الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
النخبة في تونس: المتاهة و قلق الإصلاح (5) النخبة التقليدية والنخبة السبرانية


النخبة التقليدية، الغياب والتجلي

 

إن المشروع الإصلاحي والمجتمعي الذي دشنته الدولة الوطنية بتفكيك جامع الزيتونة برمزيته المكثفة وتهميش علماء الدين، و محاصرة كل أشكال التدين بشكل منهجي مفرغا المجتمع ومؤسساته من كل مظاهره، انبثقت عن التحديث الفوقي آثار سلبية، و تبلور على هامش ذلك خطاب "الإسلام السياسي" الذي تضخم هيكليا ولم ينجح في طمأنة النخب السياسية والثقافية، وإقناعها بأنه جزء من النخبة الديمقراطية لأخطاء فكرية وإستراتيجيته ارتكبها، ضخمت حالة التخوف والتوجس منه، و أسرعت السلطة لمحو وجوده  التنظيمي. بل ضيقت السلطة على خطاب تقدمي وتنويري ممثلا في نخبة مثقفة أصدرت مجلة (15-21) روجت بالتضافر مع منتدى "الجاحظ" لقيم الحرية والتسامح والانفتاح  مهتمة بالمسائل الثقافية وقراءة نقدية وتاريخية للتراث ، ومثمنة الحوار والحرص على تأسيس عقد ثقافي مجتمعي ينبذ الانغلاق الثقافي و احتكار الهوية أو احتكار الحداثة.

هذا الإلغاء والتضييق دشن  أرضية مخصبة لانغلاق التفكير التفاعلي الحر و لانتشار أشكال التدين التقليدية بلا مرجعيات واضحة ولا آفاق محددة، خصوصا وأن الساحة الثقافية العامة تفتقد في حدها الأدنى لرموز دينية بمواصفات ثقافة دينية عميقة وعالمة أو لمؤسسات "شرعية" أو دينية. وهذا ما يبرر الأثر- الجاذبي لإذاعة الزيتونة وبروز خطاب ديني بشحنة ليبرالية شعبوية ممثلا في "الشيخ محمد مشفر" الذي له جمهور واسع من المريدين أو لنقل من المعجبين حيث تجاوزت صفحته 40000 معجب ( ويتساوى في ذلك مع المطرب صابر الرباعي). وهو من المروجين لخطاب ديني مبسط ومسطح يجعل من الممارسة الطقوسية ميسرة مع إجابات شعورية مطمئنة. وفي قراءة متأنية، ندرك أن كل مجتمع يبحث عن حاجات روحية وعقائدية وإقبال على التدين، إلا أن هذا الزخم من التدين الصفري في حاجة إلى "نخبة" دينية تؤطره. بينما التدين في تونس متحرر من كل تأطير مؤسسي، مشرد يبحث عن علاماته واتجاهاته كثفها "في الشيخ مشفر"، الذي تصدر الساحة الإعلامية الدينية في مختلف القنوات في ظل "فراغ" كبير للرموز الدينية التقليدية، وتسليم الخطب الدينية لوجوه "فقيرة" التكوين ومحدودة الإشعاع. ومثل ذلك  صمام أمان "ظرفي"، إلا أن ذلك وبحكم انتشار ظواهر التدين وانبساطاته الابتدائية وتنوعها وامتدادها ، فإنها قابلة للانزلاق أو للتورّم أو للتحول( أحداث مسلحة ببلدة سليمان)، بسبب افتقاد المناخ الثقافي إلى مؤسسة تقليدية أو علماء تقليديين، مما يهدد التدين بالانغلاق المضاعف، ويعيد إنتاج خطاب تدين تقليدي لا يسأل ولا يبحث إلا عن الطمأنينة الفردية في أشكالها المتوترة.

