في النقد الادبي

بقلم
رشيد وديجى
هل انتهى احتضار الأجناس الأدبية بموتها ؟

 هل مازلنا اليوم في حاجة إلى الحديث عن أجناس أدبية؟ أليست الأعمال الأدبية الكبرى بالنسبة إلينا متفردة، ومن ثم يتعذر تصنيفها في خانات محددة جاهزة ؟ أليست الأعمال موجودة بمعزل عن باقي الأعمال الأخرى ؟ لماذا لا نعتبر ملحمة مــا (أوديسة هوميروس) رواية مغامــرات ؟ لمـاذا لا يكون كتـــاب فكتورهوجــــو 1856 «les Contemplations» مثلا سيرة ذاتية، وليس ديوانا شعريا ؟  ألم يسمي كتابه هذا بـ «les Mémoires d’une âme» ؟ لماذا، إذن، تقييد عمل ما بهذا الجنس  أو ذاك ؟  لماذا لا نترك له حرية لا أن يكون رواية، أو مسرحية،   أو قصيدة، بل أن يكون و كفى ، أي أن يكون بما في حد ذاته فقط ؟ أليس القراء هم وحدهم المؤهلون للحكم على نص ما بأنه مسرحية، أو رواية، أو قصيدة ؟

صحيح أن الأجناس كانت فيما مضى متعددة و محددة بدقة وصرامة ، بحيث لم يكن بالإمكان خلط الكوميديا و التراجيديا مثلا، لكن الشعرية المعاصرة تميل إلى اعتبار مفهوما عتيقا باليا قديما ، وتنظر إلى الآثار الأدبية الخالدة من حيث تمردها على كل أصل، وتحررها من كل تاريخ.
يقول خورخي لويس بورخيص (1) Jorge Luis Borges : «ما هو الكتاب إذا لم نفتحه؟ إنه مجرد أوراق مركونة، لكننا إذا قرأناه، فإن شيئا ما غريبا يحدث، إنه يتغير في كل قراءة، لقد قال Héraclite   إننا لا نستحم أبدا في نفس النهر مرتين لا مياهه تتبدل، لكن الفظيع هو أننا لسنا أقل قابلية للتبدل من الماء، ففي كل مرة نقرأ كتابا يكون الكتاب قد تغير» (2).
وفوق هذا فإن نصوصا من نوع خاص تتأبى على التصنيف ضمن خانات أجناسية معينة، ناسفة فردية نقاء الجنس، و الحدود الفاصلة بين الأجناس، حيث يختلط فيها السرد الروائي بالكثافة الشعرية، و بالنفس الملحمي، و بالمشهدية المسرحية، و بالبوح الأتوبيوغرافي ،...، فكيف سنسمي هذه النصوص؟
هل سنسمي كل منها النصوص «Texte» أو«écriture»؟ ونعتقد أن هذا السؤال لا يجب طرحه كما فعل رولان بـــارث (3)   Roland  Barthes، لا نعتقد هذا بسبب وجيه هو الخلط بين الأجناس الأدبية، و تدمير الحدود بينها معرفة قبلية بهذه الأجناس.
لا يمكن خرق معيار أو نسف تقليد إلا إذا استحضرنا ولو في اللاوعي هذا التقليد، لذلك، فالأجناس الأدبية موجودة حقا وبما لا يقبل الجدل، فإذا لم تكن موجودة داخل النصوص نفسها (التقعير) فهي موجودة خارجها أي فيها يسميه (4)  Gérard genette  بـLe Paratexte    أي النص المحاذي مثل الغلاف، والحوار الصحفي، والمقدمة...، حيث توصف النصوص بأنها رواية، أو مجموعة قصصية، أو دراسة، أو مأساة في خمسة فصول، أو تخييل ذاتي Auto-Fiction.  
هذا إذا لم يكن العنوان حاملا للمحدد الجنسي للنص « حكايات ألف ليلة و ليلة»، و«قصة حب مجوسية» لعبد الرحمن منيف، و«قصائد متوحشة» لنزار قباني، و«Les Fables de la Fontaines»،  ومن ثم فإن مفهوم الجنس الأدبي يفرض نفسه بالضرورة.
