلم معالم النهضة الثانية التي تقوم على قيمة الحرية : أعلى قيم العالم المتمدّن. إنّ الدول الرّاعية للإرهاب هي التي اكتوت بناره والخشية أن تخطئ أمريكا رمي سهامها وأن لا تفهم حركة النهضة والإخوان والأحزاب الأخرى أنّ الشعب الذي تقيّأ اللون الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد الذي لم يجلب لنا سوى الدمار والانتهاك. فالناس متساوون أمام الشّعور الديني وإن نجاحها فرصة لاختبار الذات، فكيف تتصدّى للعولمة والإرهاب ؟
إنّ التشدّد والتضييق على الناس منافٍ لروح الدين بعيدا عن غاية الدّعوة، فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلــم عن ذلك في قوله : « من شدّد، شدّد الله عليه ». ومن التشديد إلزام الناس بما لا يلزمهم به من كتاب ولا سنّة. فأقوال بعض الأئمة هي محض اجتهاد ليس فيها نصّ صريح. ثمّ الادّعاء بأنّ ذلك من السنّة لا يجوز التمسّك به فهو تعسّف عن الدين وقد نهى الشّرع عن تكفير المسلم. فالجهل هو أصل الفتنة ولا يصلح للمؤمن إلا أن يكون على بَصيرة من أمر دينه قولا وفعلا وهذا من مهمّة العلماء.
إنّ الحفاظ على هويّتنا هو صمّام الأمان ضدّ الإرهاب. فالوطن ليس مسألة اعتبارية قابلة للمساومة والزيادة والنقصان. إنّه مغروس في جذورنا. فلماذا ننسى أهمية المسألة الوطنية ضمن تصنيف مغلوط بين عصرين حداثيين وسلفيين تقليديين ؟ يقول غاندي : « كثيرون حول السلطة قليلون حول الوطن ».
إنّ الدّفع باتجاه التقاتل والتجييش بين الجماعات الإسلامية وأبناء الوطن الواحد والوقوع في الافتاء المجاني من هذا الجانب أو ذلك يجعل مصير الوطن على كفّى عفريت. فأنت إذا لم تكن معي في خندق واحد فأنت إرهابي أوّلا وأنت إرهابي ثانيا وأنت إرهابي ثالثا. ما أكبر الفكرة وما أصغر الدولة !
يجب ألا يدفعنا الخوف من الحرية إلى التضحية بها أو إرجائها فقد بقيت النخب العربية طيلة خمسين عاما على الرّبوة ليقوم النظام بحملات ضدّ خصومها أشبه بالتطهير العرقي والخائفون من الحرية سيعيشون ويموتون أسرى للاستبداد كما يقول الكواكبي. فنحن لا نحتاج إلى رئيس طاغية يحكمنا بل نحن نردّد مع فولتير أنّ التسامح هو النتيجة الحتمية لإدراكنا أننا غير معصومين من الخطأ وأننا أوّلا وأخيرا بشر جُبلنا على الاختلاف والمفروض أن لا يتحوّل الاختلاف إلى خلاف والخلاف إلى اقتلاع من الوجود. إنّ الوطن يتّسع للجميع وقد ندرك ذات مرّة أننا تونسيون... تونسيون حتى النّخاع.
خاتمـة 
إنّ الدين، كما يقول ابن خلـــدون، مُذهب للغلطـــة والأنفـــة ووازعٌ عن التحاسد والتنافس... فإذا كنّا بشرا فلا مفرّ من أننا نفكّر... وإذا فكّرنا فإننا نختار لأنفسنا عقيدة لأنّ العجز الفكري يفضي إلى السّقوط في العدمية. وإنّ المتديّن الحق هو من يجدّ في طلب الحقيقة ويسعى إليها.
واليوم بعد عامين من الثورة، ماذا حققنا غير الاستهزاء والسّخرية برؤوس الحكم ؟... لقد مللنا من السّباب والتكفير والتخوين، فدعنا نمرّ لشيء آخر أهمّ.
إنّ الثورة على الاستبداد قد تنتهي أكثر سوء من قبل آخرين يعيدون إنتاجها وهذا ما لم تفهمه النّخب وهو ما فوّت علينا فرص الوحدة والبناء والقضاء على الإرهاب...