الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 33

 بسم الله قاصم الجبارين وناصر المستضعفين والصلاة والسلام على محمد الأمين

عندما تتحدّث إلى التونسيين في المقهى أوفي البيت أو عند الحلاّق أو في الحديقة العموميّة عن مشاغلهم وما يتطلعون إليه، يحيلونك إلى شعارات الثورة المتمثّلة في الشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة . أغلب المواطنين يطمحون إلى شغل قارّ يوفّر لهم عيشا كريما وأمنا يحفظ لهم أرواحهم وممتلكاتهم وأن يعيش الجميع في جوّ من الحريّة دون السقوط في الفوضى . الجميع يرى أن بإمكان التونسيين تحقيق ذلك لما يتميّزون به من صفات التسامح والتعاون خاصّة وهم يعيشون في بلد منّ الله عليه بتجانس تحسده عليه الكثير من الدول والشعوب. 
ويستدلّ الذي تحاوره من التونسيين بالطبيعة السلمية لثورتهم وبوضوح شعاراتها وأهدافها التي جعلت كل شرائح المجتمع وفئاته تلتفّ حولها إلى أن انتهت بانتصار إرادة الشعب وهروب الطاغية. فُسح المجال للجميع من دون استثناء للعمل من أجل ترجمة مطالب الشعب إلى برامج ومشاريع قابلة للتحقيق. لكن ما تحقق إلى حد الآن لم يكن في مستوى الطموحات. والواضح أن جزءا كبيرا من الطبقة السياسية والمثقفين الذين تسلّموا الأمانة من الشعب لمواصلة المشوار، فشلوا في مهامهم إلى حدّ كبير. وسقطوا في أتون الصراعات والتجاذبات التي لا طائل من ورائها. فعوضا عن استغلال الطبيعة السلمية للثورة ومدنيّتها للالتفاف حول برنامج وطني يؤسس منوالا تنمويّا يتماشى مع تطلّعات الشعب ويأخذ بعين الاعتبار امكانيات البلاد وقدراتها الذّاتية، اتجهت بعض الاطراف إلى خلق جوّ من الصراع حول مواضيع ايديولوجيّة وحزبيّة ضيّقة أوجدت جوّا من التوتر السّياسي والاقتصادي والاجتماعي وفسحت المجال للقوى المعادية للثورة للبروز من جديد لتزيد في سرعة حراك «ماكينتها» التي لم تتوقف يوما واحدا، وبذلك تحوّل مسعى «الالتفاف من أجل الثورة» إلى «التفاف على الثورة».
كان لابدّ أن يكون الفرز الحقيقي في المشهد السياسي على قاعدة «قوى الثورة» و«أعداء الثورة» بعيدا عن كلّ تصنيف ايديولوجي، لكنّ هذا الفرز لم يتحقق على الميدان، وأصبح شعار التعايش السلمي بين الفرقاء السياسيين والتنافس السياسي على قاعدة مبدأ التداول على السلطة، ودعم اللحمة الوطنيّة من أجل بناء دولة ديمقراطية ترتكز على مبادئ المواطنة والمساواة وتقطع الطريق على عودة الديكتاتورية، شعارا نظريا صعب التحقيق. والواضح أن هناك أطرافا ممن لا يملكون في هذا البلد قاعدة ثقافية ولا عمقا شعبيا إجتماعيا، لا ترى الأمور إلا من خلال نظّاراتها الايديولوجيّة وتعتبر الحراك الثوري صراعَ وجودٍ مع الآخر ومعركة حتى الموت، فتبنّت قوانين فرز مختلفة مبنيّة على قاعدة «علمانية» مقابل «إسلام» واستحوذت على الحقيقة وضمّتها إلى ملكيتها الفرديّة وغدت توزّع صفات العمالة والخيانة على الطرف المقابل وتتّهمه بالعنف في الوقت الذي تقوم هي بتأصيل ظاهرة العنف من خلال تجيّش مريديها لحسم المعركة بكل الأسلحة المتاحة. وفي المقابل برزت بعض الجماعات الدينيّة المتطرفة لتبحث لنفسها عن موقع قدم في الساحة معتمدة على نفس قانون الفرز وترفع شعار القضاء على أعداء الإسلام وهي بذلك تتبنى نفس آليات التفكير والفعل.
فهل من خيانة أكبر لهذا الشعب من إفراغ الثورة من روحها السلمية المدنية وتحويل البلاد  إلى حلبة صراع عنيف من أجل فرض رؤية ايديولوجيّة معيّنة ماركسية كانت أم دينيّة؟ وهل تقدّر الأطراف التي تدفع ببلادنا نحو العنف عواقب الأمور؟ وإذا أرادوا ذلك هل نتركهم يفعلون؟