بهدوء

بقلم
د. مصباح الشيباني
الحكومة التونسية و «السّلوك الرّيعي» في التنمية

 تمر البلاد التونسية بمرحلة تاريخية دقيقة لا تقبل التردد أو التلفيق في تغيير نظامها الاقتصادي والاجتماعي أي منوالها التنموي السابق والبحث عن نظام تنموي بديل له، ليس باعتباره مشروعا  «ثوريا» فحسب، بل باعتباره ضرورة مجتمعية ملحة ومتأكدة. ولكن يبدو أن الحكومة التونسية المؤقتة قد قامت بمعالجة مشاكل التّشغيل والتهميش والفقر، ومن أجل امتصاص الضّغط المجتمعي الداخلي، عبر ما يمكن أن نسميه بـ «السّلوك الرّيعي»في التنمية، وهو السّلوك الذي يتنافى مع أهداف الثورة ومع الصالح العام ويكون مصدرا للفساد أيضا. 

   1ـ  خصائص «السّلوك الريعي» في الاقتصاد
يعتمد «الاقتصاد الرّيعي» على المصادر الطبيعية عوض اعتماده على المصادر الإنتاجية والصناعية وعلى القوة البشرية الذاتية. كما تستحوذ الدولة في هذا الشكل من الاقتصاد على مصادر هذه الثروات وتتصرف فيها دون ضوابط الشفافية والمساءلة  والأطر المؤسّساتية المحددة. وبشكل عام، يمكن القول أن «الاقتصاد الرّيعي» هو كل ثروة مادية لا تتم عن طريق الإنتاج والعمل. كما أن «الاقتصاد الريعي يتميز بدوافع الاستهلاك الترفي لدى المواطنين ويزيد من التفاوت بين الطبقات، ويدعم تبعية الشعب إلى الحاكم(1). فمنذ بداية الألفية الجديدة، ثمة عديد المصطلحات التي بدأت تقع في آذان الشعوب دون أن تجد لها تفسيرا أو تبريرا مقنعين، وهو ما يؤدي إلى التباسها وغموضها عند الخاصة والعامة من أبناء هذا الشعب. ومن هذه المصطلحات مفهوم «السلوك الريعي» في المجال الاقتصادي. ولا تكمن مشكلة هذا المصطلح في عدم سلاسة إدراكه فقط، وإنما أيضا في صعوبة إدارك آليات اختراقه اقتصاد دولة ما. 
عندما يكون اقتصاد الدولة «ريعيا» فإنّه يولد وحدات اقتصادية وإنتاجية وتسويقية موازية في المجتمع. و»الموازي هو بالضرورة نتيجة لواقع فاقد للمعايير الاندماجية ويعني نوعا من القصور البنيوي والوظيفي»(2). والحالة «الاقتصادية الريعية» بهذا الشكل لا تتوقف آثارها السلبية على الجانب الاقتصادي فقط، بل تمس جميع المجالات الأخرى، إذ تقسم المجتمع إلى قسمين رئيسيين وفق منطق السلوك الاقتصادي المتبع. فالأول يمكن أن نطلق عليه إسم «المجتمع الشكلي» ( الرسمي) وهو معترف به قانونيا ويعمل وفق ضوابط قانونية ومؤسساتية رسمية، والثاني يمكن أن نطلق عليه اسم «المجتمع الموازي» (الهامشي) الذي يكون غير منضبط للإطار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد أي لا يخضع إلى الآليات التعديلية الضابطة للاقتصاد ولنسق العمل والإنتاج عموما. وغالبا ما تشجع بعض الحكومات العربية هذا الشكل من الاقتصاد لكي تحمي بها نفسها أولا، وتحمي بها القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها ثانيا.  وقد كان ابن خلدون أول من شخص هذه العلاقة الجدلية بين الريع والفساد. إذ يقول: إننا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يسارا وثروة من فاقد الجاه. والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدم بالأعمال يُتقرب بها إليه في سبيل التزلق والحاجة إلى جاهه(3).