ومع تذبذب النخبة المثقفة بين الالتزام السارتري والنموذج الأوروبي (المحافظ) ، كانت المدرسة في تونس بما هي مدار الإصلاح وأداته ورحم بلورة الوعي، حتى وإن وظفت المدرسة وبرامجها وإصلاحاتها في اتجاه خدمـــة السلطــة المهيمنة على ما بيّن (بورديو) (1) . حيث وظفت الإصلاحات التربوية في تونس في إطار الصراع مع "الإسلام السياسي" الذي ضخمته الآلة الدولتية وشيطنته، وسعت مع القبضة الحديدية وسنوات الجمر إلى لجم ما اعتقدت أنه منبت "التطرف والأصولية" حسب عباراتها، ونفذ الإصلاح التربوي في سياق متوتر مع الإسلام السياسي (2) ، ونص قانون الإصلاح لسنة 1991 على أن العملية التعليمية- التعلمية تراعي في كل مراحلها وبرامجها ومناهجها مقتضيات بث روح المواطنة والحس المدني حتى يتخرج من المدرسة التونسية المواطن الذي لا ينفصل عنده الوعي بالحقوق مع الالتزام بالواجبات وما تتطلبه الحياة البشرية في مجتمع مدني مؤسساتي يقوم على تلازم أساسي بين الحرية والمسؤولية. و استمر الإصلاح التربوي لسنة 2002  (3) بنفس الروح في غرس قيم المواطنة، ومفاهيم دولة القانون و مسألة حقوق الإنسان ومؤسسات الدولة والدستور والميثاق العالمي لحقوق الإنسان وتنوع الثقافات وتسامح الحضارات.

هذه القيم ربت المتعلمين على "مفارقات" بين ما يدرس وما يعاش، وعمقت القطيعة بين المدرسة والمجتمع، وأحدثت شرخا "ذهنيا" و"انشطارا" شعوريا ببغض هذا الواقع في  رمزيته السياسية، واستقر إحساس عام "بمثل" تدرس وواقع يدهسها وقيم تعلم وتطبيقات تناقضها. و أفرزت هذه المفارقة مشاعر مكبوتة ووعيا دفينا وأحاسيس حانقة ومختفية، لا تجد قنوات للتعبير عن غضبها والإفصاح عن مقتها للتناقضات الفظيعة. وربى هذا الفضاء التعليمي العمومي مناخا احتجاجيا نائما ومتوثب لكل تغيير، هذا الشباب المتعلم والمثقف سيكون قائدا للنخبة وموجها لها في ما سيطلق عليه ثورة الأحرار أو ثورة الشبان.

 

النخبة السبرانية والفعل الثوري

 

سادت حالة من القلق الشامل لدى النخبة مع إحساس بأنها انزلقت في متاهة غامضة وأفق معتم، دفعها لاختزال نشاطها العام في النضال الحقوقي و السياسي مع خطاب ثقافي باهت وفقير المعنى، مما جعل الشباب المتعلم وفئة عريضة من المثقفين تحتفي أيما احتفاء بالتكنولوجيا الحديثة، وتنقذها من غياب المعنى إلى اكتشاف الحياة والوجود واستحضار المهمة الغائبة. و كان للإعلام الفضائي مكانة متميزة في ذلك، فعبر الصورة والمعطى المصور تتم صناعة اتجاهات الرأي الفردي والعام  سياسيا وثقافيا، ومكنت الشباب خصوما من امتلاك الحد الأدنى الضروري من وعي كامن  وقدرة على الحكم والتمييز، وندرك جيدا أن القنوات تنحت الإدراك  و التوجه وتحدد المواقف والخيارات و السلوكات، فهي  أداة التعلم الاجتماعي (Albert Bandura) الأقوى تأثيرا. كما صاغ  الإعلام  

والحوسبة نوعا من التقارب  البشري والالتصاق الإنساني، ناسجا شراكة كوكبية في متابعة الأحداث وتبادلها والتفاعل مع قضايا الشعوب ومساراتها، أي صنع نوعا من الاهتمام المشترك بل وحدة معنوية مكثفة كونيا (4). فالقنوات الفضائية وما يسرته من روافد للتعلم والتثقف والمقارنة و الإطلاع على الأحداث، جعلت من الصعوبة بمكان استغفال الشاب والفرد المتعلم واستبلاهه، بل انقلب "السحر على الساحر" كما يقال، فقد اشتغلت القنوات التونسية التلفزية و الإذاعية على "رضاعة التسلية" حسب عبارة بريجنسكي،

