مقالات في التنمية

بقلم
محمد الطرابلسي
المحافظة على التراث المائي في البلاد التونسية

تعتبر المحافظة على التراث المائي أمرا في غاية الأهمية : لأن هذا التراث يمثل جزءا من تاريخ الجماعات لما يمثله من قدرة على تطويع الوسط الطبيعي وهو هام أيضا من الناحية الٳقتصادية والٳجتماعية لما يتضمنه من قيم ٳقتصادية و ٳجتماعية كانت عنصرا أساسيا في التنمية .

ويمثل هذا التراث المائي مجموع المنشآت المائية التقليدية وتقنيات الري القديمة التي تعود إلى فترات تاريخية متعاقبة أقدمها العهد الروماني، والشواهد التاريخية كثيرة في البلاد التونسية إذ نجد بقايا منشآت مائية في واحات الجنوب وسهول الوسط ومرتفعات الشمال من آبار وفساقي وسدود  وجسور ومواجل ... لتخزين المياه و التحكم في مياه السيلان.

وأصبحت المحافظة على التراث المائي عملية ضرورية اليوم تحددها حتمية التنمية المستديمة. وسنحاول عبر هذا البحث التعرض إلى عناصر هذا التراث المائي وتوزعه الجغرافي في البلاد إلى جانب كيفية المحافظة عليه وإعادة الٳعتبار له و توظيفه لخدمة برامج التنمية المستديمة.

I - عناصر التراث المائي : المنشآت المائية التقليدية : 

التراث هو شكل ثقافي متميز يعكس الخصائص البشرية والإقتصادية والثقافية للشعوب٬ ويتناقل من جيل إلى أخر ويصمد خلال فترات زمنية متعاقبة. وينقسم التراث إلى ثلاثة أقسام رئيسية : تراث مادي كالمباني الأثرية وما تكشفه الحفريات  وتتضمّنه المتاحف٬ وكلها تمثل عصورها بشكل أو بآخر٬ وتراث فكري قوامه ما قدّمه السابقون من علماء وكتاب ومفكرين كانوا شهودا على عصورهم، إضافة إلى التراث الإجتماعي وما يتضمّنه من سلوك وعادات وتقاليد وقيم ...

ويندرج التراث المائي ضمن عنصر التراث المادي وتمثل المنشآت المائيّة التقليديّة جزءا هاما منه. وتحتوي البلاد التونسية على منشآت مائية تعود إلى ما قبل العهد الروماني، وكانت تمثل شكلا من أشكال تنظيم المجال الريفي وإستغلال مياه السيلان ومياه السديم الباطني لتنمية الفلاحة ومقاومة التعرية .

(1) منشآت خزن المياه:

من أهم وظائف المنشآت المائية التقليدية خزن المياه وتعبئتها لإستغلالها في الفصول الجافة وتوفير الماء لسكان المدن والريف. ومن أهم هذه المنشآت السدود والآبار والعيون والمواجل والفسقيات.

أ- السدود: 

هي عبارة عن سدود صغيرة من تربة وحجارة أقيمت في أسفل المنحدرات والهدف منها هو حجز كميّة من مياه السيلان لإستعمالها في فترة نقص الأمطار. وتوجد شواهد تاريخية للمنشآت القديمة من هذا النوع تعود إلى العهد الروماني مثل ماهو موجود في عين دراهم بواد « العطاطفة » .

