في الصميم

بقلم
عماد العبدلّي
كفروا بالديمقراطية ..فقرروا الانقلاب ...

 لا يهدف هذا المقال الى تجنب الخوض في مناحي التقصير والاخلال العديدة التي ترافق وصول أحزاب ذات مرجعية اسلامية للحكم في تونس ومصر (أحيل القارئ في هذا الصدد للتحليل المتميز للدكتور سهيل الغنوشي على صفحات الجزيرة للمعرفة بعنوان « المشروع الاسلامي: إلى أين وأين الخلل؟»، و لكنه يبتغي بالدرجة الأولى (دون انكار التفاعلات الممكنة بين الظاهرتين) إلى التوقف على الخلفية التي تحرك المعارضة «العلمانية» بمختلف تشكيلاتها في معركتها «الوجودية» ضد الشرعية وضد مبدا قيام الاسلاميين باستحقاق الحكم. 

لقد احدثت ثورتا 14 يناير/جانفي 2011 في تونس و 25 يناير 2011 في مصر سياقات سياسية فريدة منذ عقود كان عنوانها استعادة الشعب للقرار من خلال الانتخابات والاطاحة باثنتين من أعتى الديكتاتوريات البوليسية في المنطقة العربية ...
إلا أننا لاحظنا منذ الأيام الأولى، بروز استقطاب حادّ  بين «الإسلاميين» و«العلمانيين» على مسائل ذات صلة بمسائل حقوقية وثقافية، قبل أن يتطوّر المشهد إلى استقطاب انتخابي حاد (استعملت فيه كل الوسائل الممكنة لتشويه الآخر و«ابلسته» خاصة من قبل العلمانيين) وأخيرا إلى ما يشبه معركة كسر العظام بمجرد أن قالت صناديق الاقتراع كلمتها لصالح الإسلاميين ...
فلقد كشفت الانتخابات النزيهة والديمقراطية للقطب العلماني (الذي يشتمل على تركيبة فريدة في تنوعها وخاصة  في تناقضاتها) أن حجم امتداده في النسيج الاجتماعي والثقافي لشعوبهم هو امتداد ضعيف ومتآكل، هذا عدا عن كونهم يعانون في أحزابهم (أكثر من الإسلاميين) من الشخصانية وغياب المؤسسات وترهل مرجعيتهم الايديولوجية واصطفافهم الظاهر وراء أجندات أجنبية أفاقت من «صدمة» الثورات العربية وتعمل الآن على إجهاض مشروعها وأفقها المنظور لما تحمله من خطر على التوازنات الحالية للعالم لحدوثها في أكثر المناطق سخونة من الناحية الاستراتيجية (اقتصاديا وسياسيا وعسكريا).
كما كشفت هذه الانتخابات أنهم «عوقبوا» على تطبيعهم السابق مع الأنظمة الديكتاتورية (والآن مع فلولهم) وذلك حين عمل و يعمل قطاع واسع منهم (في الإعلام والفن والاقتصاد والجامعات) على الترويج للموضوعات المركزية التي استندت إليها تلك المنظومات الاستبدادية الفاسدة، و ذلك بتعلة الدفاع عن الحداثة ومحاربة الفكر الظلامي. 
ولذلك، فلا عجب أن نرى عمرو موسى (!!!) وحمدين صباحي (التي تثار شبهات جديّة حول تنسيقه مع حزب مبارك قبل الثورة وبعدها من أجل الوصول إلى الرئاسة) وقيادات حسني مبارك المرسكلين في حركة تمرد وجبهة الانقاذ الوطني وهم يقودون حملة فريدة من نوعها في عنفها وتركيبتها وأهدافها ضدّ رئيس منتخب منذ ما يقارب السنة (أيا كانت محصلة حكمه) مطالبين إياه بالتنحّي دون أي وجه حق .
ولا غرابة أيضا في أن تعمل الجبهة الشعبية المعارضة بتونس يدا بيد مع نداء تونس (الحزب الذي أسس لرسكلة فلول التجمع الدستوري المنحل ضمن المشهد السياسي الجديد)  وغيره من الأحزاب العلمانية والدستورية الأخرى من أجل إلغاء قانون تحصين الثورة ولو أدى الأمر إلى التهديد بإشعال حرب داخلية.
 كما لا غرابة في أن تستغل هذه الجبهة وحلفاؤها مواقعهم داخل اتحاد الشغل (الذي تحول إلى حزب سياسي غير معلن) لوقف عجلة التنمية وإضعاف الاقتصاد من أجل معاقبة الشعب على اختياره، وأن تحرّك بيادقها داخل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان (بعضها دون كلها في الحقيقة) لتشويه مسار الانتقال الديمقراطي في الخارج إلى حدّ ادعاء أن وضع حقوق الانسان في البلاد هو الآن أسوا مما كان عليه في زمن بن علي (سمعت بأذني الممثل التونسي لمنظمة العفو الدولية يقولها في مدينة نيون السويسرية في حوار جمعنا في جلسة حوارية عامة على هامش مؤتمر تلك المنظمة !!).
 وعليه، وأيا تكون محصلة حكم الاخوان في مصر وحركة النهضة في تونس ( وهي بلا شك تحوي العديد من السلبيات والاخلالات القاتلة خاصة في تونس)، فإن المعارضة التي تسمّي نفسها «علمانية» أو «ديمقراطية» أو «تقدمية» أو «حداثية»، لم تعد تثق بالمّرة في الاحتكام إلى الشعب وصارت تستقوي بالميليشيات المأجورة من أجل نشر حالة الاحباط من الثورة (وخاصة من الناحية الاقتصادية) وبالقوى الخارجية من أجل إفشال حكم الإسلاميين.