ومع اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي بدأ الاهتمام الأكاديمي بـمفهوم «الاقتصاد الريعي» من قبل المختصين في الاقتصاد والاجتماع والسّياسة. لكن ظلت العلاقة بين نظام الدولة الاستبدادي والاقتصاد الريعي خارج هذه الاهتمامات إلى أواخر القرن الماضي.  لقد بقي اقتصاد بلادنا منذ عقود ماضية أسير « السلوك الريعي»، والذي تمت تقويته خاصة مع توسيع المناولة، إنتاجا وتوزيعا، ولما اعتمدت الدولة على السياحة والهجرة إلى الخارج، ولم تفلح إلى اليوم في حل القضايا الهيكلية مثل البطالة والتهميش والتفاوت بين الأفراد والجهات..الخ. ولم يعد «السّلوك الريعي» في بلادنا يمثل قضية اقتصادية بحتة على خطورتها، بل أصبح يمثل قضية سياسية واجتماعية تهدد أمن البلاد واستقرارها.
صحيح أن هذه السّلطة « الحكومة» قد اكتسبت شرعيتها عبر الانتخابات، ولكنها مازالت عاجزة عن التعاطي مع حقائق الأمور وفق آليات التنمية والديمقراطية القادرة على إحداث تغيير وتحول نوعي وحقيقي أي الانتقال بالمجتمع إلى مرحلة أكثر تطورا وفق أسس علمية وخطط ممنهجة وممأسسة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية ومواجهة المواقف الصعبة بالقرارات الثورية المناسبة.
ما نلاحظه ، بعد مرور سنتين من الثورة، أن هناك انحرافا للمسار التنموي لا يمكن أن نأتي على ذكر جميع خصائصه في هذه المقالة، ولكنه يضعنا أمام تساؤل قد يبدو للبعض غريبا أو صارما: هل الحكومة التونسية الحالية مدركة لسياساتها الاقتصادية الخطيرة على مستقبل البلاد في المستقبل أم لا؟
2ـ أبعاد «السّلوك الرّيعي» في الاقتصاد
  لقد ذهبت عديد الدّراسات(4) إلى أنّ الاقتصاد يمثل التحدي الأكبر أمام الإسلامييـــن الذين تسلموا السلطــــــــة في بلدان ما تسمى بـ «الربيع العربي»، كما يبدو أن هناك اتفاقا على أنّهم تعاملوا مع المسألة الاقتصادية دون النفاذ لحقائق الواقع، وهم مطالبون اليوم بالانتقال من التنظير إلى التجسيد أي الانتقال من الخطاب إلى الممارسة.
إنّ تحقيق أهداف الثورة يقتضي إزالة كل المعوّقات المتراكمة من النظم السياسية والاقتصادية القديمة، سواء كانت هذه المعوّقات تشريعية أو مؤسّساتية أو مالية. ومن شروط مواجهة هذه المعوقات أو الاكرهات (les contraintes) الاعتراف بوجودها أولاً، ثم وضع تصورات عملية لحلها ثانياً، والتّعامل معها ببرامج وسياسات إستراتيجية متكاملة وبمقاربة تشاركية ـ وطنية جامعة وليس عبر حصرها في يد الرّئيس أو وزير أو إدارة بعينها ثالثاً. وهذه السّياسة «الانفرادية» و«الارتجالية» التي اعتمدتها الحكومة التونسية بهدف تعويض نقاط الضعف الذاتية والخروج من حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه تونس بعد 14 جانفي 2011، وقد شكلت هذه السياسة نوعا من «المغامرة» دون حساب  تبعاتها الداخلية السلبية. 
لقد استمرت حكومة «الترويكا» في تونس في اعتماد منوال التنمية الاقتصادي والاجتماعي الذي اعتمدته الحكومات السّابقة ودون إحداث أي تغيير ولو كان شكليا. إذ نشرت في شهر ماي من عام 2012 وثيقة تحت عنوان «استرتيجية التنمية لتونس الجديدة»(5)وأهم ما ورد في هذه الوثيقة التأكيد على أن هذه الحكومة « ستواصل المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي من أجل الحصول على مرتبة الشريك المتقدم والتي تعد فرصة هامة لإضفاء مزيد من الديناميكية على التعاون الثنائي من شانها تطوير الشراكة مع أوروبا..».
