في العمق

بقلم
الهادي بريك
الحرية أسبق من العقيدة والعدالة أسبق من الشريعة(3)

 تعرضنا في الحلقة الأولى إلى ضرورة طرح إشكالية أسبقية الحرية على العقيدة والعدالة على الشريعة، ثمّ عرجنا على منشأ المشكلة وتحريراتها المطلوبة واعتبرنا أن المشكلة هي علاقة الإسلام بالحياة. ثم طرحنا في آخر المقال سؤالا حول معنى أسبقية الحرية عن العقيدة وبيّنا أن هذه الأسبقية معناها أن الإسلام ميثاق تعاقدي بين الإنسان وربّه وهو ميثاق تعاقدي حرّ لا إكراه فيه البتة. وفي الحلقة السابقة واصلنا تقديم الأدلّة والبراهين من الكتاب العزيز حول أسبقية الحريّة على العقيدة من خلال تأكيده على نفي الإكراه وضرورة بناء العقد الإيماني بين الله وبين الإنسان على مبدأ الحرية ورأينا كيف عرض علينا القرآن الإيمان مقارنا بالكفر وبأضداده بصفة عامة. كأنه يعرض علينا الرأي والرأي الآخر ثم تحدّثنا عن تعريض الإيمان للمساءلة  من خلال قصتي إبراهيم وموسى عليهما السلام وكلاهما من أولي العزم من الرسل ثم خصصنا الجزء الأخير من المقال لتقديم  دليل من القصة القرآنية وهي قصّة سيدنا موسى عليه السلام حيث بيّنا كيف أن رسالته كانت تحريريّة بالأساس. ونخصص الجزء الأخير من مقالنا للحديث عن أسبقية العدالة على الشريعة من خلال تعريف مصطلح الشريعة وتقديم ترتيب مختلف لحقول الشريعة لنستخلص إلى ضرورة تحقيق الحرية والكرامة والعدالة والوحدة والتنوع في المقام الأول (مقومات الشريعة السياسية) ومن بعد ذلك يمكن للمجتمع الحرّ أن يختار بإرادته إذا شاء تنفيذ الشريعة الجنائية الجزائية العقابية.أسبقية الحرية على العقيدة حقله المجتمع والحوار

أسبقية الحرية على العقيدة حقولها عملية بالأساس الأول. تلك أسبقية معناها أن المؤمن يتصرف بين الناس مقدما النموذج الحي الدال على أن العقيدة مرتبطة بالحرية أشد الإرتباط. تلك أسبقية معناها أن يكون الحديث مع الناس لونه لون الحرية. الناس الذين يحيطون بك يعرفون ذلك منك لأول وهلة. مخطئ من يظن أن الناس ينتظرون الرجل حتى يتكلم فإن تكلم صنفوه. الناس أذكى من ذلك وهم يصنفون كل واحد منا في قدره المعدّ له وذلك من بعد مراقبة حركاته وسكناته وتصرفاته لأيام معدودات بل ربّما لما هو أدنى من ذلك. شاهدت داعية مشهورا في فضائية خليجية يروي للناس حكاية رجل ـ في الهند على ما أظن ـ يسأل عن حكم الإسلام في مسألة ما وهو مخمور. يروي ذلك الداعية الشهير للناس المشهد وهو ممتلئ إستهزاء من ذلك الرجل الهندي المخمور كيف أنه يهتم بالإسلام وهو مخمور. إمتلأت فضائياتنا بمثل أولئك إمتلاء ما بعده من إمتلاء. أولئك حقهم أن يسجلوا أنفسهم في معاهد التنمية البشرية. أجل. والله. لا أقول ذلك لا هزؤا بهم ولا سخرية. أولئك ينقصهم ذلك الفن نقصا رهيبا فاحشا. لا يكفي أن تكون عالما أو حتى فقيها مبرزا علامة لا يشق لك غبار. تلك بضاعة حملت منها