خاطرة

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الوارثون

 ورد في صحيح البخاري أنّ العلماء ورثة الأنبياء  فما المقصود بالعلماء هل هم الفقهاء ورجال الدّين وحدهم أم هم أصحاب المعارف على اختلاف أنواعها، وماذا ترك الأنبياء قبل ذلك حتّى تتّضح طبيعة هذا الميراث ومن ثمّ طبيعة الورثة؟

لقد ترك الأنبياء كتبا عمادها نصوص تستوجب النّظر وإعادة النّظر تفسيرا وتأويلا، وهو عين المقصود من الاجتهاد، ولا معنى لما روّج له الأصوليّون من أنّه لا اجتهاد مع النّصّ، والحال أنّ الاجتهاد إنّما يكون بالنّصّ وفي النّصّ.
إنّ المتأمّل في الآيتيْن 27 و 28 من سورة فاطر 35 واللّتّيْن هما كالتّالــــي: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَـــــامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُــــورٌ» يجد إشارات متنوّعة إلى علوم عديدة منهــــــا: علم الأنواء وعلم الأرض وعلم الأجنـــــاس وعلم الأنواع وقد أُردفت كلّ هذه العلــــوم بتعليق مفاده أنّ الّذين يخشون الله إنّما هم العلماء وهؤلاء هم الّذين يحسنون علوم الوسائل ويتقنونها ويمتلكون نواصيهــــا وهي معارف لا تقلّ قيمـــــة عن علوم المقاصد الملّيّة والدّينيّة لأنّها علوم تهتمّ بمجريات الحياة الدّنيويّة من أجل اكتناه قواعد الوجود الإنساني والأنظمة المتحكّمــة في الكون وحركـــــات أجرامه هي الكلمات وهي عيْن كلمات الله الّتي لا تنفد لأنّها تتّسع باتّساع الفضاء « وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» .
لمّا ضاقت دوائر الاجتهاد وغلب التّقليد من خلال التّركيز على الشّرع، انحصر الرّأي وقُسرت عبارة العلماء على إفادة الإلمام بالفقه والتّفسير والأصول فحسب. وقُسّمت العلـــوم إلى وسائل ومقاصــد، ولا يخفـــى التّفاضل بين الوسيلة والمقصـــد، والحال أنّ الوسيلة، فضلا عن اعتباطيّة هذا التّقسيم، تستمدّ قيمتها من كونها تمثّل الأداة الموصلة إلى الغاية المنشودة والمعبر المفضي لها ودون ذلك خرط القتاد.
وإذا كان القرآن قد تضمّن أنماطا وأنظمة معرفيّة كليّة فإنّ قدرة العقل البشري تتجسّد في السّياحة في أرجاء هذه الأنظمة استقراءً واستنباطا ليصنع قضاءه بذاته في نطاق القدر الّذي هو النّواميس الكونيّة وهي الّتي لا يجد الإنسان من دونها ملتحدًا إذ «لاَ تَبْدِيـلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ» ، وهكذا يجد الإنسان متّسعا لنحت ذاته وفرضها في أنساق معرفيّة جزئيّة.