ب- الآبار و المواجل : 

تعدّدت الدراسات التاريخية والجغرافية التي تتعلق بهذه المنشآت المائية ٬ وبرهنت على دراية واسعة بالخصائص الجيولوجية للأرض المزمع حفر الآبار والمواجل بها إلى جانب الدراية بنوعية الماء. ومن أهم المراجع التي تحدثت في هذا الموضوع « عين الحياة في علم إستنباط المياه » لأحمد بن عبد المنعم الدمنهوري الذي يتعلّق الباب الثاني منه بحفر الآبار. ويؤكد فيــه الدمنهوري على الأمــــر التالـي: « ينبغي إذا كانت الأرض صلبة إن توسّع البئر أكثر من القدر المعروف إن كانت يمكن حفرها ٬ فإن لم يمكن لشدة صلابتها يوقد عليها النار لتفتيتها بحرارتها وليسهل حفرها من غير كلفة ٬ وإن كانت رخوة٬ يمسك الحفارون على الحفر ساعة ثم يعودون إلى ظهور الماء... ويذوقون الماء النابع فإن كان حلوا أو مالحا أتمّوا عملهم وإن كان فيه مرارة توقفوا...». و إنتشرت هذه التقنية لإستغلال مياه الموائد الجوفية في إفريقية في العصر الوسيط وكانت عمليّة حفر الآبار مقنّنة. فقد ورد في كتاب « قانون المياه و التهيئة المائية بجنوب إفريقية في العصر الوسيط » من خلال كتاب « القسمة و أصول الأرضين » لأبي العباس أحمد بن محمد بن بكر الفرسطائي النفوسي (504 ھ 1110 م) بعض القوانين التي من شأنها تنظيم عملية حفر الآبار٬ في الصفحة 154 من الباب التاسع يذكر مؤلفوا الكتاب ( الهادي بن وزدو٬ أحمد ممو ومحمد حسن ) بعض العناصر أو الفصول القانونية التي تقنّن عملية حفر الآبار. ونذكر على سبيل المثال المسألة التالية: «لايحفر الرجل غارا أو بئرا أو يعمل ماجلا إلا في أرض وهي أرض لا تنسب إلى أحد من الناس ٬  ولا يحفره في أرضه حيث يضر به غيره من الناس بالتراب ولا حيث يصل إليه بالحفر أو لم يترك إليه الحريم من فوق أو من أسفل أو يمر عليه بالطريق أو تلحقه من قبله النداوة ولا يعمله حيث لا يستغني عن جميع منافعه من أرض و غيره أو يضرّها به فيما بينه و بين الله...»

و تندرج المواجل ضمن منشآت تخزين مياه الأمطار وهي عبارة عن حفرة تأخذ شكلا معينا إذ تتسع في الأسفل وتضيق تدريجيّــا نحو الأعلى٬ فهو شكل مشابه لشكل القـارورة ويتراوح عمقها بين 4 و6 أمتار وفي بعض الأحيـــــان أكثـــــر من ذلك. وتحيط بهذه المنشـــأة « سطحة» هي بمثابة حوض لتجميع المياه . وعندما يكون الماجل داخل المنزل أو محاذي له يكون سطح المنزل هو بمثابة حوض تجميع المياه . ويوجد بعضها بالقرب من «السواقي » حتى تمكن هذه السواقي من تجميع كمية هامة من المياه. ويتكون الماجل من العناصر التالية ˸ المسقى (سطحة) والدخّالة التي يدخل منها الماء والخرّاجة التي تخرج منها المياه الزائدة عن طاقة استيعاب الماجل.

ج- الفسقيات:

ٱنتشرت هذه التقنية خاصة بعد الفتح العربي الإسلامي٬ و قد تميّز عهد الأغالبة بالخصوص بإنتشار هذه التقنية لخزن كميات كبيرة من مياه الأمطار. وقد عبر عن ذلك المؤرخ ر. برونشفيك Brunshwuiek   R. قائلا « إن محافظة الأغالبة على المياه لا تضاهى . فكل الإجراءات وقع إتخاذها حتى لا يضيع منها شيء ...». و توجد عدة شواهد تاريخية إن دلّت على شيء فهي تدل على تطور التهيئة المائية في العهد الأغلبي٬ ومن بين هذه الشواهد نذكر على سبيل المثال فسقية الأغالبة بالقيروان إلى جانب فسقية أخرى وقع إكتشافها بمدينة صفاقس مشابهة لمثيلتها بالقيروان. وتعد الفسقيات من أشهر المنشآت المائية في الحضارة الإسلامية وتعتمد الفسقية على ثلاثة عناصر رئيسية: 

- حوض للترسيب يبلغ قطره أحيانا 34 م و طاقة ٳستعابه 3000 متر مكعب يستند على دعائم داخلية و أخرى خارجية . 