الذي حملت. ولكن هل تعلمت المنهاج الكفيل بتسويق تلك البضاعة؟. أنت تحتاج إمّا إلى تعلّم فنون التسويق أو تحتاج إلى من يسوق لك علمك. هما جهازان لا بد لك منهما : جهاز العلم وجهاز نقل العلم. أنى للمعلم إذن أن ينقل العلم إلى الطفل الصغير لو لم ينهل من معارف البيداغوجيا. دعاة اليوم ـ إلا قليلا جدا ـ بحاجة إلى علوم البيداغوجيا. كثير منهم لا يرون من الكوب إلا نصفه الفارغ. والشأن ذاته في أكثر حواراتنا. لا تلفى المسلم يحاور إلا وهو خصيم لمحاوره. خصيمه لسانا وطبقة صوتية. هل تظن أن ذلك الرجل المخصوم سينفتح قلبه للإيمان يوما. لا، في الأغلب الأعم ولكن القلوب بيده وحده سبحانه يقلبها كيف يشاء. نحن صنيعة أحداث صغيرة وكبيرة وذكريات وغير ذلك. لا يمكن للمرء أن يتخلص من إرثه الماضي بيسر وسهولة. كثير من الشباب حديث التدين اليوم يقلع عن الإتجار بالمخدرات ضحى ليصبح داعية مغوارا تتلقفه الفضائيات بالعشي. أنى لمثل هذا أن يضارع رجالا مردوا على الجدالات الفكرية مردا عجيبا وعلى إمتداد عقود حتى أصبح لهم ذلك حرفة محترفة بل ربما ما نسميه باللغة الأجنبية ( بزنس ). أسبقية الحرية على العقيدة معناها بكلمة واحدة لا معقب عليها : لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام على الناس وكيلا ولا مسيطرا وهو من هو ولكن كان مبلغا عن ربه سبحانه بقول لين وتواضع ورفق ووسطية ويسر فأنى لك أنت أن تكون وكيلا على الناس كأنك قسّ يعرض صكوك النجاة بسرعة وغلظة فمن أجابه إقتطع له صكا من صكوك الجنة ومن لم يجبه إقتطع له صكا من صكوك النار. 
ونحن نودع الجزء الأول من هذه القالة لنا أن نسأل سؤالا واحــدا. ما الذي جعل محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخرج من بيته مهاجرا إلى المدينة وعيناه تذرفان دمعا سخيا هو دمع الفراق وهل هناك أشد لوعة من الإخراج من الأوطان إكراها؟ لا تجب على هذا السؤال حتى تسأل المهجرين من ديارهم قهرا وجورا. لا أظن أن عاقلا واحدا فوق الأرض يتنكب هذه الإجابة : ما حمله على الخروج سوى البحث عن الحرية الكفيلة بتأمين العبادة للمسلمين وبإستقطاب مسلميـــن جددا. وما الذي حمل الصحابة من قبل ذلك على الهجرة إلى الحبشة مرتين. السبب ذاته. الحرية مناط التكليف حقا. الحرية والإسلام صنوان شقيقان لا حياة لأحدهما بفراق الآخر. 
أسبقية العدالة على الشريعة
أسبقية العدالة على الشريعة معناها أنه لا سبيل إلى تطبيق الشريعة الجنائية العقابية الجزائية في المجتمع الإسلامي إلا بعد توفر شرطين لا بد منهما : الشرط الأول هو الذي تكفل به الجزء الأول من هذه المعالجة أي لا بد من حصول تعاقدي حر بين الله وبين عباده يكون بمقتضاه الإنسان عبدا لمعبود عبودية رضى وإختيار لا إكراه فيها إذ « لا إكراه في الدين». والشرط الثاني هو نفاذ الشريعة السياسية والإجتماعية والإقتصادية في ذلك المجتمع.
