نقاط على الحروف

بقلم
فريد عمار
الأزمات المالية للنظام الرأسمالي، نظرة نقدية من الداخل

 لقد كان لتراجع مراكز الدول الإسلامية بعد سقوط الخلافة الإسلامية وبداية النهضة الأوروبية المنطلق الأول لطغيان الأنظمة السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان وفرض أطروحاتها الليبرالية على عموم الدول العربية والإسلامية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار مخلفات فترة الاحتلال (تحت مسمى الحماية). فـتراجعت بذلك مجالات تطبيق الشريعة الإسلامية حتى انحصرت في مجال الأحوال الشخصية والإرث الذين لم يسلما أيضا من تحوير بدعوى الحداثة والعلمانية. 

أما المجال الاقتصادي وهو الذي يهمنا بالدرجة الأولى في هذه الدراسة، فقد تم استنساخ النظام الرأسمالي الذي أصبح يشكل العمود الفقري للأنظمة المالية في البلدان  الإسلامية وما نتج عن ذلك من تبعية مطلقة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تجاوزه إلى درجة أن أي اضطراب أو أزمة تلحق بهذه الدول الغربية في أنظمتها الاقتصادية إلا وتؤثر سلبا وبشكل مباشر على مختلف الدول الإسلامية.
ونظرا للتقلبات المستمرة التي تعرفها الأنظمة الاقتصادية الغربية بسبب الأزمات التي تلحق النظام الرأسمالي، فقد أصبح «مفهوم الأزمة» جزءاً لا يتجزأ  من هذا النظام، فهو يقوم «بالأزمات وعلى الأزمات» انطلاق من فكرة «الطبيعة المركبة للأزمة الدورية»(1) .
و لقد فندت الممارسات العملية للأنظمة الرأسمالية في المجال المالي -المبنية على الربا والاحتكار والتوسع في الديون دون ضمانات حقيقية وخلق اقتصاد وهمي يفتقد لأصول عينية تدعمه..- دعاوى قوة هذا النظام المالي وقدرته على مواجهة الأزمات والتقلبات، فباختلاف قوة هذه الأزمات تختلف درجة التأثير على اقتصاديات هذه البلدان بين الكساد والركود وحتى إلى درجة الإفلاس كما وقع مع الأزمة العالمية الأخيرة لسنة 2008 (تراجع اقتصاديات كثير من الدول الأوروبية كإيطاليا واسبانيا والبرتغال  واقتراب بعضها الآخر من حافة الإفلاس كاليونان) .
إن هذه التغيرات تؤكد عن وجود تحولات هيكلية وعميقة قد تعصف بهذه الأنظمة الوضعية، وكأن دورة الحضارة تستأنف من جديد لتجعل الفرصة سانحة أمام البلدان الإسلامية للعودة إلى طليعة الأمم وقيادتها وفق المنهج الإسلامي القويم المبني على التوسط والاعتدال وإقرار الحقوق والعدالة الاجتماعية.       
وهذا ما يؤكد  على سقوط كل الأطروحات التي كانت تبشر بخلود النظام الرأسمالي ونهاية التاريخ (2)، أو تلك التي كانت تعتقد بقدرة النظام الرأسمالي على تجديد نفسه باستمرار رغم كل الأزمات عن طريق تدويل الإنتاج والرأسمال من جهة، والقدرة على التكيف واعتماد التخطيط كآلية للتصحيح من جهة أخرى (3).
لذلك  سنسعى إلى تأكيد هذا الطرح الذي يؤكد على بداية الانهيار من خلال استقراء آراء منظري هذا النظام الرأسمالي نفسه والذين أقروا بهذه الحقيقة، من أمثال مؤلف  كتاب «انهيار الرأسمالية» الاقتصادي  «أولريش شيفر»  الذي قال: «إن الاقتصاد الذي عرفناه حتى آلان انهار في خريف 2008 بكل تأكيد.إن العالم سيتخذ شكلا مختلفا في المستقبل، سيطفو على السطح نظام عالمي جديد بكل تأكيد، سيتبلور اقتصاد سوق جديد،قائم على مبادئ العدالة الاجتماعية» (4). وهذا يدل على أن الفرصة مواتية لعودة نظام يقوم على العدل والقيم الأخلاقية كما كان سائدا في النظام الاقتصادي الإسلامي. وقد أرجع «أولريش شيفر» أسباب هذا الانهيار إلى المراحل الثلاثة للأزمة  التي عرفتها الرأسمالية وهي في طريقها نحو اقتصاد السوق المحررة من القيود  (5):
* المرحلة الأولى من الأزمة:  والتي تميزت بترنّح الاقتصاديات  الناشئة التي كانت تعرف بالدول الصاعدة والممثلة لقوة النموذج الرأسمالي خارج أوروبا وأمريكا، وقد بدأ الأمر بأزمة المكسيك وتبعتها أزمات دول جنوب شرق أسيا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
* المرحلة الثانية من الأزمة: والتي تميزت بنهاية اقتصاد تكنولوجيا المعلوميات ومؤسسات الانترنت الذي أصبح يمثل أوج التقدم الغربي، حيث عرف هذا المجال انهيارات كبيرة بفعل تزوير أصول الشركات وحساباتها مما أدى إلى ظهورها على غير حقيقتها.