فالتزام هذه الحكومة بهذه السّياسة في إطار ما تسمى باتفاقيات الشّراكة «الأوروـ متوسطية» أو «إعلان برشلونة» لسنة 1995، يعزّز التبعية، باعتبار أن مفهوم الاستثمار الأجنبي وفق التعريف الذي صاغه «صندوق النقد الدولي» عام 1977 ينص على أن «الاستثمارات المباشرة والأجنبية هي الاستثمارات المنجزة بهدف الحصول على فائدة بصفة دائمة في مؤسسة تمارس نشاطها في بلاد المستثمر، وهدف هذا الأخير هو كسب سلطة قرار فعلية في تسيير المؤسسة. فالهدف إذا، هو بسط النفوذ على المؤسسة في البلد المضيف. وهذا يتوافق مع مضمون الفصل 34 من «اتفاق الشراكة» بين تونس والاتحاد الأوروبي الذي يؤكد على «أن يلتزمان الطرفان بضمان حرية تنقل رؤوس الأموال في ما يخص الاستثمارات المباشرة الأجنبية في تونس، وكذلك بتصفية وإعادة تصدير منتوج هذه الاستثمارات وكل الأرباح المتأتية منها». 
فمنذ إبرام تونس «إتفاقية الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي»(6)، وحسب ما أشارت إليه عديد التقارير الاقتصادية، فإنّ الاستثمار الخارجي لم يؤدّ إلا إلى تعميق الهشاشة في الاقتصاد الوطني التونسي، حيث أصبح الرّأسمال الأجنبي يتحكم في أكثر من 54% من إجمالي صادرات البلاد منذ سنة 2008.  كما تمكّن المستثمرون الأجانب من التغلغل في اقتصادنا الوطني ومن السّيطرة على أهم القطاعات الاقتصادية الحيوية (الميكانيكية والكهربائية 87% ) والنّسيج والنفط والفسفاط..الخ كل ذلك تم نتيجة إتّباع سياسة الخوصصة وتحرير الأسعار والإعفاءات الضريبية لهؤلاء المستثمرين دون النّظر إلى تبعاتها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية السّلبية حاضرا ومستقبلا. 
فـ«السّلوك الرّيعي» في الاقتصاد الذي يضع مصلحة الفرد فوق كل اعتبار، ويسمح لطبقة معينة (الأقلية) من المجتمع بالصعود والرفاهية على أعناق الطبقات الأخرى (الأكثرية)، لا يتفق مع مبادئ الإسلام الذي يقوم على قيم العدل والمساواة، ولا يمكن لهذا الخيار الاقتصادي أن ينجح في تحقيق التنمية لأنه يستند إلى قيم الاحتكار والاستغلال والربا والفساد. 
لذلك، يمكن الإشارة إلى المسائل الجوهرية التالية:
1ـ إنّ التحولات السّياسية إذا لم تتوافق معها تحولات في مستوى المنظومات الاقتصادية، والانتقال الديمقراطي يمكن أن يفشل إذا لم تدعمه الحكومات الجديدة باعتماد السياسات الاقتصادية والاجتماعية الواضحة المنجزة لأهداف الثورة،
2ـ إنّ تمسك الحكومة الجديدة بنصوص الاتفاقيات الدولية ، وإتباع منوال التنمية «النيوـ ليبرالي» الذي يهيمن عليه الرأسمال العالمي يمثل حسب رأينا، أحد المعيقات الموضوعية أمام  هذه الحكومة في إمكانية تغيير سلوكها الريعي في الاقتصاد.
3ـ إن فشل الحكومة الجديدة في تغيير القوانين الداخلية والتراتيب المنظمة للعلاقات الاقتصادية مع الخارج وفي إطار نظام الشراكة والتنسيق في إطار تحقيق المصلحة الوطنية، يمثل عائقا في تغيير الأوضاع السابقة.  
  إذن، يحتاج اقتصادنا في المستقبل إلى إزالة عديد العراقيل لتحقيق التنمية ومن أهمها:
 1 ـ عدم ارتجال الأهداف والمقاربات الاقتصادية والاجتماعية في التنمية،
 2ـ  تجنب تغليب المصلحة الحزبية (السياسية) على حساب المصلحة العامة،
3ـ يجب الفصل بين المجالين السياسي والاقتصادي في الدولة،
4ـ  ضرورة حفظ «السّيادة الوطنية» في وضع سياستنا الاقتصادية،
5ـ  إن غياب التفكير الاستراتيجي في التنمية سوف يعمق التبعية إلى «الرأسمال العالمي» ولن ينتج إلا «تنمية مبتورة».