فالنقاشات حول الكرة وتحليل المباريات وكشف المستور (5) في أجوائها وشخصياتها ورياضييها وفسادها، حولت كرة القدم إلى ديانة اجتماعية ملأت حياة الشبان وشغلت الناس وأفرزت جدبا خارجيا وأفرغت الحماسة من مضامينها الإنسانية والوجودية وغيبت المشاركة والعطاء المجتمعي. و رغم الجفوة الظاهرة بين الشباب والاهتمامات المجتمعية، فإن ذلك كله صنع روحا نقدية عامة وذكاء جماعيا ونباهة مجتمعية و تنمية شعورية مضادة، أخرجت الشبان من القمقم الذي سجنوا فيه وأنتجت توليفات شبابية جديدة.

وعزز ذلك  الانتشار الكبير للتكنولوجيات الحديثة للاتصال و الشبكات الاجتماعية التي  سمحت بتبادل فوري وسريع للمعلومات والمعطيات من رسائل وإرساليات ومقاطع مصورة ونصوص ودعوات، جعلت علاقة الفرد بالأفراد تتغير وصلته بالأحداث تتبدل وارتباطاته بالمكان والزمان تتحول. و بالتالي أنشأت الشبكات العنكبوتية عالما جديدا أخذ في البروز و التشكل تدريجيا فضاء ومفاهيما وتواصلا، فالعالم صار يصوغوه الإعلاميون ونجوم الإعلام، وربما تراجع دور النخب المثقفة بتحديداتها المتعارف عليها. ويمكننا الاستنتاج أن هناك تغييرا في فهم المعرفة و الثقافة، لم يعد مقتصرا على الكتاب والمجلات والصحف بل على ثقافة المشهد والصور والمعلومة المتلفزة أو المعرفة المرقمنة، وكلما تغيرت أدوات المعرفة ونظام أنظمة المعرفة تتغير علاقة الإنسان بمعارفه وبالمعرفة ككل وتدفعه للتخلص من الأوهام والعجز المدرب.

مثّل هذا الانقلاب الكوبرنيكي في التكنولوجيا الإعلامية فضاء جديدا للعلاقات والاتصالات يمكن أن نسميه الفضاء السبراني(l’espace cybernétique) (6)، المفضي إلى تحول في إدراك المجتمع ومقاربة المدينة، وهي إحدى علامات العولمة التي لا يمكن القفز  فوقها، والتي لا أرى فيها مجرد أدوات  ووسائط لنشر الهيمنة وتدعيم أركانها، بل غيرت حياة الشباب ونظرته وطبيعة نضالاته ورؤيته للثقافة والفكر وتعاطيه مع التغيير أفقا وبنية. ويسّر هذا الانخراط المكثف انتشار التعليم طبعا وانتشار الحواسيب بشكل لافت للنظر، جعل التعامل مع هذه التكنولوجيات لا تعاملا جافا وتقنيا، بل تمظهرا انطولوجيا جديدا وجودا وكيانات وآفاقا، يسمح بممكنات جديدة للنظر وللفعل وللنضال. وتبلورت فضاءات جديدة للتواصل والتعارف والنقاش والحوار والتفاعل، مغيرة الاستقطاب التقليدي بين النخبة المثقفة من ناحية والجماهير من ناحية أخرى، وساهمت في نبذ وصايتها ومعجمية "التلقيح" الخارجي أو "عضويتها" و"قيادتها".

