تجليات

بقلم
عادل دمّق
أثر الصيام في إصلاح الجانب العقلي

 العقل هو مناط التكليف في الإنسان، وبه كُرِّم عن غيره من المخلوقات، ولأجله تحمَّل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، والصيام ذو أثر مباشر في تقويم العقل وإذكائه، ويبدو ذلك فيما يلي:-

1- إذا كان الهدف من الصيام هو تحصيل التقوى كما قال الله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: من الآية 21)، فإن هذه التقوى تفتح على المسلم آفاق العلم والخير لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 282)، فقد يُؤتى الإنسان بها الحكمة لقوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269)﴾ (البقرة).
2- الصيام يجعل عقل الإنسان أكثر نشاطًا وإدراكًا لأن البطن إذا امتلأت تُذهِب الفطنة كما جاء في الأثر «البطنة تُذهِب الفطنة»، ومن أكل كثيرًا نام كثيرًا، وحرِم من خير كثير، فمن أراد أن يحصِّل من أسباب العلم ما يوسِّع به مداركه فلا يشبع؛ لأن من ملأ بطنه بالطعام سرعان ما ترتخي أعضاؤه، ويميل إلى الكسل، ويخلد إلى النوم الطويل، لكن صيام رمضان بآدابه من الإقلال من الطعام والشراب، وصيام النوافل يعوِّد الإنسان على الاقتصاد في طعامه وشرابه، بما يحفظ لعقله فاعليته، ولنفسه القدرة على حدة التفكير، وطول السهر تحصيلاً للعلم.
3- كثرة قراءة القرآن في هذا الشهر، أو الاستماع إليه في صلاة التراويح، أو غيرها مما يرسي أصول العلم لدى المسلم أو المسلمة، ففي القرآن أصول العلم التجريبي، وأصول العقيدة الصحيحة وقواعد التشريع الكاملة، وقصص السابقين من الطائعين والعاصين،والابعاد الجمالية وهذا من أكبر موارد النمو العقلي.
4- لا شك أن مفردات أحكام الصيام تؤثِّر تأثيرًا قويًّا في صياغة العقل الإسلامي صياغةً مرنةً، ويبدو ذلك مما يلي:-
أ- لا بد للإنسان أن يزن الأمور بميزان العقل لا العواطف فقط، وفي هذا يُقال «ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول».
ولذا فإننا نرى نبينا صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمرو وهو يريد أن يصوم كل يوم، فأمره ألا يزيد عن صيام يوم وإفطار يوم، يقول: «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر»، قال: فصرت إلى الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فلمَّا كبرت وددت لو كنت قَبِلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم.
ب- نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، وفي هذا يروي البخاري بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والوصال»، مرتين، قيل: إنك تواصل قال: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون-
والحقيقة أن الإنسان يجب أن يدرك طاقته، ولا يكلِّف نفسه إلا على قدر وسعها لقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)، وهذا يقتضي المرونة في التعامل مع المواقف بما يحقق الهدف، دون أن يذلَّ الإنسان نفسه، بأن يحملها ما لا تطيق، ثمَّ يتضاعف عنده الشعور بعدم الثقة في النفس في نهاية الأمر، ولذا هناك رواية لمسلم في نفس الباب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تمادى لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم» ، يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعوِّد هؤلاء الغلاة إلى الواقع، وألا يبالغوا في تقدير طاقاتهم أو إمكاناتهم، وأن يتعاملوا مع دين الله تعالى بنفس درجات التيسير، التي وردت به دون تعمُّق أو مغالاة.
ج ـ- إذا تحققت هذه المرونة لم ير واحد لنفسه فضلاً على غيره؛ لأن الله تعالى هو أعلم بمن اتقى؛ ولذا يروي الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان، فمنّا من صام، ومنّا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم»
د- لا شك أيضًا أن عقلية المسلم تكون في غاية المرونة وهو يقرأ من أحكام الصّيام أن كل ما دخل الجوف مما يستحيل التحرز منه لا يفطر مثل رائحة الدخان أو الطيب أو الماء الذي يسبق إلى الجوف عند المضمضة مع عدم المبالغة وما دخل عن طريق المسامع عند العطس أو الاستحمام ومن خرج منه منيٌ بغير شهوة فصومه صحيح، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه، ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، والقطر في العين لرمد لا يفطر الصائم، والحقن للتداوي لا تفطر، هذه الأحكام وأمثالها تصوغ العقل المسلم صياغة رائعة مرنة قوية، يضع الحدود ويقدر الأعذار ويراعي الظروف والأحوال التي تخرج من طاقة كل إنسان فيقدرها بقدرها الاقبال على القلب والنفس