قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
لا فقر في رمضان

   يحتفل المسلمون بشهر رمضان أيما إحتفال. ينتظرون قدومه مستبشرين ببركاته ويعدونه الشهر المفضل عندهم عما عداه، وهو شهر القرآن تنزيلا وتقديسا، وإنك لترى الناس متحلّقين في المساجد يتلون ما تيسر منه آناء الليل وأطراف النهار.  ومن آيات تفضيله وتبجيله عند التونسيين تحديدا أنهم يسمونه سيدي رمضان . واللذين هم في مثل سني شهدو ا الشهر في أشهر الحرّ وكابدوا صومه صغارا ولم يفروا منه الى الشهوات وتلك سمة من سيماته، إذ تزداد حبّا له كلما تقدم بك العمر أكثر حتى أن الناس في شيخوختهم يحتالون على الأمراض والأطباء ويتركون النصيحة بالإفطار، موقنين بقول نبيهم الكريم صوموا تصحوا.

شهر رمضان هو شهر الصوم وهو كذلك شهر الهدى والتقوى، يتخذه المؤمنون سببا للتقرّب من الرّحمان، آملين أن يكونوا في موفاه من المعتقين من النار. غير أن توالى قدومه عاما وراء عام لم يجعل منا نحن المسلمون خير أمة أخرجت للناس رغم قوة الطاقة الخلاقة التي يمدنا بها سنة وراء أخرى، فهل علّة ذلك في النسيان الذي سرعان ما يلف الشهر وفضائله أم العلة في كوننا لم ندرك بعد كيف نستفيـــد من تلك الطاقة الخلاقة التي يمدنا بها؟
جاءنا الشهر الكريم في هذه السنة مثقلا بهمومنا الكثيرة وإننا لنرى على إمتداد الأمة الإسلامية ما لا تخطئه العين من أزمات تغرق فيها أمتنا من دون أن تظهر أي بوادر على بداية التأسيس لمشروع نهضوي حقيقي، بل إن ما حدث في مصر مثلا من إنقلاب عسكري قد أعادنا الى مربع الأسئلة الخانقة التي خلنا أننا بدأنا نبحث لها عن إجابات وأهمها سؤالي الديموقراطية والتنمية الذين جاء الإنقلاب ليضع لهما حدودا لا يمكن أن تجعلهما في المتناول علي الأقل في المدى المنظور، إن لم تستطع الثورة المصرية أن تستعيد ما سرق منها قبل أن يودعنا الشهر الكريم.
 إن السمو الروحي الذي نشعر به جميعا طوال هذا الشهر المبارك لا يمكن أن يكون ذا جدوى إن لم يحملنا حملا على إقتحام المجال الحيوي لقضايانا ومكابدتها بذات القوة التي نكابد بها مشقة العبادات التي ما شرعت في رأينا إلا لمساعدة الإنسان على خلافة الله في الأرض، خلافة تتحقق له بها أسباب العيش الكريم وإلا كانت رهبانية نبتدعها وأفيونا نتلهى به إمعانا في الهروب .وما دام الأمر على هذه الأهمية فهل يصحّ مثلا أن نستقبل هذا الشهر المعلم بكل هذه السطحية، فقد دأب إعلامنا الثوري على تخويف الناس من الشهر الكريم فهو شهر يأتينا هذه السنة مثلا في أشهر الحرّ الشديد، وسط موجة من الغلاء فى الأسعار والمقصود بالطبع أن الدولة لم تفلح فى الإستعداد له بما يجب من تخزين للمواد الغذائية. فنحن إذن موعودون فيه بمجاعة لن ينجو منها الا الذين اعتادوا النجاة كل عام بما يتوفر لهم من ثراء، أما بقية الناس والفقراء منهم خاصة، فيا ليت الشهر لم يأتهم ليزيدهم هموما على همومهم . وهو عند إعلامنا المفدى لم يكن أبدا شهر مغفرة ورحمة، وإنما هو شهر التسلية والمجون والتهريج وهذا يتولاه تجار الفنّ الهابط والابتذال، فيغنمون هم من المال ما يسمح لهم بالصوم فى رغد من العيش ولا نغنم منهم نحن الاّ التفاهة والتهريج، بل إن بعضهم لم يدخر جهدا فى سب الثورة ومن أتت بهم فى ما  يدّعيه ابداعا .
إن إفراغ العبادات من جوهرها الحقيقى يفرض علينا نحن المؤمنون تحديا حقيقيا إذ أننا المعنيون دون غيرنا بالتأكيد على كل القيم النبيلة التي ترعاها هذه العبادات وإلاّ أخرجناها من سياقها الحقيقى أي سياق الخلافة فى الأرض لنضعها ضمن سياق آخرفنجعلها مجرد طقوس لا تنفع الإنسان فى دنياه أو فى آخرته . وجوهر الخلافة فى الأرض إعمارها وتعميرها ضمن المقاصد الربانية خلافة تحقق للإنسان الأمان والعزة وأسباب الحياة الكريمة فى تصالح تامّ للبشر مع أنفسهم ومع خالقهم ومع الكون الذي استخلفوا فيه  وهذا فى اعتقادنا هو السياق الذي يجب أن تتنزل فيه رسالة الشهر الكريم. 
إننا وبالعودة الى سؤال التنمية الذى نعتقد أنه جوهر الرسالة الأنسانية، لا  نرى أي إمكان لتحقيقها بهذا الكم الهائل من الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلونه فى هذا الشهر الكريم كما فى غيره من الشهور، لأنه إذا وضعنا جانبا ما يدعيه بعض المنظرين الإقتصاديين من  كون نسبة ما من الفقر ضروري وجودها فى أي مجتمع فإنه بالإمكان التأكيد أن جوهر الدّين ومقاصده لا تقبل هذا الحيف المسلط على هؤلاء الفقراء، كما أن تحديات التنمية الحقيقية تكمن فى جعلهم جزءا مساهما فى رقي المجتمع لا كتلة تعيش على الهامش منه .
إن الذين يعمرون المساجد ليلا ونهارا إنما يفعلون ذلك تقرّبا الى الله وحبا فى النجاة من عذاب الآخرة وهم لا شك يعرفون أن رسولنا الكريم كان أجود ما يكون فى رمضان والناظر إلى مساجدنا العامرة يلاحظ ما هي عليه من روعة فى البنيان وأبهة فى الفرش والسجّاد وكل ذلك إنما هو من عطايا الناس المتحمّسين لإقامة بيوت الله وهو جهد محمود ولكننى أعتقد أن  إلقاء كل الحمل على كاهل الدولة إنما هو فعل أخرق وابتزاز سياسي لا طائل من وراءه. أفلا يجدر بنا حينئذ أن نؤسس لمقاربة جديدة يكون فيها للمساجد والجمعيات الخيربة وعموم الناس دور رئيسي في التصدي للفقر والمعانات والخصاصة ضمن استراتيجية دقيقة لا بأس أن تتولى الدولة معاضدتها يكون هدفها القضاء النهائي على الفقر والحاجة ضمن خطط محلية سنوية من رمضان إلى رمضان، وهكذا يصبح الشهر الكريم شهرا محفزا للمتدينين ولغيرهم يعطيهم الطاقة الحوية فى حربهم على الفقر. ألم يرد فى الأثر( قد كاد الفقر أن يكون كفرا)