فما هي الشريعة إبتداء
الشريعة هي القانون ،إن شئت قلت ، بتعبيرنا المعاصر. يعبّر بالشريعة أحيانا على الإسلام كله وخاصة في القرآن المكي : «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها».(1) وكذلك قوله : « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً»(2) وغير ذلك. فلما إستقر الإسلام في الأمة وآل الأمر إلى تدوين العلوم الإسلامية ـ سيما الشرعية منها ـ في الدولة العباسية وما بعدها تطورت بعض المصطلحات لتكتسب دلالات جديدة ومن ذلك مفردة العقيدة نفسها بمثل ما عالجنا آنفا إذ العقيدة كلمة مستحدثة في الإسلام لم يأت بها لا قرآن ولا حديث ولا إستخدمها الصحابة حتى في الخلافة الراشدة ولكن نشأت أثرا من آثار علم الكلام في العهد العباسي وإستقبلتها الأمة بالترحيب حتى يوم الناس هذا. ومن ذلك كذلك كلمة الشريعة التي لم تعد تعني الإسلام كله ولكنها أصبحت تعني الجانب العملي منه وليس الجانب العملي كله ولكن تعني جانب المعاملة فيه ثم إزدادت إنحسارا فلم تعد تعني سوى الجانب الجنائي العقابي الجزائي. المشكلة ليس في إنحسار الدلالات بسبب أن اللغة كائن متطور حتى وهو يتوفر على مساحة متينة من الثبات ولكن المشكلة هي في إبتلاع ذلك الإنحسار للجماع أي يهيمن اللفظ الجديد ليبتلع المعنى الأساسي الأول ويحتكره وهذه العملية عند حصولها لا تسمى تطورا ولكن تسمى إنقلابا. ذلك هو الذي حدث لكلمة الشريعة أو شيئا قريبا من ذلك جدا.
أما من حيث الأصل فلا حرج أن تقول أن الإسلام شريعة عقدية وشريعة تعبدية وشريعة أخلاقية وشريعة معاملات وهذه بدورها تنقسم إلى شريعة سياسية وشريعة إجتماعية وشريعة إقتصادية وشريعة إدارية وشريعة داخلية وشريعة خارجية وغير ذلك مما لا يحصى. ولا حرج أن تقول أن الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة. الحرج كله هو أن تعتقد أن الشريعة مختزلة في الجانب الجزائي العقابي الجنائي فحسب وما عدا ذلك فلا وجود له أو لا حكم له أو هو مؤخر في الإهتمام.
ترتيب مختلف حقول الشريعة 
الحقل العقدي. 
هذا لم تعد لنا به الآن حاجة بسبب ما أنف الذكر فيه ويظل هو الحقل المقدم في الإسلام نظرية وتطبيقا دون ريب. إذ لا معنى لشريعة عملية غير مسبوقة بتعاقد إيماني بين الله وبين عبده. 
الحقل التعبدي المحض
هذا الحقل يلي الحقل العقدي مباشرة والدليل على ذلك هو أن الفريضة التعبدية ـ وليس غير التعبدية كما سنرى من بعد ذلك بقليل بإذنه سبحانه ـ هي أول فريضة تنزلت وذلك من خلال الصلاة التي لازمت المسلمين حتى وهم مطاردون في مكة مثنى مثنى وفي آخر العهد المكي تنزلت على صورتها الأخيرة. السرّ في ذلك هو أن الشريعة التعبدية ـ الصلاة مثالا والصيام ـ يمكن تنفيذها حتى في حالات العسر والمحاصرة ولو بشيء من الحرج والعنت والمشقة من جهة ومن جهة أخرى فإن ذلك يبرز الحاجة المتأكدة لتلك الشريعة ـ ومبناها التزكية الروحية ـ التي لا بد من توثيقها لمواصلة البناء عليها. أما الشريعة السياسية والإجتماعية الوحيدة التي سبقت زمانها ومكانها وخالفت القاعدة فهي شريعة الإجتماع والوحدة والإعتصام من لدن المسلمين حتى وهم يسامون الخسف في مكة وذلك من خلال الإجتماع الدوري الذي يلتقون فيه محمدا عليه الصلاة والسلام في دار الأرقم. ذلك يدلّنا على أن أم الشريعة السياسية والإجتماعية هو الإجتماع والوحدة والإعتصام فإذا حصل ذلك ترتب ما بعده بيسر وسهولة.
