تجليات

بقلم
عادل دمّق
نور الله ... وأفواههم !

 نور الله ..وأفواههم!

نور الله ..وأفواههم!
نقرأ في التنزيل :بسم الله الرحمان الرحيم 
«يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ»[التوبة:32] 
«يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ» [الصف: 8]. 
في قوله تعالى في الآيتين: «نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ» إضافتان: إحداهما إضافة النور إلى الله تعالى: «نُورَ ٱللَّهِ»، والمراد به دين الإسلام، والأخرى إضافة الأفواه وهي الآلة المستعملة للإطفاء إلى جماعة المريدين لإطفاء النور: «بِأَفْوَاهِهِمْ». 
وعند التأمل في الإضافة الأولى: «نُورَ ٱللَّهِ» نجد أن النور المضاف قد اكتسب قدرًا من خصائص القوة والعظمة والشرف والعلو والبقاء من المضاف إليه (الله)، فأنت تستشعر حينما تتلو: «نُورَ ٱللَّهِ» أن الحديث عن نور يستمدّ قوته وعظمته وكماله من (الله) القوي العظيم الكامل، ونور يتسامى رفعةً وشرفًا وعلوًا؛ لأنه يكتسب علوّه من (الله) العلي، ونور باق دائم كبير قد أضاء الأفق وامتدت به المساحات، وانتشر سناه لينير مسارح الطرف، ومنتهى البصر. 
وبعد الشعور بهذه العظمة التصويرية تأتي الإضافة الأخرى: 
«بِأَفْوَاهِهِمْ» بإضافة الأفواه الضعيفة إلى نفر من البشر المخلوقين الضعفاء، فالمضاف فيها وهو كلمة: (أفواه) على ما فيه من الضعف العضوي والعضلي يزداد ضعفًا من خلال إضافته إلى الضمير المتصل (هم) العائد إلى أولئك المهازيل الذين يريدون إطفاء نور الله تعالى، وهذا من عجيب البيان؛ إذ يجمع أمرين، أحدهما: التهكم بإرادتهم وزعمهم أنّه نور ضعيف يمكن أن ينطفئ بمجرّد النفخ، والآخر: تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم، فهم بالمقارنة مع قوة الخالق العظيم ضعفاء، مهما أوتوا من قوة، ومحدودون، مهما استعملوا من آلة وأداة، فكيف إذا كانت أداة الإطفاء أفواهَهم ؟ 
إنك حينما تقف وقفة التأمل التصويري هذه تشعر بالأسى والشفقة على هؤلاء؛ لأنك تشاهد أمامك نورًا عظيمًا عاليًا قد ملأ محيط النظر، ثم تلتفت إلى زاوية سفلية من زوايا المجال البصري لترى عددًا من الأقزام الصغار، قد مدّ كل واحد منهم فمه، وكوّر شفتيه، ورفع رقبته عاليًا، وبدأ ينفخ وينفخ، وربّما تجد بعضهم قد اعتلى أكتاف بعض ليصل بنفخه إلى أعلى ما يستطيع من المدى، ظانّين أنهم قادرون على إطفاء النور، في محاولات عبثية بائسة يائسة أمام ذلك النور العظيم المتنامي. 
اتّفقت الآيتان بالبدء بالفعل المضارع: «يريدون» الذي يدل على الحدوث والتجدّد في الحاضر والمستقبل، ولم يأت التعبير بالفعل الماضي (أرادوا) الذي يدل في الأصل على انقضاء حدوث الفعل في الزمن الماضي. 
فهم يريدون بصورة متجدّدة ومتكرّرة إطفاء نور الله منذ ظهور ذلك النور إلى زمننا الحاضر ، وستتجدّد معهم تلك الإرادة وتستمر ما بقي هذا النور الممتد على مدى الزمن المتتابع، وما بقيت فيهم قوة على النفخ. 
إنهم عبر التاريخ لم يقفوا عند حد انحرافهم الشخصي عن دين الحق، واتّباعهم شهواتهم، إنما هم كذلك يعلنون باستمرار الحرب على دين الحق، ويريدون إطفاء نور الله في الأرض. 