* المرحلة الثالثة: والتي تميزت بانفجار فقاعة السيولة الزهيدة الثمن من خلال ما عرف بأزمة الرهن العقاري التي نتجت عن التوسع المفرط في الديون بالاستناد إلى ضمانات  لأصول  ذات قيم وهمية .
فمن خلال ما سبق الالماع إليه، فقد تنبأ  هذا المفكر الاقتصادي الألماني باستمرار الأزمة وآثارها لفترة طويلة الأمد تقدر بحوالي خمسة عشر أو عشرين سنة، وبوضع  مقلق للاقتصاد العالمي مفتوح  على توقع  أحد الاحتمالات الثلاث  (6):
- الأول: إما امتداد الأزمة إلى القطاع الصناعي بعد تدميرها للقطاع المالي بفعل إحجام المؤسسات المالية عن تمويل القطاعات الصناعية.  
- الثاني: وإما الهروب من الدولار الأمريكي لارتباط نشوء وتطور الأزمة بالاقتصاد الأمريكي.
- الثالث: وإما إفلاس الدولة في حال عدم تحقيق الهدف من برامج وخطط الإنقاذ المعمول بها.
ولقد كانت الدراسات العلمية والأكاديمية قبل «أولريش شيفر»  تؤكد على مدى  امتلاك هذا النظام الرأسمالي المعولم لبذور فنائه في ذاته، فقد فند مؤلفا كتاب «فخ العولمة» حتمية  العولمة (7) واعتبروها نابعة من إرادة الدول الصناعية الكبرى والمؤسسات المالية التابعة لها  لفرض هذا النظام المالي والقيمي على العالم، والذي  اعتبروه بمثابة «شريعة الذئاب» (8). وكان من أهم نتائجه ظهور «مجتمع الخمس الثري وأربعة الأخماس الفقراء» الذي يشكلون بالنسبة لمناصري العولمة فائضا بشريا لا حاجة إليه (9). وهي نفس أطروحة «هورست أفهيلد» في كتابه « اقتصاد يغدق فقرا؛ التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه» حيث اعتبر  أن الليبرالية أمست منذ  ذلك الحين (انهيار جدار برلين) (10) تصول وتجول زاعمة أن الانفتاح الاقتصادي أفضل الخيارات المتاحة للشعوب العالم. إلا أن تطبيق برنامج واحد على كل دول المعمورة- أي من الكونغو إلى كندا ومن المغرب إلى أستراليا- ،أدى إلى نتائج وخيمة في الكثير من البلدان (11).
ويعدّ كتاب «السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية» للدكتورة «نورينا هيرتس»، أحد الأصوات من داخل المعسكر الرأسمالي أيضا والتي تتناول  فيه بالتحليل النقدي المرحلة الأخيرة من تطور الرأسمالية العالمية في ثوبها الليبرالي الجديد ، في هذا الإطار تبدأ «هيرتس» رحلتها لرصد الممارسات «غير الأخلاقية» للرأسمالية، والتي ترجعها إلى صعود الليبرالية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تحولها إلى نموذج للاقتصاد العالمي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط بلدان أوروبا الشرقية بلد تلو الآخر في منظومة الليبرالية الجديدة، سواء نتيجة الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها جراء الانهيار الاقتصادي الذي عانته تحت وطأة الحكم السوفيتي، أو نتيجة حلم التنمية والرفاهية الذي يمثله النظام الرأسمالي في عيون شعوب هذه البلدان (12) .