إن قراءتنا للأحداث الأخيرة في تونس (ثورة الأحرار)، كشفت تهافت النظرة الدونية للشبان وإدراكنا  لطبيعة الوعي السياسي والثقافي تشكيلا وإنشاء  ودورا ، وأن هناك صيغا وأنماطا وأساليب  تم الانتباه  إلى أهميتها مثل المدونات والشبكات الاجتماعية (فايسبوك- تويتر...). فالشبكة الاجتماعية "الفايسبوك"  تضم أكثر من مليون شاب تونسي منخرط في صفحاتها، حيث استطاع المثقف "الفايسبوكي" أن ينحت وعيا افتراضيا نضاليا، وأن يصنع مواقع هجوم وتعبئة وتأطير وتنظيم حقيقي بأدوات ميدياتيكية. و مكّن "الفايسبوك" وغيره من الوسائط  بإمكانياته المتكاثرة في الخزن والنقل والإرسال والتبادل والنشر ونقلها من متلق إلى آخر إلى تغيير خارطة العلاقات والصلات،  وكيفية التصرف في المعطيات تأخذ منحى جديدا. ونظرا لخصوصية التعامل مع  الفايسبوك  من حيث نوعية الكتابة بما هي خروج عن مرجعيات ثابتة وانفجار في مناويل التواصل وتشظي في صيغ الإعلام،أحدثت ثورة ابستيمولوجية في طبيعة الفكر والحقيقة أي نفي التطابق بين الفكر والواقع وبين الماهيات والكائنات وبين المفاهيم والوقائع، كل ذلك أفضى إلى تبديل العلاقة بالواقع بل تغير الواقع في حد ذاته، فالواقع مثقوب وسائل ومتدفق وافتراضي تماما. وانتقل هذا الفضاء الافتراضي إلى فضاء للتواصل يسمح بربط الصداقات والتعارف على مدى بعيد وإدارة المداولات  والنقاشات، مجسما انتصار إيقاع الزمن الضوئي على الزمن الساعاتي الراكد ، فالزمن الافتراضي سريع ومباشر. وهو كذلك  انتصـــار "لنهايـــة الجغرافيـــا"  بطعم محلي على المكان الإقليدي الممتد بأبعاده الثلاثة، فالعالم تحول فعليـا إلى قرية صغيــــرة، حيث لا يمكـــن إخفـــاء الحــدث وطمـــس المآســـي ودس الاستبداد والقمع، و أصبح الشاب والجميع يمتلكون "حق الفضح" ( le droit au scandale ) (7).

فهذا الزمن هو زمن  الصورة وليس المفهوم، وزمن الشعار الدقيق والبسيط، وأن التاريخ يصنعه الفوري والمتسارع والتراكم الآني، ويفرز المتن الإلكتروني والسند الإلكتروني، وتتكاثف الوسائل مثل الكتاب والصحيفة والأقراص والانترنت وغير طريقته البحث في الكتابة والتعبير والتنظير، وهي كتابة مركبة وصياغتها متشظية وحروفها متنوعة ومتداخلة مؤدية إلى معنى واضح. و ضمن جمل معبرة وفقرات قصيرة وصور معبرة وتعليقات ومطارحات كبيرة، إنه مجتمع سياسي جديد، كون برلمانا افتراضيا وحتى حكومة افتراضية، وهذا الجدل على اختزاليته وبرقيته وجزئيته وشكلانيته وإشاراته لا يعبر عن فراغ أو سطحية في العقل السياسي بل يدل عن عمق ونضج فكري يكشف نوعا من التراكم.

هذه الكتابة الافتراضية الجديدة جعلت الأحداث في تونس(التفاصيل

والجزئيات والهوامش) يتم ضخها وشحنها ونشرها وأشعرت الشاب التونسي أنه قادر على صناعة الحدث وأن له أهمية وأنه يعبر وأنه يفعل، بل إنه يثور ويمكن أن يغير. كانت الإرساليات وفقرات الفايسبوك تفعل فعلا"سحريا" في التأطير والتواصل وفي ارتقاء وعي الشبان (الأطفال والكهول)، الكل يساهم والكل يبني، وكان البناء نوعا من الانتقال بين الافتراضي والواقعي، ثم بين الواقع إلى الافتراضي، كانت صلة لولبية تتراكم وتنشئ رموزا. وأن التواصل ليس خطيا أو حتى شعاعيا بل تفاعلا منتجا، وأن الكل يكتب ويقرأ ولا يقرأ فقط أي تفاعلا بين مستعملي الشبكات الاجتماعية وما يقرؤه وما يبثه وما يرسله، فهي علاقات افتراضية وغير مباشرة و حميمية ومحفزة ومعبئة نفسيا وذهنيا، إنها فضاء المثقّف، و عبرها يعبر عن إنسانيته وفرديته ومواطنته وحريته وتهويماته وموقفه. وأنشأ "الفايسبوك"  نخبة افتراضية تونسية عريضة  تمنح القيمة للكتابة المتناثرة  مع  كثافة القراءة مع الألوان والصور المشهدية  وصياغة المخيال الجديد و حيوية النضال الجديد، معيدا صياغة خليطا عجيبا

بين الكوجيطو الديكارتي والتاريخ الهيغلي والبراكسيس الماركسي، صانعة موقفا موحدا، ومنظومة مشاركة سبرانية جديدة تعوض غياب منظومة المشاركة الفعلية والواقعية.

