في النقد الادبي

بقلم
رشيد وديجى
القراءة و التأويل عند «أمبرتو إيكو»

 إن البداية الحقيقية في نقل عنصر القارئ/ المهمش في الدراسات الأدبيـــة إلى بؤرة العدســـــة كان بإيعـــاز من وراء جمالية التلقّي أمثال : هانس روبيرت ياوس / فولفغانغ إيزر،  وأتاحتهما للقارئ فرصة تحريره من سطوة المؤلف و «فيتيشية» النص إلى معانقة آفاق مفتوحة على تعددية التأويلات المحتملة واللانهائية. 

هكذا شكلت مدرسة «كونستانس» البديل الحقيقي والمنهجي نحو تأسيس أفق مغاير في مجال التأويل، وبدأ تعبيد الطريق نحو تكريس الحضور الأكبر للقارئ، كون النصوص الأدبية تكتب لتقرأ لا لتوضع في الرفوف «إنها سيرورات دلالية كامنة لا تتحقق و تتفعّل إلا بالقراءة وفي القراءة. فوجود الأدب يتطلب القارئ بقدر ما يتطلب الكاتب. لذلك فمن المنطقي الاهتمام به. ومن أجل ذلك، يحسن من الآن فصاعدا النظر إلى الأدب من زاوية جمالية التلقي، أي تمرس القارئ بالنص وتأثره به»(1) ، فاعتبار العمل الأدبي متوقفا على القراءة، فمحاولة فهم هذا العمل وتأويله لا تتم إلا بواسطة الدور الذي ينهض به القارئ في هذه العملية عبر تنشيط الحوار الخلاق مع النص من أجل تطوير فن القراءة فالقارئ الفعال الإيجابي مشروط بشروط  ثقافية ومعرفية تسمح له بتحريك آليات النص وتجاوز إكراهاته، مما يعني أن القارئ صنو الكاتب في معرفة دقائق المهنة وحيثياتها ومشارك له فيها طبعا عبر التأويل، فعليه ( أي القارئ) أن يفعل في التأويل مثلها فعل الكاتب في التكوين، فيعيد بذلك بناء النص وفق  معطياته الإبداعية أي الدخول فيما يسميه «إيكو» بالعالم الممكن، أي بحث إمكانيات لفسح النص وتأويله بعد استيعابه طبعا ، فالقراءة بهذا المعنى إجراء تأويلي أو على الأقل هي السبيل الأمثل إليه . 
في السياق نفسه ، يحاول « إيكو» أن يفصل بين ثلاثة حقول ، دونهما لا يمكن الحديث عن فعل القراءة والتأويل : 
1 – النص بوصفه مجموعة من البياضات، والدوال القابلة للملء والتأويل . 
2 – القارئ بوصفه مجموعة من النصوص ( ما يسميه إيكو  بالموسوعة ) . 
3 –  التقاء النص بالقارئ وهو ما يصفه «إيكو» بالتشارك النّصي                       أو الموقع الافتراضي .
فكيف تتمظهر هذه الحقول المتمفصلة في تفعيل دينامية القراءة والتأويل عند «إيكو»؟ 
إن القاعدة الأساسية التي ينطلق منها «إيكو» في كتابه (القارئ في الحكاية) تتمثل في كون وجود النّص يفترض تعاون القارئ ومشاركته كشرط حتمي لانتشال النّص من الجمود إلى الحركة، أي ملء القارئ لبياضات النّص و مسكوته بعد ترك النّص لهما كهامش لاشتغال القارئ ومشاركته لملء – الفراغات والبياضات – وفي تنشيط النّص، ذلك لأن النّص الأدبي كما يعرفه «إيكو» :« آلة كسولة تتطلب من القارئ القيام بعمل مشترك دؤوب لملء البياضات غير المقولة أو الأشياء التي قيلت لكنها ظلت بيضاء»(2) ، وهذه الفراغات و البياضات التي تكتسح مساحة النّص الأدبي هي المسؤولة عن انفتاح هذا النّص على إمكانيات متعددة من القراءة والتأويل . 
