قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
ليتنا كنّا مُحَصِّنين...

 ليس الحديث عن الثورة إلا حديثا عن تحصينها وجمع الصف حولها ونحن حديثو عهد بها. ومن ثمّ فإن علينا أن نجيب دائما عن الأسئلة التي تتعلق بمستقبل الثورة ونحن متيقنون أن المخاطر تحيط بها من كل مكان وأن الثوريين هم وحدهم الذين يخافون على الثورة ويسعون لحمايتها حقا ولكن من هم الثوريون ؟هل هم فقط من شارك في الثورة بالنزول الى الميدان؟ أم هم أولائك اللذين عرضوا صدورهم عارية للرصاص وأجسادهم للضرب أو الاعتقال؟ هل هي النخبة التي أخذت علي عاتقها مهمة استكمال أهداف الثورة أم هم الذين رابطوا أمام القصبة ليفرضوا على بقية النظام الإقرار بضرورة التأسيس من جديد بواسطة مجلس منتخب ؟هل اللذين ناضلوا لمدة عقود وعرضوا أنفسهم وأهليهم للخطر وللموت أحيانا هم من كانوا وراء بناء لبنات الثورة لبنة لبنة حتى أذن الله أن يكتمل البنيان ويرتفع على أنقاض بنيان هوت به ريح الثورة إلى مكان سحيق؟.

إننا لا نريد أن نطرح هذه الأسئلة مكتفين بها فحسب إلا بغاية الدلالة على كونها أسئلة مفتاحية لتحديد السياق الثوري من ناحية والتعريف بماهية الثوريين الحقيقيين من ناحية أخري. لأن هذا في الحقيقة أول خطوات التحصين الذي نسعى أن نحيطها به، فلا نتركها نهبا للأفاقين وبائعي ذممهم ومدعي الثورية والمتحذلقين والآكلين من كل الموائد. ولعلنا نتذكر جميعا كيف مرت على الناس الأيام الأولى من الثورة وكيف بدأت حملات التشكيك في ماهيتها، هل هي ثورة، أم هي انتفاضة، أم هي مؤامرة خارجية لإحداث تغيير يحافظ علي مصالح محدثيه بعد أن استبان لهم أن النظام القائم قد استنفذ الغرض منه. كما أن الناس لم يغب عنها بعد، كيف تحوّل البلد من بلد مستبشر بالثورة آمل في غد أفضل الى بلد يرجو فيه الناس سلامة النفس والمال وقد انخرم أمنهم. هل نسينا بعد كيف احتلت وجوه بعينها الشاشات والصحف فلا تتحول عنهم فى موضع إلا وجدتهم في الموضع الجديد وكأنهم قدر مقدور، تمتلئ أفواههم بالكذب وقلوبهم بالحقد وهم يتحذلقون في الكلام كأنهم أهل المعرفة والحكمة، حتي أصبحوا وحدهم من يعرف الثورة وأسبابها والقائمين بها وعليها والمدركين للمخاطر التي تكتنفها ومستقبلها وهلم جرا؟ في حين أنهم إنما كانوا أول الخطر عليها بما بثوه من سموم وافتراءات. ولنا أن نسأل ألم يكن من الواجب على الثوار الحقيقيين تحصين الثورة منهم في حينه قبل أن يشتد عودهم وقد اشتد بعد حتي صاروا كالغربان السود يمنون النفس بأكل جثتها؟
لم يكن بوسع قوي الثورة إجراء فرز حقيقي لمن هو مع الثورة ومن هو ضدها لأسباب عدة، منها سرعة انجازها وقصور النخب الثورية وبعدها عن مركز القرار الذي سرعان ما اختطفته النخبة وآلة الدولة المتنفذة حتى جرى تحقيق الانتقال سريعا من منطق الثورة الى منطق الدولة . ولكن هذا لا يعفينا الآن من الإقرار بالكثير من الأخطاء التي ترافقت مع تلك التنازلات وأكثرها أهمية في نظرنا هو تسليم القيادة لطرف لم يكن مؤمنا أصلا بالأفق الرحب الذي أتاحته الثورة للتغيير والبناء من جديد .كان العقل المستبد والمتغرّب في آن واحد هو من أخذ زمام المبادرة وبدأ يضع للثورة أفقا جديدا ولذلك جرى استبعاد الإسلاميين جميعا في البداية ثم فُتح لهم باب ضئيل للمشاركة عند تشكيل الهياكل الجديدة وفقط ضمن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في سياق عام من الهرسلة والتشكيك والتخويف وسط قصف إعلامي متواصل باليل والنهار كان أول ما فعله أن أخرجهم من دائرة المشاركين في الثورة أصلا.