ففي مصر، لا يخفى على أحد حقيقة التدخلين الاماراتي والاسرائيلي في تمويل التمرد وخلط الأوراق بالعمل بكل الوسائل الاستخباراتية القذرة على إدراج حركة حماس الفلسطينية في تفاعلات المشهد السياسي والأمني المصري دون دليل ولا برهان، من أجل إعادة حكم العسكر أو تسليم الحكم إلى مؤسسات لا تزال على وفائها المعلن للرئيس المخلوع (مثل المحكمة الدستورية العليا). 
كما أن فرنسا تلعب (بالتعاون مع جنرالات الجزائر) دورا مفضوحا في خلق سياق أمني (خاصة أحداث الشعانبي) وثقافي مضاد لإمكانية نجاح حكم الترويكا في تونس، مستفيدة في ذلك من الترهّل الذي بدت عليه هذه الاخيرة وضعف أدائها الاستراتيجي في الحكم والإعلام. والوجه الأبرز لهذا الانخراط الفرنسي في المشهد الثقافي والاعلامي يظهر في تفاعلات قضية «الصدور العارية» لمنظمة فيمن والتي حيكت خيوطها في فرنسا، هذا إضافة إلى تدخّلها السّافر في قضية موقع الإسلام من الدستور التونسي ومحاولة فرض قراءة وحيدة ممكنة لمسالة الحقوق الكونية. 
ولذلك يبلغ الأمر بالمعارضة العلمانية في تونس (التي لا تجرؤ، نفاقا لا خوفا، على الإصداع بموقفها الحقيقي من الدين وهو موقف منكر لمعناه ووجوده وحقيقته، سواء على خلفية المنظور الشيوعي الأصلي الذي لا يزال اليسار التونسي متشبّثا بحرفيته أو بمنظور العقيدة العلمانيّة الفرنسيّة ذات الطابع الإقصائي) أن تعتبر أن مجرد ورود كلمة الإسلام في مشروع الدستور مرتين هو بمثابة الطامة الكبرى  على «الحريات» و«الحقوق الكونية»، وهي تعني في الحقيقة أنه خطر على مشروعها الايديولوجي الذي لا مكانة للدين فيه أصلا وفروعا ...
ولذلك شهدنا، ونشهد كل يوم، بروز مقولات فريدة لم يسبقهم إليها منظرو الديمقراطية والفكر السياسي عموما، من قبيل أن الأغلبية لا تعبر ضرورة عن اختيار الشعب، وأن «التوافق» في المرحلة الانتقالية يجب أن يحفظ حقوق الأقلية الانتخابية أكثر مما يحفظ حقوق الأغلبية، هذا فضلا عن تفننهم في تحقير شعوبهم التي يرونها ترزخ تحت وطأة مشاعر دينية بدائيّة يعمل الاسلاميّون على استغلالها. 
كما نشهد وجود مخطط معلن لإيجاد مناخ احتقان شديد يهدف منه إلى زعزعة أركان الدولة ومقايضة الشعوب بين استقرارها ودوام لقمة عيشها من جهة وبين قبول حكم الإسلاميين من جهة أخرى، كما يظهر دون مواربة من تحرك 30 يونيو /جوان بمصر، حيث لم تنجح الالة الاعلامية الرهيبة للمعارضة في الإقناع بالأساس السليم لهذا التحرك وخاصة بسلميته في ظل ما تشهده مصر يوميا من عمليات قتل وسحل وحرق لمؤيدي الرئيس المنتخب وممتلكاتهم الفردية ومقراتهم. 
وهكذا يدخل هذان البلدان مرحلة دقيقة في مواجهة هذا الصلف «العلماني» الذي ينكر ببساطة حق هذه الشعوب في إبداع منظومتها السياسية والثقافية المتفاعلة مع مرجعيتها الدينية والحضارية، بحجة مخالفة ذلك لما يسود هنا وهناك من منظومات أخرى ينظر اليها بعين التقديس. فوراء ما يواكب حكم الإسلاميين من إخلالات (وخاصة من جهتي نقص الخبرة ومسالة الهيمنة على مفاصل الدولة)، تكمن عقدة أكبر لدى المعارضة العلمانية التي تخوض لأول مرة حرب وجود لم تخضها سابقا ضد الديكتاتوريات الدموية المعلنة لبن علي وحسني مبارك.  
إن عنوان هذه المعركة هو الإذعان لمنظومة العولمة الثقافية السائدة ومنع بلداننا من أن تتبنى خيارات جديدة تقوم على النقد البنّاء لما يعرف بمنظومة «الحقوق الكونية»، وذلك بغاية الإسهام الحضاري في إعادة تعريف أسس هذه العولمة الفاشلة وإعادة تعريف الحداثة وتشكيلها بشكل جديد يسمح بحق لكل الشعوب أن تسهم فيها ولا يجعلها حكرا على الأنموذج الغربي السائد الذي لا تخفى نقائصه الهيكلية على أحد. 
إنها معركة الأغلبية الثائرة المتحصنة بدينها وتاريخها (والتي تعاني بدورها من تردّد النّخبة الحاكمة حاليّا وتفريطها المتواصل في معالم مفصليّة لهذا الحلم الحضاري)  ضدّ الأقلية المنبتة عن شعوبها والتي تبحث لها عن سند «غير ديمقراطي» في الداخل لدى الفلول وفي الخارج لدى المستعمر ... إنها معركة المشاركة السياديّة في صياغة مستقبل العالم (اقتصاديا و حضاريا و ثقافيا و معرفيا) ضد منظومة الاقلية الحضارية  التي تسود العالم الان بقوة السلاح و الاستعمار والتنميط الثقافي ...