الحقل السياسي
أجل. الحقل السياسي هو الحقل الذي يلي الحقلين العقدي والتعبدي المحض مباشرة. الشريعة السياسية في الإسلام مخّها الحرية. تلك هي الحرية التي تأسس عليها الحقل العقدي ذاته. ولكنهما حريتان : حرية تأسس عليها الحقل العقدي في مكة بسبب أن العقيدة تعاقد حرّ بين الله وبين الإنسان وهي حريّة كان لا بد من إنفاذها حتى في مكة حيث الملاحقات والتعذيب والتشريد. وحريّة يتأسس عليها الحقل السياسي العام من بعد ذلك في المدينة بسبب أن السياسة هي تعاقد حرّ بين الأمة وبين من يخدمها سوى أنه في حالة المدينة لا يسمى حاكم الأمة خادما لأنه محمد عليه الصلاة والسلام فهو الرسول النبي الأمي الهادي ولكن النظرية الإسلامية السياسية قوامها بيعة تراض حرة بين الأمة وبين من تختار لخدمتها بأجر محدّد. الإنسان إذا حرّ حيال خالقه وهو حرّ من باب أولى وأحرى حيال حاكمه. من أقوى الأدلة على أن الحقل السياسي تلك هي مرتبته المتقدمة هو أن أول ثلاثة أعمال بادر بها عليه الصلاة والسلام من بعد ظفره بالحرية في المدينة مباشرة هي: بناء المسجد الذي يؤمن الحرية العقدية والتعبدية وعقد التآخي بين المهاجرين والأنصار ـ أي بين الفقراء والأغنياء  أو بين الأغراب وبين أهل الدار ـ الذي يؤمن الحرية الإجتماعية والعقد الدستوري السياسي المكتوب بين مختلف الطوائف المتعددة دينيا وعرقيا وهو العقد الذي يؤمن الحرية السياسية. كانت المبادرة إلى التنظم السياسي سابقة تطبيقا للشريعة الإسلامية التي هي ليست سوى الحرية.
أما الحقول الأخرى ( الإقتصادية والإدارية والخارجية وغير ذلك ) فهي ثمرة من ثمرات ذلك التنظّم السياسي، إذ عندما تسطّر الجماعة دستورها السياسي على أساس الحرية المسؤولة التي تضمن الحريات الفردية والجماعية داخليا بما يخدم الوحدة الوطنية ويعمق التكافل والتضامن.. عندما يقع ذلك تجد الحقول الأخرى بطبيعة الحال طريقها إلى النفاذ بسبب إندياح الحرية المسؤولة المنضبطة.
الحقل الجنائي الجزائي العقابي
هذا هو الحقل الأخير من حقول الشريعة الإسلامية بمعناها الواسع. الدليل على تأخره هو تنزله مؤخرا في القرآن الكريم من جهة ومن جهة أخرى تطبيقه مؤخرا كذلك وتبعا لذلك. الأمر هنا مفهوم جدا وقوامه أن تطبيق الشريعة الجنائية الجزائية العقابية لا معنى له إذا لم يسبق بتطبيق الشريعة السياسية أي بنفاذ الحرية والأمر شبيه جدا بعدم معنوية العقيدة عندما يكون مبناها الإكراه. قاعدة : «لا إكراه في الدين»  تقابلها قاعدة : «لا تقام الحدود في المجاعات وفي الحروب وفي الأوضاع الإستثنائية الإنتقالية المرحلية بصفة عامة». ذلك هو الأمر الذي قيض له الفاروق عمر عليه الرضوان. ذلك العقل النابغ الذكي الذي نصر الله به الإسلام. ذلك المجتهد الكبير المطلق الذي رسّخ في التاريخ أن الشريعة متأخرة عن العدالة. رسّخ ذلك عمليا لا قوليا. أمثلة ذلك الترسيخ عديدة منها : عدم تطبيقه حدّ السرقة عام الرمادة أي عام المجاعة في العراق وعدم إعتباره لمصرف المؤلفة قلوبهم من بعد ظهور الإسلام وغير ذلك مما هو معروف. لم يفعل ذلك إجتهادا فرديا منه ولكنه إجماع الصحابة الكرام عليهم الرضوان. الحكمة من ذلك ظاهرة جليّة وقوامها أن الجائع الذي يسرق لا يطبق عليه حد السرقة لأن العقاب في الفلسفة الإسلامية تأديب لموسر أو مستور ـ في أي حقل ـ تجاوز حده وطغى وألحق الضرر بالناس وبنفسه أو بالقيم التي تأسس عليها المجتمع. وليس هو إنتقام من مضطر أو محتاج. الشريعة الجنائية الجزائية العقابية في الإسلام فلسفتها حماية حقوق الإنسان حقوقا مادية وحقوقا معنوية. 