وهذا التجدّد الملازم لهم في السعي لإطفاء نور الله والصدّ عن سبيله يتكرّر في مواضع أخرى مبثوثة في كتاب الله، يؤكّد بعضها بعضًا، تأمّل قول الله تعالى:  «وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً» [النساء: 27]. 
وتضيف بعض المواضع القرآنية التي تبيّن مراداتهم خطوات عملية يقومون بها ويتواصون عليها، تأمّل على سبيل المثال الفعل المضارع «ينفقون» المجرد من السين، والآخر المسبوق بها، وما بعد الفعلين في قول الله تعالى: 
«إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» [الأنفال: 36]
فهم ينفقون وسينفقون الأموال المضافة إليهم إضافة ملكية وحيازة، ويشترون الضلالة ليصدّوا عن سبيل الله، كما في قوله تعالى: «يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل» [النساء: 44]، لكنها ستكون عليهم حسرة وخسارة في الدنيا، وعذابًا وندمًا في الآخرة. 
ومثل هذا في كتاب الله كثير، ولو أنك رجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن في مادة (صدد)، وتأمّلت في الآيات التي تكرر فيها ذكر الصدّ عن سبيل الله وأنّهم يبغونها عوجًا لوجدت عَجبًا. 
في آية التوبة: «يريدون أن يطفئوا»، وفي آية الصف: «يريدون ليطفئوا»، وقبل النظر في دلالات هذا الاختلاف بين الآيتين، والمعنى الذي يُضيفه دخول اللام في الثانية، أودّ أنْ أشير إلى مقدّمة نحوية يسيرة تُعين على فهم المعنى، وهي أنّ الفعل المضارع «يطفئوا» في الآيتين منصوب بـ (أنْ) الظاهرة في الأولى، والمضمرة في الثانية، وتقدير الثانية: يريدون لأنْ يطفئوا، و(أنْ) والفعل المضارع بعدها تؤوّل بمصدر (إطفاء)، وعلى هذا يكون التقدير في آية التوبة: يريدون إطفاءَ نور الله، وفي آية الصف: يريدون لإطفاءِ نور الله. وهذه اللام هي لام التعليل على الصحيح من آراء أئمة النحو. وفي هذا الاختلاف اللفظي بين الآيتين إشارة إلى أنّهم يغايرون في إظهار غاياتهم وأهدافهم، ففي آية التوبة هم يريدون إطفاء نور الله صراحة وبصورة ظاهرة ومباشرة، فالإطفاء (وهو المفعول به للفعل: يريدون) هو مرادهم علنًا، فالغاية من إرادتهم هنا ظاهرة وصريحة. أما آية الصف، وتقديرها: (يريدون لإطفاء نور الله) فالشيء المراد فيها (وهو المفعول به للفعل: يريدون) غير مذكور، أي أنّهم يريدون مرادات مختلفة يجعلونها وسائل موصلة في نهاياتها إلى إطفاء نور الله، فهم لا يَظهرون أو يُظهرون علنًا أنهم يريدون الإطفاء، وإنما يريدون أن يصلوا إلى الإطفاء من خلال طرق غير مباشرة توصل ـ في زعمهم وتدبيرهم ـ إليه، ولذلك تجدهم في هذه الحال يَظهرون بعباءات مختلفة، ويدعمون البرامج والمشروعات، ويرفعون شعارات إصلاحية في ظاهرها، لكنّها تتغيّا في حقيقتها إطفاء نور الله. 
وما من شك في أنّ خطورة هؤلاء في الحال الثانية، وهي حال الغايات المخفية أشدُّ من خطورتهم في الحال الأولى التي يصرّحون فيها بمراداتهم، ويُعلنون فيها غاياتهم. 
جاء الموقف الرباني من تلك الإرادات والغايات في الآيتين مختلفًا في المبنى؛ ليعطي المتأمّلَ دلالات إضافية في المعنى، تتناسب مع اختلاف الدلالات في الغايات في الآيتين: 
ففي آية التوبة يقول الله تعالى بلغة قويّة، وبجملة فعليّة حاصرة: «ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره»، والإباء هو الامتناع بقوّة، فالله تعالى هنا يأبى كلّ شيء إلا إتمام نوره، وفي التعبير بالفعل (يأبى) من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ، لو كان التعبير: (ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره)
فهم يريدون إطفاء النور، والله الذي له جميع العظمة وكمال القدرة والعز ونفوذ الكلمة يأبى إلا أن يتمّ نوره، ثم يجدّدون الإرادة، والله يأبى، وما تزال إراداتهم تتجدّد، ويتجدّد معها إباء العظيم جل وعلا وامتناعه من كل شيء إلا إتمام النور. 