فحتى Roland Barthes  نفسه الذي يفرق بين النص المتعدي  Texte Transitif أو النص المقرأنTexte Lisible، أو نص المتعة Texte Plaisir ، وبين النص الـــلازم Texte Intransitif  والنص المكتبــــــــــــن Texte Scriptible ، وبيــن نص اللـــــــــــذة Texte de Jouissance ، يستحضر ولو في اللاوعي مقولة الجنس الأدبي، فأن تفرق بين نص أو آخر كما فعل بارث ، ألا يعني هذا أنك تجنس كل منهما في خانة جاهزة ؟ 
يبدو إذن غير ممكن تجنب فكرة الجنس الأدبي ، فكل نص يستجيب تصريحا أو تلميحا إلى نوع من القانون الجمالي العام، بل إنما يدعى بالروائع أو الآثار الخالدة و بالكتابات الحداثية نفسها لا تعدو كونها أصداء مباشرة أو غير مباشرة لأجناس أدبية ثابتة على امتداد العصور تسعى إلى دحضها، أو استبعادها، أو تدميرها.
فمن البدهي أن سعيها هذا لا يجعل من مقولة الجنس لاغية باطلة، إن كل نمط كتابي جديد في وقته يتغذى من دينامية هذه الخروق، والتجاوزات، والابتداعات التي تطور الأساليب و القوالب والأشكال، وبعد أن يبلغ نقطة الذروة فإن نمطا كتابيا جديدا آخر يعوضه تبعا لقانون التطور الأدبي. 
ومن ثم فإن الشيخوخة أو أفول الأجناس المفترضة ليس سوى مرحلة من مراحل تطورها، كما أن الجمالية الرومانسية وكذا الطلائع الأدبية في القرن العشرين (الدادائية، السريالية، المسرح المضاد، اللارواية «الرواية الجديدة، ومسرح الوقعة Happening ليست ظواهر شاذة في تاريخ الأشكال الأدبية، إنها بالأحرى صيغة مختلفة لطرح مشكل الأجناس الأدبية، فالأمرلا يتعلق برفض الأجناس الأدبية بقدر ما يتعلق بمضاعفتها بالتنويع عليها ( قصيدة النثر و المسرح الملحمي والتخييل  الذاتي و الرواية العجائبية) ، لذلك وبدل الاهتمام بتصنيف النصوص في خانات أجناسية متمايزة ومتباينة، يبدو من الأجدر إبراز مابين هذه النصوص من علاقات وتجاذبات وتنابذات، بمعنى آخـــــر، ينبغي الاهتمـــــام بما يدعــــوه Gérard Genette بـ la Transtextualité عبر النصية أي كــــل ما يجعل نص مــــا في علاقة جلية أو خفية مع نص آخر.
وقد ميز جنيت بين خمسة أنماط عبر نصية يهمنا منها اثنان هما (5): 
• التناص L’intertextualité
•النص المتفرع أو النصية الفوقية L’hypertextualité 
أما الأول فهو علاقة التحاضر بين نصين أو أكثر أي الحضور الفعلي لنص ضمن نص آخر. والثاني وهي تعلق نص (ب) و يسميه النص الفوقي «l’hypertexte» بنص سابق (أ) ويدعوه النص  التحتي «l’hypotexte» ، بحيث يشتق (ب) باعتباره نصا في الدرجة الثانية من( أ) باعتباره نصا أصليا أو بؤريا.
لكن هل حقا انتهى احتضار الأجناس الأدبية بموتها ؟
إن كل هذه النظريات و المواقف النقدية على رغم اعتراضها على تجنيس الأدب تحيل ضمنيا على مفهوم الجنس الأدبي، وكتاب النصوص الحداثية أنفسهم يستحضرون في أثناء الكتابة تلك المعايير الشكلية ، و الأجناسية الكلاسيكية التي يدعون أنهم سيخرقونها صحيح إنهم يجربون تقنيات، وأساليب، وقوالب مختلفة،  لكن الاختلاف لا يكون إلا تبعا لمعيار مكرس، ثم ألا تعد الكتابة خارج المعيار ذاتها معيارا جديدا سرعان ما سيستنفذ قوته و سحره، وسيندثر ليحل محله معيارا آخر مختلف .