إن القوى التي ناصبت العداء للثورة منذ اليوم الأول، كانت تعرف الحراك الدائر في المجتمع والقوى المتأصلة فيه ولذلك سعت منذ البداية لممارسة أقصى قدر من الاقصاء، ولم تكن تسعى قطّ لبناء مجتمع تعددي حقيقي يكون فيه الاحتكام لصناديق الاقتراع ولارادة الشعب وإنما كان أقصى غاياتها إحداث تغيير طفيف في رأس الدولة وجسمها لا يمسّ بمصالحها ونفوذها. لقد قالت منذ اليوم الأول أن المعركة ليست معركة الثورة بمعني المع والضد ولكنها معركة النموذج المجتمعي الذي اختارته هي لرقيا المجتمع مقابل نموذج آخر متخلف رجعي ظلامي سوف يعود بنا إلى قرون سحيقة من التخلف.
هكذا يتضح لنا أن ما لم تفعله القوى الثورية عجزا أو خوفا لتحصين الثورة من أي نكوص نحو الاستبداد قد فعلته القوى الأخرى وما زالت تفعله مستميتة في ذلك بغية تحصين نفسها، حتى صار  المساس بها مسّا بالثورة ومبادئها. ليس هذا فحسب، بل نراها الآن تشحذ السيوف والهمم استعدادا لمعركة طويلة سوف يكون الشعب كله وقودا لها حتي يستكين لها الجميع وما استماتتها الآن في الدفاع عن رموز النهب والاستبداد وماتقوم به من مؤامرات لتأجيل الانتخابات إلاّ الدليل على ما نقول .
إن المتباكين الآن على حقوق الناس في المشاركة القائلين بأن الثورة لا تخاف وأن الشعب وحده صاحب الإقرار في استبعاد من يشاء إنما يقولون ذلك من باب المناورة ليس إلا وهم يدركون أن الثورة لم تُجر فرزا ضروريا وإلا كانوا أول المنبوذيين منها. أما القوى الثورية الحقيقية فلا يمكنها أن تنسى فعلهم حين كانوا أصحاب السلطان ولا ما فعله زعيمهم الأوحد بهذا الشعب وبفئة منه خاصة.
ان المتباكين بالليل والنهار لم نسمع منهم هذا البكاء من قبل حين كانت طائفة من الناس تعيش حصارا مطبقا أشبه ما يكون بحصار بني هاشم. هل طال العهد على هؤلاء فنسوا أم كانوا قوما بورا ؟ كيف يتسنى لهم اليوم أن ينسوا ما فعلت أيديهم وكيف كانوا عونا للسلطان على المستضعفين من الناس ؟ لقد كان فعلهم الشنيع من أقبح الأفعال التي لا تسامح معها ولكن تركهم والتعفف عن عقابهم قد أطمعهم، لان صغار النفوس لا يرون في العفو تكرما فلا تدلهم أنفسهم إلا على الخسيس من الأعمال ولو تسنّى لهم أن يعودوا لعادوا بقضّهم وقضيضهم، ولن يكتفوا هذه المرّة بالسجن والاعتقال وقطع الأرزاق. ورب قول أنفذ من  صول.