واستعمال الجملة الفعلية الحاصرة بفعلها المضارع (يأبى) المشعر بقوة الامتناع يتناسب مع الغاية الصريحة والجرأة المعلنة التي ظهرت منهم في أول الآية: «يريدون أن يُطفئوا نور الله» فراية الإطفاء لنور الله المعلنة بصراحة وجرأة، لا يناسبها إلا القوة في بيان الموقف الإلهي. أمّا آية الصف التي جاءت إرادة الإطفاء فيها عبر الوسائل والأعوان والشعارات الإصلاحية «يريدون ليطفئوا نور الله» فيناسبها أن تكون صياغة الموقف الإلهي فيها من خلال الجملة الاسمية الحاليّة: «والله مُتِمُّ نوره» التي تدل على الدوام والثبوت،
أي أنّهم يريدون أمورًا يخادعون فيها ويكيدون ليصلوا من خلالها إلى إطفاء نور الله، فلربّما شعروا بشيء من القدرة، ووجدوا من الأعوان من يمدّهم بعونه بقصدٍ سيّئ أو بنية حسنة، أو وجد بعض أهل الإيمان في نفسه أن الدين يتضاءل، وأن نوره آخذٌ في الانحسار، فيأتي الموقف الإلهي الواعد بدوام إتمام النور، وبخاصة في الأحوال التي يريدون فيها الإطفاء من خلال الدروب الملتوية. 
وإتمام النور الموعود به في الآيتين لا يقتصر على مجرد إشراقه، بل الموقف الإلهي يعِدُ بإكماله وإعلائه، ويبشّر بتبليغه غايته بنشره في الآفاق، وإظهاره على الدين كله، حتى يبلغَ ما بلغ الليلُ والنهار، وحتى لا يبقى بيتُ مَدَر ولا وَبَر إلا أدخل الله فيه هذا النور. 
ومن هذه الحقيقة يأتي القَسَم النبوي بالإتمام اليقيني رغم شدة الحال، وغلبة مظاهر الضعف: (والله -أو والذي نفسي بيده- ليتمّن الله هذا الأمر .... ) رواه البخاري. 
إن التأمل في الموقف الإلهي تجاه إراداتهم وغاياتهم المعلنة والمخفيّة ليستجيش قلوب الذين آمنوا، ويقوّي في نفوسهم الثقة بوعد الله، ويؤصل في شخصياتهم الاعتزاز بالانتساب للإسلام والاستعلاء بالتمسك به، فيدفعهم ذلك إلى المضي في الطريق، والصبر على المشقة و الكيد المتتابع ضد دين الحق. 
لقد اجتمعت بمعاني تلك الآيتين الصور التكاملية التي تظهر بتفنّنٍ حال دين الحق، وإرادات أعدائه وغاياتهم ضدّه، والموقف الرباني الذي يختم فيه المؤمن قراءته المتدبِّرة لهاتين الآيتين. لكنّ البيان لم يقف عند هذا الحد، إذ يتأكد المعنى من خلال الكلمة الختامية الواردة بعد الآيتين في السورتين بلفظ واحد: «هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ»، فهو سبحانه قد أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم حاملاً لمنهج النور والهدى ودين الحق، ليظهر رسالته على جميع الرسالات، ولم يرسله لتنتصر على رسالته إرادات النافخين. 
السؤال الذي يحسن أن يوجّهه كل واحد منّا إلى نفسه وهو يرى السعي المتتابع اليوم لإطفاء نور الله: أين أجد نفسي من بين هاتين المجموعتين: هل أنا ممن استحوذ عليهم اليأس من واقع نور الله اليوم فتحطّمت على صخوره كل معاني التفاؤل ومبشّرات الأمل، فوجد نفسه واقفًا في مدرجات المتفرّجين على هشاشة محاولات الإطفاء وقوة مواقف الإباء ؟ أم أنا من تلك الفئة المباركة التي يستعملها الله تعالى لإتمام نوره وتحقيق موعوده ؟