- الحوض الكبير وهو يتصل بالحوض الأول عن طريق فتحة تسمى « السرح » و يمتاز بأبعاده المترامية حيث يبلغ قطره سبعة أمتار وعمقه أكثر من ثمانية أمتار ويحتوي على 64 دعامة داخلية و 118 دعامة خارجية . 

- صهريج مسقوف تخزن فيه المياه التي تستعمل للشرب و تبلغ سعته أكثر من 900 متر مكعب .

(2) منشآت المحافظة على المياه و التربة: المسقاة ، الجسور، المقود، الطوابي :

إلى جانب سعيه المتواصل لخزن أكبر كمية ممكنة من المياه٬ فإن الإنسان منذ القديم كان يسعى أيضا للمحافظة على الوسط الطبيعي خاصّة من الإنجراف الذي يتهدده وتمثّل تقنيات المسقاة والجسور والطوابي والمدرّجات خير دليل على ذلك :

أ- المسقاة :

تعتمد هذه التقنية على تقسيم قطعة الأرض إلى جزئين : في العالية تبقى قمم الرّبى بدون غراسات  وتستعمل كمجمع للمياه أو مسقاة٬ ويقع تهيئة سواقي صغيرة تتجمع فيها مياه السّيلان السّطحي ليسيّر نحو السّافلة. في السّافلة، تقع تهيئة القطعة بطريقة مختلفة في شكل أحواض صغيرة تحيط بها طوابي قليلة الإرتفاع مهمتها حجز جزء من المياه المنحدرة من المسقاة٬ وتحتوي تلك الطوابي على منافس تمكن من تمرير جزء من المياه المجمعة نحو الحوض الموجود في الأسفل. هذا الجزء المهيأ للغراسات يسمى المنقع. والهدف من هذه التقنية هو حماية أراضي الرّبى من عنف السّيلان والٳستفادة من كميات إضافية من مياه التساقطات لإستعمالها بهدف ريّ الغراسات.

ب- الجسور و الطوابي:

تتمثل هذه التقنية في إقامة سدود من التّربة يمكن أن يصل إرتفاعها إلى 5 أمتار وقاعدتها إلى 7 أو 10 أمتار وذلك حسب ما يمكن أن يتجمّع ورائها من مياه وتربة ٬ لكن الٳمتداد الطولي يمكن أن يتجاوز 20 متر. يمكن أن تكون الطابية مدعّمة بالحجارة في قاعدتها وهو ما  يسمّى « بالصّيرة » وكل طابية تحتوي على« رأس » تمكن من المرور من جانبي المنحدر. أمّا الجّسر فهو يتمثل في الجزء الموجود وراء الطابية٬ وتستعمل التّربة المحجوزة لغراسة الزياتين والنخيل والحبوب. هذه التقنية تتعرّض بصفة مستمرة للتّلف بسبب الأمطار الاستثنائيّة، لذا لا بدّ من صيانتها باستمرار.

و هناك العديد من التقنيات الأخرى التي تراجعت مكانتها و ٱندثر بعضها مثل تقنية « الفقارة» أو « الخريق » التي كان الهدف منها 

هو الإستغلال المباشر لمياه الموائد. و لا تزال المدرجات تحتل مكانة هامة   في المحافظة على المياه و التربة و الهدف الرئيسي منها هو التحكم في مياه السيلان ٬ وهي عبارة عن حواجز صغيرة متدرجة من الأعلى إلى الأسفل مثبة بالحجارة تساعد على حماية التربة من الإنجراف و التلف.