فالنّموذج الاقتصادي المطلوب في التنمية اليوم، هو نموذج الثورة الشاملة متعدّدة الجوانب والأبعاد. الثورة التي من المفترض أن تجمع ـ في واقعناـ وفي نسيج واحد متداخل بين التحرر السياسي ومهام التحرر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، وبين رفض التبعية السياسية والاقتصادية والحضارية عموما للآخر، لأنه عندما تختفي القيم الإنسانية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي تنظيم العلاقات بين الناس والمؤسّسات في المجتمع، عندئذ يملأ الفراغ قيم الحرمان والظلم ويتعمق التفاوت الاجتماعي بين الأفراد والمجموعات في هذا المجتمع.  
والديمقراطية و «الشرعية الانتخابية» ليست هي الحل لمثل هذه المشكلات، ولكنّها طريقة للتّعامل مع هذه المشكلات من أجل حلها أي أنّها أسلوب في الحكم  والإدارة والحياة عموما وليست غايتها. بل إنّ الانتقال نحو الديمقراطية يمكن أن يُقوض إذا لم يكن مدعوما بانجازات اقتصادية أي دون أن يحقق انجازات تنموية يشعر بها النّاس على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. والديمقراطية سوف تتحول إلى شعار أجوف إذا لم ترتبط بحلول حقيقية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع.
لكن، يبدو أنّ المناصب الوزارية أو الرّئاسية أو النّيابية الجديدة في تونس، قد جعلت حكّامنا الجدد لا يبصرون أحيانا. وبالتّالي، وجدوا أنفسهم مثل سابقيهم في مواجهة مع المظاهرات والاحتجاجات والغضب الشّعبي اليومي. لكنهم اكتفوا، هذه المرّة، بترديد حجة واحدة، يدافعون بها عن أنفسهم وهي:«لقد انتخبنا ديمقراطيا» وكأن لهذا الانتخاب فضيلة سحرية(7). في حين أنّ البلاد تمر بمرحلة تاريخية دقيقة لا تقبل التلفيق أو الحنث بالوعود الانتخابية أو عدم تحمل المسؤولية. أما اعتماد «السّلوك الرّيعي»(8) الذي أفسد في السّابق قدرة الدولة على مواجهة تحديات التنمية، ومنعها من الاستجابة إلى مطالب الشعب في تحقيق العدالة الاجتماعية، سوف لن يفضي إلا إلى إنتاج انتفاضات اجتماعية جديدة في المستقبل.
الهوامش
(1) محمد نبيل الشيمي، «الاقتصاد الريعي المفهوم والإشكاليات» من «الحوار المتمدن» www.alhewar.org
(2) Emile Durkheim, Leçon de sociologie, Paris, PUF, 1956, p.58.
(3) عبدالرحمان ابن خلدون، المقدمة، الباب الخامس: في أن الجاه مفيد للمال، ص 51.
(4) أنظر « الإسلاميون والثورات العربية..تحديات الانتقال الديمقراطي وإعادة بناء الدولة»، أشغال الندوة التي نظمها مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة بين 11ـ12 سبتمبر 2012.
(5) الجمهورية التونسية، وزارة التنمية الجهوية والتخطيط، «استراتيجية التنمية لتونس الجديدة»ن ماي 2012.
(6) لقد كانت تونس أوّل دولة عربية تبرم «إتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي» في 17 جويلية 1995. وتتكون هذه الإتفاقية من ديباجة وست وتسعين مادة. وقد دخلت حيز التنفيذ في 01 مارس 1998.
(7) إنياسيو رامونيه، حروب القرن الواحد والعشرين، مخاوف ومخاطر جديدة، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، طبعة 2007، ص 139.
(8) أنظر تقرير « تحديات التنمية العربية 2011، نحو دولة تنموية في المنطقة العربية» .
-----------