إن الوسائط الإعلامية الجديدة والشبكات الاجتماعية لها أثرها في احتضان الحدث الفردي(البوعزيزي) ثم المحلي(سيدي بوزيد) ليصبح حالة اختمار وطني عام( وعربي)، ويصدم البديهيات النضالية نظريا ويلغي النظرية الموضوعية للتغيير ويزعزع المسلمات ويعيد النظر في وظائف المثقف أو النخبة بأن ينخرط في المناخ التواصلي وتجنب الانعزال ونفي الصفوة والاصطفاء والتعالي. واتسع بذلك تعريف النخبة ليشمل كل من المتعلمين والمدرسين و "عمال المعرفة" مزيحا الحواجز بين النخبة والجماهير وبين النشاط الذهني والنشاط التقنــي. وأن المثقف لا يختزل في إنتاج الفكر والثقافــــة، وإنما بما يضــــم مـــن نشطاء في المجالات الماليـــــة والبنكيــة و الإشهارية والتقنية والصور .

والرياضة النقدية والسينما والمسرح،وأن المجتمعات لا تتغير بمفاعيل النخبة الكلاسيكية فقط بل النخبة المتنوعة وكل القوى الناشطة. بمعنى ولادة فاعل اجتماعي و نضالي جديد، وإعلان عن نهاية النخبة المثقفة بالمعايير الكلاسيكية، فالنات أفرزت مناخا ثقافيا يتضمن إمكانية الشك والتردد والاعتراف المعمم والمتبادل. و أدى الواقع/ الفعل الافتراضي إلى زخم نفسي وفكري وعاطفي وسياسي كبير ونزوع إلى تحويل الواقع الموضوعي، وبين أن الواقع الافتراضي أشد واقعية وأن الافتراضي أعمق موضوعية من الواقع الموضوعي، وأن المدونة الإلكترونية ليست انعكاسا للواقع أو انعكاسا للحقيقة بل هيمن يخلق الواقع وينشئه.

و أذابت النخب السبرانية الشبابية السقف الإيديولوجي والجدران المذهبية والحزبية، وأصبح النقاش هو الثابت وأن الحوار هو الأصل وأن التواصل هو المؤسس وأن التبادل هو المنشئ، و يصنع الحديث والحدث، وأنه مؤثر وملين للتطرف وينعم التضادات، بلوغا إلى توافقات وتفاهمات. وصاغت- ثنائية الافتراضي- الشارع واقعا افتراضيا وواقعيا مغايرا ، و ترفض الروح الجديدة الاستبعاد والاستئصال والتهميش والإقصاء المهيمن السائد بين النخب في الواقع الثقافي والسياسي. ولا يعني ذلك تأليف الأضداد بصفة تلفيقية، بل التفاعل يعني التوافق على القيم الأساسية والمبادئ المحورية وأخلاقيات التعامل والإقرار بالتنوع، وأن النخبة الشاملة ترفض خرائط التصنيف، وتخلق وسطا فكريا ممثلا في بؤرة تنويرية وتسامحية تتيح قيام حوارات خصبة، وأن تؤدي دور الوسيط المنتج للأفكار وللقيم وللمفاهيم، بالتشارك مع أنماط جديدة من المثقفين وأطياف حديثة من النخب العديدة والعديد جدّا.