II – التوزيع الجغرافي للمنشآت المائية التقليدية

ٱتفقت الدراسات التي قام بها الجغرافيون والمؤرخون حول التراث المائي على أهمية إنتشار المنشآت المائية التقليدية في مختلف أقاليم البلاد التونسية. وكان إنتشارها مرتبطا أساسا بالخصائص المناخية لكل إقليم وطبيعة تضاريسه. وقد كشف ذلك عن قدرة السكان على تطويع الخصائص المحلية للوسط الطبيعي.

(1) المنشآت المائية التقليدية في الإقليم شبه الرطب

هذا الإقليم يحصل على كمية سنوية من الأمطار مرتفعة مقارنة مع بقية أقاليم البلاد تفوق 400 مم / السنة. ويوجد بهذا الإقليم فصل جاف يتوافق مع فصل الصيف الذي يمكن أن يطول أكثر من ثلاثة أشهر. من الناحية الطبوغرافية، يتطابق هذا الإقليم مع مرتفعات الشمال ( جبال خمير ومقعد...) ٬ ونظرا لهاتين الخاصيتين (الأمطار والمنحدرات)، تعتمد المنشآت المائية التقليديّة على تقنيّات خزن المياه لإستعمالها في فصل الجّفاف، وتمثّل هذه المنشآت عنصرا رئيسيا من عناصر التراث المائي في هذا الإقليم ٬ إذ تتكون أساسا من سدود صغيرة أقيمت في أسفل المنحدرات الهدف منها حجز كميّة من مياه السيلان. هذه التقنية تتماشى مع خصوصيات الوسط الطبيعي وهي تشبه البحيرات الجبلية في وقتنا الحاضر. هذه التقنية تنتشر أيضا في الإقليم شبه الجاف.

(2) المنشآت المائية التقليدية في الإقليم شبه الجاف

يوجد هذا الإقليم بين خطي تساوي التساقطات 400  مم و 200 مم، و يضمّ هذا الإقليم منطقة الظهرية وهي منطقة جبليّة إلى جانب السباسب العليا الغربيّة والشرقيّة والساحل وسهل القيروان : يتميز هذا الإقليم بوجود أراضي منحدرة وكثافة الإستغلال الزراعي خاصة في سهول وتلال باجة، إضافة إلى إنتشار الفلاحة البعليّة التي تعتمد على الغراسات الكبرى. من الناحية الجيولوجية نلاحظ في هذا الإقليم أهمية التكوينات السطحية اللينة. في هذا الإقليم، تنتشر منشآت خزن المياه ومنشآت المحافظة على المياه والتربة نظرا لتعرض التكوينات اللينة إلى الإنجراف، ومن أهم هذه التقنيات « المدارج » والهدف منها الحد من السيلان، كما تنتشر تقنيات الطوابي في المنحدرات الرملية وكان الغرض منها الحدّ من السّيلان السطحي ومساعدة المياه على النفاذ بصفة تدريجية. وتنتشر في مناطق أخرى من هذا الإقليم وخاصة بساحل البلاد و سهل القيروان ٬ المواجل و الفسقيات الهدف منها تعبئة مياه السيلان. وكانت هذه التقنيات متوفرة أيضا في مدينة صفاقس، إذ كانت المدينة تحتوي على حوالي 365 ماجل بمنطقة «الناصرية» بمعنى ماجل لكل يوم من السنة، لكن هذه المواجل اندثرت بفعل التوسّع العمراني للمدينة. هذا الصنف من التّراث المائي (المواجل والفسقيات) تراجعت مكانته اليوم في الأرياف نظرا لربط السّكان في الريف بشبكات توزيع المياه بالرغم من أهميتها في توفير كميات هامة من المياه. إضافة إلى إنتشار تقنية المسقاة في المناطق التي تتميز بالرّبى ذات القمم المتحجرة والسفوح الرملية. 