يبدو أنه لا مناص من مقولة الجنس الأدبي إن لم يكن بغاية تكريسها فعلى الأقل بغاية مجاورتها، فكتابات موريس بلانشو النظرية نفسها التي يبدو أنها دقت آخر مسمار في نعش هذه المقولة، تنطوي خفية أو تمويها على أجناس أدبية قياسية فن الرواية والشعر والرحلة والمذكرات و تقليعة مسرح العبث أو الرواية الجديدة في فرنسا ما هي إلا تطوير للمسرح الكلاسيكي، و تطوير للرواية البلزاكية، وهذه الرواية الجديدة ذاتها سرعان ما ابتذلت لتحل محلها تقليعة أخرى تدعى الرواية الجديدة الجديدة ، ثم ألم يستسلم أصحاب هاتين التقليعتين أنفسهم في نهاية مشوارهم الإبداعي إلى إغراء الكتابة الروائية المعيارية ، التي سبق لهم في البداية أن أعلنوا تمردهم القوي عليها؟
وإدوار الخراط نفسه هذا المبدع المهووس بالتجريب تنظيرا وممارسة،ألا تحضر آثار الروائي  والشعري فيما يدعوه «الرواية- القصيدة»، مثلما تحضر فيما سبق لـ جون إيف تادييه Jean  Yves Tadie أن دعاه Le Récit Poétique   ؟ (6)
الحواشي:
(1) خورخي لويس بورخيس (Jorge Luis Borges)، (1899 - 1986) كاتب أرجنتيني يعتبر من أبرز كتاب القرن العشرين بالإضافة إلى الكتابة فقد كان بورخيس شاعرا وناقدا وله عدة رسائل.
(2)  -Jorge Luis Borges , Conférences, Collection Folio , N 92, Gallimard, Paris, 1985, P157. 
(3)ارتبط اسم الناقد والكاتب الفرنسي رولان بارت بحركة النقد الجديد وبالمدرسة البنيوية. وتتميز أعماله بأنها شديدة التنوع، وهي أكثر من خمسة عشر كتاباً أصبحت معروفة للقارئ العربي، منها (درجة الصفر للكتابة) و(ميثولوجيات) و(نقد وحقيقة) و(لذة النص) و(هسهسة اللغة). وأخيراً (خطاب عاشق).
(4) ويعد الناقد الفرنسي «جيرار جينيت» (1930) من أهمّ النقاد الذين أثروا في الحياة الثقافية والأدبية في العالم، ولاسيما في أوروبا. 
نشر جيرار جينيت كتابه الأول (أشكال I) عام 1966، و(أشكال II) عام 1969، حيث حاول أن يؤسس فيها نظريته في الشعرية معتمداً بصورة أساسية على الأساس الذي انطلق منه البنيويون وهو اللغة. وفي كتابه الثالث (أشكال III) الذي نشره عام 1972، أكّد على الخطاب السردي ضمن قدراته وحدوده، ومغامراته، وقد اختار للقيام بعمله هذا رواية (البحث عن الزمن الضائع)، ورأى فيها المثال النموذجي للسرد الكلاسيكي. ويشكل كتابه (Minologiques) عام 1976 نقطة هامة في مسيرته النقدية عندما بدأ يهتم بصورة أساسية بالكلمات، ويتساءل إذا كان للكلمات أن تشكل صورة عن الأشياء. وقام في كتابه (طروس، 1982) بعملية جرد للأعمال الأدبية التي تستند إلى أعمال أدبية أخرى، سواء عبر محاكاتها أم عبر تحويلها، في حين أن كتابه (عتبات، 1987) يهتم كثيراً بما يسميه جينيت (Paratextes- مرافقات النص) في موازاة ذلك يعدّ عمل (عودة إلى خطاب الحكاية، 1983) مراجعة نقدية على كتابه خطاب الحكاية، وهو جزء من (أشكال III) وإضافة من موضوعة السرد، يرصد جديد السرديات في الفترة ما بين الكتابين. ويكاد عمله الأخير (أشكال IV، 1999) يتوج حياته الأدبية والنقدية والتنظيرية.
(5) حدد جيرار جنيت Gérard Genette موضوع الشعرية في كتابه «طروس Palimpsestes « في ما سماه     بالعبر- نصية  Transtextualité، وقد ميز فيها بين خمسة أنماط هي : التناص  Intertextualité والنص المحاذي Paratexte و النص المتفرعHypertextualité  و جامع النص Architextualité ، بالإضافة إلى الميتانصية Métatextualité . يرجى الاطلاع في هذا الإطار على  : 
Gérard Genette – Palimpsestes : La littérature au second degré - seuil 1982.
(6) Tadié Jean Yves: Le récit poétique, PUF.Paris, 1978