وترصد دراسة «هيرتس»  السيطرة الصامتة لليبرالية الجديدة، كنمط ساد في العالم كله على أنقاض دولة الرفاهية، قد بلور بشكل حاسم سيطرة الرأسمالية الاحتكارية المتمثلة في الشركات متعددة الجنسيات التي أصبحت ميزانية بعضها تفوق الناتج الإجمالي لبعض الدول. و بالتوازي مع ذلك كان يحدث تحول غير مسبوق لدور الدولة التي أصبحت في خدمة تلك الشركات تماما. والدليل على ذلك، وفقا لرأي «هيرتس» هو الدور الذي تلعبه الشركات الاحتكارية في توجيه سياسات الحكومات، إما عن طريق تمويل الانتخابات مقابل تبني أطروحاتها، أو عن طريق التهديد طوال الوقت بنقل الاستثمارات إلى أماكن أخرى في حال عدم استجابة الحكومات لمطالب تخفيض الضرائب وتوفير حوافز إضافية للاستثمار (13).
إن الذي تخلص إليه هذه الدراسات وغيرها هو أنه لابد من إيجاد نظام اقتصادي بديل يرتكز على قيم العدالة الاجتماعية و يقلص الفوارق بين فئات المجتمع، و يعزز دور الدولة في الرقابة وإعادة الاعتبار للقيم  والأخلاق في مجال المعاملات المالية والاقتصادية بعيدا عن الجشع والطمع .
إن  كل هذه المؤشرات عن واقع  وآثار الأزمات المالية العالمية تشكل أهم الدواعي للاجتهاد في بلورة بديل واقعي مستند إلى القيم والمبادئ الإسلامية ، ليس بدافع  حماية  ووقاية  البلدان العربية والإسلامية من هول هذه الصدمات فقط ، وإنما بهدف إيجاد  حلول ومخارج خارج منظومــة الاقتصــاد الرأسمـــالي والإسهام في تأسيس اللبنات الأولى لمنظومة تستوعب إشكالية الأزمات المالية اقتصاد إنساني يستند على قيم العدالة الاجتماعية.
الهوامش
(1) - أنظر: فؤاد مرسي «الرأسمالية تجدد نفسها» كتاب عام المعرفة –العدد 147 مارس 1990 - الفصل  18- ص:373-397
(2) - تبنى هذه الأطروحة «فكوياما» في كتابه «صدام الحضارات» للتأكيد  أن النظام الرأسمالي هو خاتمة الأنظمة البشرية على الأرض وأن  زواله محال. وأكدتها أطروحات أرخى بعد ذلك كأمرتيا صن في «التنمية حرية» وغيره.
(3) - للتوسع أكثر أنظر: د.فؤاد مرسي «الرأسمالية تجدد نفسها» .
(4) -أولريش شيفر «انهيار الرأسمالية»،ترجمة:د.عدنان عباس علي-كتاب عالم المعرفة العدد 751 يناير 2010.ص: 8.
(5) -أنظر:  للتوسع أكثر،المرجع السابق،الفصول: الثالث والرابع والخامس.
(6) - أنظر:  أولريش شيفر «انهيار الرأسمالية»،ترجمة:د.عدنان عباس علي.ص: 436-438.
(7) - العولمة:هي نظام دولي جديد يعتبر مرحلة من مراحل تقدم النظام الرأسمالي والذي يفترض  ضرورة إزالة كل الحواجز القيمية والثقافية والاقتصادية بين الدول والمجتمعات لإقرار نظام قيمي وثقافي واقتصادي موحد يستند على الليبرالية الاقتصادية  كنظام اقتصادي والحداثة كنظام للقيم وعلى تكنولوجيا الإعلام  والانترنت كوسيلة لتذويب الخصوصيات  .
(8) -أنظر:هانس بيترمارتين وهارالد شومان «فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية» ترجمة وتقديم:د.عدنان عباس علي-مراجعة وتقديم:أ.د. رمزي زكي-عالم المعرفة العدد 295 غشت 2003- طبعة ثانية.الفصل الرابع ص:171-230.
(9) -أنظر: هانس بيتر مارتين وهارالد شومان «فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية»،الفصل الأول ص:35-50.
(10) - كان انهيار حائط برلين إيذانا بنهاية وسقوط النظام الاشتراكي ونهاية الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي بداية نظام دولي جديد أحادي القطب .
(11) - أنظر للتوسع:هورست أفهيلد «اقتصاد يغدق فقرا: التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه»،عالم المعرفة- العدد 335يناير 2007- ترجمة: د.عدنان عباس علي.
(12) -  أنظر للتوسع: نورينا هيرتس، كتاب: «السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية» عالم المعرفة العدد 336 فبراير 2007.
(13) - أنظر للتوسع: نورينا هيرتس، كتاب: «السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية» عالم المعرفة العدد 336 فبراير 2007.