 

خاتمة و فاتحة

 

من أهم مؤشرات دينامية النخبة المثقفة نقد المثقف لذاته لا بالمفهوم الشخصي بل الوظيفي والعلائقي والماهوي، و ضرب نرجسية النخب بتفتيت حلمها  بريادة" التغيير المجتمعي"، والاعتراف بترددها وتذبذب فهمها، والإقرار بعدم استيعابها لإيقاع التغييرات في المعرفة والتواصل والنضال الثقافي.أي النظر في مفهوم النخبة ودورها يستوجب الاشتغال على نقد نخبويتها وتفكيك فوقيتها وتمديد نظرتها العمودية، بعد أن استهلكت أسماؤها وترهلت أوصافها وتعطلت أدوارها، بهذا المعنى، فالمطلوب فك الترابط بين النخبة والجماهير، فهي ثنائية مفلسة، وتجاوز الثنائيات وتحتاج فعلا إلى "التطهّر" في الشارع وهي كلمة استعملت، وأن النخبة غير مالكة للحقيقة و لابد من تعرية وفضح أدوارها وترددها. خصوصا وأن النخبة المثقفة بتحديداتها الكلاسيكية  استنفدت أدوارها مع نهاية الحداثة و دخولنا في عالم ما بعد الحداثة، فالحداثة تعني نهاية النماذج الإيديولوجية وانعدام المثقف الإيديولوجي والمثقف/ الغنيمة والمناويل الثقافية السائدة لتنشأ وظائف جديدة، و إدراك الوجود بصفة مغايرة ونوعية أخرى في التعاطي مع الواقع، فعلى المثقف أن لا يبقى على الشاطئ يكتشف بحذر درجة حرارة المياه من حين لآخر ويظل معظم الوقت بعيدا عن البلل بعبارة إدوارد سعيد.

بمعنى أن عملية التغيير/ الثورة لم تتم فجأة أو صدفة، إلا لمن لا يقرأ الأحداث جيدا، بل إن المشهدية في مراحلها الأخيرة مسار تراكمي لا تستثني أي عنصر أو أي جزئية أو علامة، إن ثورة 14 جانفي ليست إلا التجسيد السياسي لتضافر العلامات وتراكمها العمودي والأفقي، فالنخبة المثقفة بمرجعيتها الإصلاحية ونزوعها النقدي والمشاكس ساهمت في تحرير الإرادة وتوعية الشباب  وتثقيفه وتعبئته. ونقر بأن  المجتمع لا يتحول بصفة فوقية ونخبوية، فالتغيير جهد يومي في كل جزئية وكل ثانية، وهو مسار

تعقدي ويتم بصفة ميكروسكوبية، تساهم فيه كل النخب المتعلمة بمعناه المتسع ويتم بأسلوب النملة أو حركة الفراشة، فالتغيير لم تنجزه النخبة الكلاسيكية بل النخبة بتحديدها المتنوع والممتد ، و التغيير أنجزته كل الأجيال وكل الفئات وكل الجهات بلا استثناء.

 

(1) Pierre, Bourdieu. La noblesse d’état, Paris,                                               Minuit, 1984.

(2)  قانون إصلاح النظام التربــــوي عدد 65 لسنة 1991، مـــؤرخ في 29 جويلية 1991.

(3) القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي عدد 80- 2002، مؤرخ في 23 جويلية 2002.

(4) علي، حرب. حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،2000.

(5)  أمثلة من البرامج الرياضية(الأحد الرياضي) (بالمكشوف) (سويعة سبور) (ستاد 7) (أجواء الملاعب) (السبت الرياضي) ( جمعة سبور) (حصاد الأحد) (ناس سبور) ... روجت جميع القنوات التلفزية والإذاعية لبرامج رياضية بشكل يومي، مع هامش حر لنقد المسؤولين الرياضيين ورؤساء الجمعيات، وهي المساحة النقدية المتاحة، وقد ساهمت في صنع رأيا عاما نقديا ومتفطنا أن الفساد الرياضي يرضع من الفساد السياسي. وتشكلت مجموعات "Ultras" في الملاعب والتي مارست عنفا مسرحيا في الملاعب وخارجه، وكانت فيه كل مؤشرات الاحتجاج السياسي المغلف بقشرة رقيقة من ردود الفعل حول نتائج رياضية أو أخطاء الحكام.

(6)  علي، حرب. حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،2000.

 

(7) Ryan, P. « Des intellectuels en Europe et en Amérique. Un état de la question », Revue Mens, N°1, 2003, pp.9-37.