(3) المنشآت المائية في الإقليم الجاف

« المناطق الصحراوية» 

يتلقى هذا الإقليم كميات قليلة من الأمطار لا تفوق 200 مم في السنة٬ وهي كمية غير كافية لإقامة فلاحة بعليّة ٬ فالهدف من التقنيات التقليدية هو حصر المياه والتربة لإستغلالهما في الفلاحة في مجالات ضيقة. ولهذا السبب تعتبر تقنية الجسور من أهم التقنيات التقليدية في هذا الإقليم. إنتشرت هذه التقنية في جهة مطماطة وفي سلسلة الظاهر.

كما تنتشر تقنيات أخرى بالجنــــوب التونســـي من أهمها تقنيات « الفقارة » و « الخريق » بهدف إستغلال مياه العيون و مياه الموائد و توجيهها نحو الواحات.

III – كيفية المحافظة على هذا التراث المائي :

بالرغم من أهمية هذا التراث المائي٬ فقد تراجعت مكانته بفعل عوامل طبيعية من ناحية كالأمطار الإستثنائية التي أدت إلى تلف العديد من المنشآت المائية أو بفعل عوامل بشرية من ناحية أخرى تتمثل في تراجع مكانة المجتمع المحلي في مجال التهيئة المائية وأصبحت التهيئة تعتمد أساسا على مخططات وطنيــــة إقليميّة تعطي الأولوية إلى المنشآت العصرية كالسّدود الكبرى والبحيرات الجبليّة. هذه التقنيات تعتبر تراث ثقافي لا بد من المحافظة عليه رغم صبغته القديمة. فكيف يمكن المحافظة عليه؟     

(1) مكانة التراث المائي في برامج التهيئة الترابية

 و مخططات التنمية :

لا تزال المنشآت المائية التقليدية كعنصر أساسي من عناصر التراث المائي تحتل مكانة محدودة الأهمية  في برامج التهيئة المائية ومخططات التنمية حيث لا يمثل هذا التراث المائي عنصرا أساسيا  من عناصر الخطة الوطنيـــة الثانيــــة للمحافظة على المياه و التربــة ( 2002 -  2011 ) ٬ بل ورد في شكل عنصر ثانوي يتعلق بضرورة إحداث جسور ومسقاة وطوابي . كما أن هذه الخطة لا تتضمن برنامجا واضحا للمحافظة على هذا التراث الثقافي و صيانته. وقد ركّزت الأمثلة المديرية لتهيئة التّراب الوطني على إشكاليّة التنمية المستديمة دون إيلاء التراث المائي مكانة هامّة، بالرغم من أهميته خاصة من الناحية البيئية. بل ركزت بصفة شبه كليّة على المنشآت المائية الكبرى كالسدود والبحيرات الجبلية. كما أن الأمثلة المديرية للمياه لا تحتوي على عنصر أساسي يتعلق بصيانة التراث المائي أو بإعادة الٳعتبار له بل ركزت فقط منذ السبعينات على التعبئة القصوى للموارد المائيّة للإستجابة للطّلب المتزايد لمختلف القطاعات الإقتصادية. و نرجو من حكومات ما بعد الثورة إعادة الإعتبار لهذا التراث.

و قد تعرضت العديد من المنشآت الصغرى التقليدية بالأرياف التونسية إلى التلف والإهمال نظرا لتراجع دور السكان المحليين في صيانة وإقامة هذه المنشآت. فمخططات التنمية لا تتضمّن عنصرا يتعلق بتوعية السّكان المحليين بأهمية التراث المائي ودوره في المحافظة على الموارد المائية والتربة. 

ولئن تميز عصرنا بتدخّل الدولة على نطاق واسع في الأرياف٬ فإن إستراتيجية التهيئة كانت غالبا موجهة نحو تهميش تجارب ومهارات المجتمع الريفي. ويبرز هذا التوجه بضعف التهيئة العفوية وقلّة نجاعتها وانحسارها في الوسط المحلي من ناحية وإعطاء التهيئة العصرية مكانة هامة في المخططات الوطنية والإقليمية. فقد أصبحت الدولة البديل الحتمي للمجموعة المحلية والطرف الرئيسي المتصرف في المجال.  

