همسات

بقلم
د.محمد كشكار
هل يوجد لدى الطفل مستويان من النموّ الذهنيّ ؟

عندما نحدّد «العمر الذهنيّ» l’âge mental لدى الطفل بواسطة اختبارات الحاصل الذكائي QI 

نتكلّم دائما على نوع واحد فقط من النمو و هو «النموّ الذهنيّ الفعليّ (الحالي)» لكن مثلما أثبتته التجارب، يعجز هذا الحاصل الذكائي عن الإحاطة الكاملة بحالة النموّ الذهني عند طفل في لحظة معيّنة.

لنفرض جدلا أن لدينا طفلين اجتازا اختبار الحاصل الذكائي وحدّدنا عمرهما الذهنيّ بسبع سنوات (لهما القدرة على حل المسائل المناسبة لأطفال في عمرهما). هل هذان الطفلان متساويان فعلا في النمو الذهني ؟ لو حاولنا إخضاعهما لإختبارات أخرى، قد يظهر بينهما اختلاف مهمّ : قد يستطيع أحدهما وبسهولة حلّ اختبارات مناسبة لأطفال يكبرونه بعامين. أما الآخر فلا يحلّ الاّ الاختبارات التي تفوق سنه بستّة أشهر. نستنتج إذا أنهما ليسا متساويين في الذكاء خاصة إذا أخذنا في الإعتبار القدرة الكامنة والممكنة والمحتملة لدى الطفلين التي قد تظهر وتتجسّم لو وفّرنا لها وضعيّة إجتماعيّة تعلّميّة يحتكّ فيها الطفل مع الغير مدرّسين و أقران.

نصل هنا إلى تعريف النوع الثاني، غير المعروف لدى غير أهل العلم، من النموّ الذهني و المسمّى «المنطقة الأقرب للنمو» ZPD : Zone proximale de Développement

هذا المفهوم اكتشفه عالم النفس و البيداغوجيا السوفياتي الاشتراكي «فيقوتسكي» في أوائل القرن العشرين والذي يعرّفه في النقاط التالية 

* ما يقدر الطفل على إنجازه، بمساعدة المدرسين وبحضور أقرانه، يحدّد مستوى «منطقته الأقرب للنمو»

* ما يقدر الطفل على إنجازه اليوم بمساعدة المدرّسين وبحضور أقرانه، يستطيع تحقيقه بمفرده غدا.

* يختلف مستوى حلّ المشاكل الذهنيّة الذي يصل إليه الطفل بمفرده عن مستوى حل المشاكل الذي يصل اليه مع أقرانه وتحت إشراف ومساعدة المدرّسين.

* نستطيع تحديد حالة النموّ الذهنيّ عند الطفل بالاعتماد على المستوين المذكورين أعلاه : «النموّ الذهنيّ الفعليّ (الحاليّ)» و«المنطقة الأقرب للنموّ»

* لو تركنا الطفل المتخلّف ذهنيّا وحده دون رعاية تربويّة لما وصل الى أيّ شكل من أشكال التفكير المجرّد.

* لو أخذنا مثلا طفلا سليما يعيش في عزلة مع والدين «صم- بكم»’ سيبقى هذا الطفل أصم-أبكم رغم تمتّعه بالملكات البيولوجية للنطق و السمع و نتيجة لذلك لا تتطور في مخه الوظائف الذهنيّة العليا المرتبطة بالكلام و اللغة

* لو أخذنا في الاعتبار في التعليم مستوى «النموّ الذهنيّ الفعليّ (الحاليّ)» فقط لما اكتشف الطفل طاقاته الكامنة والممكنة مستقبلا

* لو سبقنا نموّ الطفل المستقبليّ و قدّمنا له أنشطة أعلى من مستواه الحاليّ لكن تقع في «المنطقة الأقرب للنموّ» يعني غير مستحيلة الإنجاز وبحضور أقرانه وتحت إشراف ومساعدة مدرّسين لتحسّن مستواه.