هنا يتحدث «إيكو» عما يسمى بالنّص المفتوح Textes ouverts الذي يوجد بناء القارئ  نصّيا عبر تفاعل التأويل – القارئ – والتوليد – النّص – فمفهوم التأويل عند «إيكو» هنا يتحدّد عبر التحيين الدلالي لكن ما يريد أن يقوله النّص باشتراك قارئه النموذجي، فالنّص مفتوح لتأويلات القرّاء حيث لا ينطوي على معنى واحد، وإنما يحمل عدة  معاني تتعدّد بتعدّد قرّاءه، ولا يخفى ما للقارئ من دور في تحقيق أدبية النّص، ومشاركته الكاتب فيها، فهذه الأدبيّة  تبقى معلّقة في حيز القوّة ما لم يتدخل القارئ لتحقيقها، فالنّص بلا قراءة مجرّد علامات متضام بعضها إلى بعضها الآخر. ما لم يتدخل القارئ لتأويلها وملء فراغات هذا النّص بشكل تشاركيّ مع كاتبه، فيبني المؤول معنى مشتركا بينه وبين الكاتب على أرضيّة اللغة، هذا طبعا يفترض في قارئ النّص معرفة بكفايات اللغة وجوانبها حتى تتحقق إمكانية التأويل، فالتأويلات المقترحة ليست مفروضة من طرف القارئ ولكنها ناتجة عن التعاون الذي يحدث بين النّص والقارئ في إطار ما يسميه «إيكو»   بـ« التشارك النّصي» أو « الموقع الافتراضي» لأن النّص يفترض قارئه لشرط حتمي لقدرته التواصلية الملموسة، إذن،  هنا التعاون الحاصل بين النّص وقارئه النموذجي Lecteur Modèle الذي يرسم لنفسه فرضية عن المؤلف كما يتكهّن المؤلف بقارئه النموذجي من قبل، وهنا ندخل مسألة قيام المعجم المشترك بين الكاتب والقارئ. إذن، دون ذلك يتعذر التواصل، ولعل أهم شروط التواصل بين الباثّ والمتلقّي هو وجود التشارك المعجمي والدلالي ولعل أهمها مبـــدأ « الكفاية النحوية»، إذ النّص في حالة ظهوره من خلال سطحه يمثّل سلسلــة من الحيل التعبيريّة التي ينبغي أن ينتبه إليها المرسل إليه عبر التّفعيل،  أي الفعل الذي يمارسه القارئ حالما تقع عيناه على النّص ،  ويشير «إيكو» إلى أنّ هذه «الكفاية النحويّة» ليست الوحيدة الضامنة للتواصل بل يحشر كل علامات النشاط السيميائي داخل جهاز التبليغ  اللّغوي، مما يجعل النّص حقلا من الأنسق العلاميّة المتآلفة فلا مناص عند «إيكو» من أن ينهض فعل الكتابة لدى الكاتب على أساس معرفة مسلحة بكفايات القارئ كلها حتى يكون التأويل دعوة من البات إلى القارئ إلى الانخراط في حفلة المعنى باعتبار هذا التأويل يتجاوز درجة التذوق الفردي إلى وليمة جماعية ينهل منها كل القرّاء لهذا تتعدّد التأويلات بتعدّد القرّاء الذين يملأون فراغات وبياضات النّص مع فكّ مغالقه وغموضه، رغم ذلك قد يحدث أن يكون سنن القارئ أضيق من سنن المؤلف أو العكس . 
وبالتالــــي يتم استدعــــاء ما يسميــــه «إيكو» بالموسوعـــــة  ( Encyclopédie ) التي يستحضرها القارئ لفهم وتأويل النّص، وهي الرّضيد اللغوي والثقافي الضّارب في السياق الاجتماعي وهي ما يصطلح عليه «إيزر» بالذخيرة أو السّجل ( Le répertoire ) الذي يفترضه النّص ويستحضره القارئ كي يستطيع المواجهة بين التمظهر الخطي لذلك النّص وبين بنياته اللسانيّة، وبدون كفاءة موسوعية لا يمكن التّعاون مع النّص، ولا يمكن للقارئ أن يكون ذلك المشارك الفعال Coopérant الذي يملأ الفراغات، والبياضات، وإنطاق المسكوت عنه، فالنّص يحتاج إلى مساعدة القارئ وتدخّله النّشيط عبر مجموعة من الفرضيّات التي يكوّنها القارئ عن المعنى، هذا ما أسماه «إيكو» بالطوبيك ( أو الموقع المفترض ) باعتباره فرضية للقراءة وترسيمة عامة يستعين بها القارئ للولوج إلى عالم النّص وحصر شظايا المعنى المتولدة عن الانفجارات الأولى لفعل القراءة الأولى للنّص عبر مجموعة  من الفرضيّات التي يصوغها القارئ بطريقة بسيطة على شكل أسئلة من نوع ربما يتعلق الأمر بالقضية الفلانية (3) ، وفي هذا الإطار تكون العودة إلى المعجم ضرورية للامساك بالدلالات. كما يضيف «إيكو» مفهوما آخر هو « العالم الممكن» خصوصا في كتابه ( القارئ في الحكاية )، والذي يعتبره ضروري الحديث عن تخمينات القارئ وتوقعاته (4). 