(2) كيف نحافظ على هذا التراث المائي ؟

إن الحديث عن الحفاظ على التراث المائي يعني إعداد السياسات و التشريعات و الخطط و البرامج التي ينبغي أن تضطلع بها الهياكل المختصة و المؤسسات العلمية والثقافية في مجال التراث ٬ ويعني ذلك دعم الجّهود غير العمومية والتّنسيق بين مختلف الأطراف المحلية والوطنية في تطوير الممارسات العلمية والعمليّة التي تخدم التراث حفاظا وٳحياءا. ذلك أن الحفاظ على التراث مسؤولية عامة٬ فالتراث المائي ملك للناس كافة وليس لفرد أو فئة أو مؤسسة. فيجب على كل فرد وكل هيكل يعنى بالثقافة والتنمية في البلاد التونسية أن يتحمّل مسؤولية المحافظة على التراث المائي، وهذا يقتضي تعليم السكان المحليين مسؤولية الحفاظ على التراث المائي مع مراعاة تطبيق قوانين حمايته. وهذا الأمر يقتضي إعداد خطّة وطنيّة للمحافظة على التراث المائي تشارك فيها مختلف الأطراف العمومية والخاصة إلى جانب تشريك المجتمع المحلي في إعدادها. 

وبالإضافة إلى ذلك فإن حماية التراث المائي والمحافظة عليه، تقتضي تقدير أهمية هذا التراث وتحديد عناصر الحفاظ عليه٬ وتكمن أهميّة التراث المائي في قدرته على المحافظة على الموارد المائية والتربة. فهذه المنشآت يمكن إستعمالها والٳستفادة منها رغم صبغتها القديمة، فصحيح أنها لا تمكّن من تعبئة كميات كبيرة من المياه بالمقارنة مع المنشآت العصرية ٬ لكن يجب أن نأخذ بعين الإعتبار الإنعكاسات الإيجابيّة من الناحية البيئيّة ٬ فكثرتها و توزيعها المجالي يساعد على المحافظة على التربة . كما أن إنتشارها الجغرافي يمكّن السكان الريفين من الإستجابة لجزء كبير من حاجياتهم للشرب وتمكّنهم من تحسين المداخيل. 

الخاتمة:

لقد ركزنا في هذه الدراسة على المنشآت المائية التقليدية كتراث مائي ثقافي تمكن عملية المحافظة عليه من تحقيق التنمية المستديمة حتى يتحقق التواصل بين الأجيال الماضية والحاضرة والقادمة. لأن هذا المجال ملك لمختلف الأجيال وتساعد هذه المنشآت على حمايته. 

و يمكن أن يشمل هذا التراث المائي عناصر أخرى بخلاف هذه المنشآت المائية ٬ كطرق إستغلال الأرض وقوانين إستغلال المياه ٬ ويترجم ذلك قدرة كبيرة للإنسان على التكيّف مع المعطيات الطبيعية، ومعرفته الواسعة لنظام الأمطار والسيلان وعلاقته بالتضاريس والتربة.

المراجع: 

(1) الشريف (عبد الله )1995  : تهيئة الموارد المائية الثوابت والتحولات٬ مسائل في تهيئة التراب والبيئة في تونس ٬ المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر٬  ص 41  - 87  .

(2) حسن (محمد) 1999 : قانون المياه والتهيئة المائية بجنوب افريقية في العصر الوسيط ٬ مركز النشر الجامعي٬ 267 ص. 

(3) حسن ( محمد) 2009 : التهيئة المائية بافريقية في العصر الوسيط، أعمال الندوة الدولية الثالثة المنعقدة بالمكتبة الوطنية أيام 15-16-17 نوفبر 2007 ( الماء والتعمير ببلاد المغرب في العهدين القديم والوسيط.  ص 167 - 221 .