* كل وظيفة ذهنيّة عالية تظهر مرّتين خلال نمو الطفل: أولا في شكل نشاط جماعيّ واجتماعيّ كوظيفة ذهنيّة مشتركة وهذا يقع في القسم وأثناء التطبيق، ثم على شكل ملكية فردية كوظيفة ذهنية داخلية وهذا يحصل بعد الدرس عند إدراك عملية الإدراك من قبل المتعلم.

* نصل إلى الإستنتاج التالي : من المفروض أن لا يتزامن التعليم الحديث مع النمو الذهني للطفل بل يسبقه وينشّطه ويوقظ فيه التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ. 

بعد هذا التقديم النظري المختصر والضروريّ، نحاول توظيف هذه النظريات لتحليل واقعنا التعليميّ التونسي

* هل اطّّلع مدرّسونا، ابتدائي وثانوي، على هذه النظريّات البيداغوجيّة «الخلاّقة بالمعنى الحرفيّ للكلمة» يعني تخلق الذّكاء والتي ترتكز عليها المدرسة البنائيّة لـ «بياجي» وهي الشعار المرفوع وغير المطبق لوزارة التربية والتكوين التونسية.

* لنفرض أن مدرّسينا اطّلعوا عليها ونسأل: هل الدولة أوجدت الأرضيّة والمناخ الملائم لتطبيقها ؟ طبعا الجواب بالنفي والدليل الذي أستحضره الآن ويقظّ مضجعي هو «الستة والثلاثون تلميذا» الذين ينتظرونني يومين في الأسبوع في المعهد الّذي أدرّس فيه.

* لنحلم قليلا، لو اطّلع (أكاديميّا يعني في الجامعة) مدرّسونا في الابتدائي والثانوىّ والجامعيّ على البيداغوجيا والتعلميّة وعلم نفس الطفل والايبستومولوجيا وعلم التقييم L’évaluation وإدراك عملية الإدراك la métacognition ، ولو وفّرت لنا الوزارة قاعات واسعة لسبعة عشرة تلميذ في القسم كما يطالب الفرنسيّون ولو جهّزت كل قاعات الدروس بالحواسيب وربطتها بالأنترنات ولو ضرب أجرنا في خمسة لصنع التلميذ التونسي المعجزات كما فعل زميله الكوري الجنوبي حيث يخصّص في بلاده أكبر ميزانيّة للتعليم الابتدائي، يأتي بعده الثانوي ثم العالي عكس ما عندنا بالضبط، فهرمنا التعليمي مقلوب وهرمهم ثابت على قاعدة عريضة وصلبة. فنحن نبني على الرمل وهم يبنون على الاسمنت المسلح.

* نحن في تونس ما زلنا نعتبر التلميذ فأر تجارب. نرسم له مسبّقا متاهة ونعرف مسبقا من أين سيدخل ومن أين سيخرج، فلا نترك له حرّية التفكير والتفاعل مع الوضعيات التعلّميّة الجديدة ولا نلامس «منطقته الأقرب للنمو» ولا نعطي له الفرصة للتعلّم الذاتيّ البنّاء لتفجير طاقاته الكامنة فننقل شيئا فشيئا فشلنا وجهلنا ومحدودية تفكيرنا إلى مخّه الفتي المرن.

* عوض أن نوقظ فيه التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ، كما يقول «فيقوتسكي»، بالعكس يأتينا الطفل متعطّّّشا للمعرفة - وبفضل أساليبنا البالية وجهلنا بالعلوم التربويّة والإجتماعّة والنفسيّة الحديثة - يتراجع نموّه الذهني تحت مستوى «النمو الذهنيّ الفعليّ (الحاليّ)» فيصبح ابن الست سنوات يحمل عمرا ذهنيا متخلفا سنتين عن عمره البيولوجي.

خلاصة القول 

قال لي صديقي « أنت تحلم» فقلت أنا واع بأنني أحلم و أدرك حالة الحلم التي أمر بها. أحلم, لكنني واع أيضا بأن حلمي مشروع و ممكن التّحقيق لو توفّرت الظروف الملائمة فالكوريّون الجنوبيّون ليسوا أفضل منا كبشر عندما أقلعوا نحو التقدم في عشرين سنة بالاعتماد أساسا على تحسين التعليم