     فحينما يزاول القارئ وظيفته المدرسية فهو يبني سلسة من المرجعيات الممكنة التي قد تتطابق مع إمكانيات النّص، بمعنى أنه يتخيّل عالما افتراضيّا يمكن أن يستوعبه النّص، فهو العالم الممكن الذي هو حصيلة الاستنباطات التي تسمح بها تجليات النّص، فالقارئ المتعاون وهو يقرأ يكون من المفروض عليه أن يبني مجموعة من العوالم الممكنة ليستطيع ملء بياضات هذا  النّص وفراغاته، ويحوّله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ويفجّر إمكانياته . 
 وخلاصة القول، نجد «إيكو» ينظر إلى العمل الأدبي كونه ليس تعليقا مباشرا على الممارسة اللغوية، بل هو أداة تحفز تفسيرا للعالم، وأننا نكتب لنستثير استجابة ما. 
وفي هذا الاطار يوافق «إيكو» الناقد «تودوروف» في قوله بأن  النّص نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القرّاء بالمعنى. مؤكّدا أن القارئ الحقيقي هو القارئ الذي يفهم أن سرّ النّص هو  فراغه . فالنص كما نرى يتعدّى قصد صاحبه أي أنه عند كل قراءة يخرج من العالم الممكن الذي تصوره المؤلف ليصنع عالما ممكنا آخر، وكل قراءة جديدة هي ولادة لعالم ممكن جديد في تغيير متواصل لا نهائي .
 وكل هذه العوامل تنشأ من العلاقة التي تربط عالم النّص بعالم القارئ الواقعي . فالنّص مفتوح أمام القارئ لإثارة قراءات لا متناهية، وليس بالإمكان الحكم على قراءة بأنها أفضل تأويل لنصّ ما ، ولكن من الممكن اعتبار جملة من التأويلات أنها خاطئة. فيقيد قصد القارئ بقصد النّص بينما قصد الكاتب يبقى هدفا خياليا يصعب التعرف عليه نهائيا، وبصفة مطلقة، فالتأويل هو حوار جدليّ بين القارئ والنص، وتأرجح متواصل بين قصد القارئ وقصد النص، بمعنى، أن كلا من الكاتب والقارئ لهما استراتجيتان نصّيتان يتحقق من خلالهما ما يسميه «إيكو» « بالاشتراك النصي»، فيخلص إلى أن الكاتب كفرضية تأويلية يرسم صورة عن القارئ النموذجي، وهذا الأخير بدوره ، عليه أن يضع فرضيّة عن الكاتب، يقول «إيكو» : «أنا بحاجة إلى قارئ قد مرّ بنفس التجارب التي مررت بها في القراءة أو تقريبا» (5) .
الهوامش
(*) أومبيرتو إكو (Umberto Eco)، فيلسوف إيطالي، وروائي وباحث في القرون الوسطى، وُلد في 5 يناير 1932، ويُعرف بروايته الشهيرة اسم الوردة، ومقالاته العديدة. وهو أحد أهم النقاد الدلاليين في العالم. 
(1) - هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي، من أجل تأويل للنص الأدبي، تقديم و ترجمة : رشيد بنحدو، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 2003 ، ص : 9.
(2). Umberto Eco , l’Oeuvre ouverte, Collection «Points», Éditions du Seuil, Paris, p 22.
(3) سعيد بنكراد، السيميوزيس و القراءة و التأويل، مجلة علامات، مكناس، العدد 1988، ص: 50-46.
(4) Umberto Eco, Lector in Fabula, éd. Grasset, Paris, 1985, p 115.
(5) ibid, p 237.