العدالة سابقة على الشريعة كلها
ليست العدالة سابقة على الشريعة الإجتماعية العقابية فحسب ولكن العدالة سابقة على الشريعة السياسية ذاتها. العدالة السياسية مخها الحرية فلا بد من أن تأخذ الحرية حظها كاملا ـ وخاصة في الفترات الإنتقالية الصعبة ـ ومن بعد ذلك تسن القوانين التي تسطر التخوم وتحمل المسؤوليات ومن بعد ذلك يقع تنفيذها. مثل ذلك هو مثل الإنذار الذي لا بد له أن يسبق التنفيذ. ألم يمهلنا سبحانه فأنذرنا قبل أن يحيق بنا عذابه أجارنا الله من أليم عذابه. وبمثل ذلك فإن العدالة الإجتماعية والإقتصادية سابقة عن تنفيذ القانون تماما بمثل ما كانت الشريعة العقدية التي مخها الحرية سابقة عن المؤاخذة بسبب العقيدة أي من لدن الله سبحانه يوم القيامة. تلك هي فلسفة الإسلام في التعامل مع الإنسان : إنذار واضح جلي مبين وبسط للحرية بسطا صحيحا منداحا لا بسطا إنتقائيا ومن بعد ذلك ينفذ القانون الدنيوي في الدنيا ويؤجل تنفيذ القانون الأخروي إلى الآخرة. 
خذ إليك مسألة الخمار مثلا. الخمار ـ وليس الحجاب الخاص بنساء النبي عليه الصلاة والسلام ولا النقاب الذي هو لا بدعة ولا سنة  ولكنه مباح مقيد ـ لم يفرض سوى في سنوات متأخرة من الهجرة. لم كان ذلك كذلك. لأن الأمر مؤخر في الترتيب التشريعي وفق الفلسفة الإسلامية. تسبقه العقيدة وتسبقه العبادة ويسبقه الخلق وتسبقه الشريعة السياسية والإجتماعية فإذا تم الفراغ من كل ذلك أمكن للشارع الحد من تلك الحرية أي حرية الكشف عن بعض مواطن الجسد بالنسبة للمرأة. الحكمة التشريعية في ذلك هي أن كل مباح لا يقيد إلا جزئيا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن تقييده يكون متأخرا لأسباب لا نعالجها هنا لخروجها عن غرضنا. الشريعة حذرة جدا عندما يتعلق الأمر بتقييد المباحات أو بالحد من الحريات ولا يكون الحد من الحريات في الشريعة الإسلامية إلا لمراعاة حريات جماعية أخرى لإنشاء التوازن بين مستويي الحريات الفردية والجماعية أو لإنشاء التوازن بين الدنيا وبين الآخرة وهذا هو الملحظ الذي يهمله اليوم أكثر المتحدثين الذين لا يبرزون المعطى الأخروي في القضية ـ قضية الخمار مثلا ـ أي الذين يناقشون المسألة بمعطياتها الدنيوية فحسب فلا يتطرقون إلى ما يسميه الفقهاء : القضاء الدياني. 
خلاصتان في الموضوع 
الخلاصة الأولى 
أسبقيات الحرية على العقيدة والعدالة على الشريعة حكم يستقرؤها الناظر في فلسفة الشريعة الإسلامية وليست بدعا يبتدعها المفكرون اليوم. وهي أسبقيات جاءت بها النصوص والأدلة الجزئية والكلية بمثل ما جاءت بها التطبيقات النبوية والراشدية. هي أمور يعقلها الإنسان ولا تحتاج حتى إلى أدلة نقلية. هي أسبقيات لتنفيذ كرامة الإنسان ذلك المقصد الإسلامي العظيم المقدم. هي أسبقيات وليست إلغائيات كما يريد أن يفهم ذلك كثير من الشباب حديث التدين. هي أسبقيات تحقق وسطية الإسلام بين فريق يريد إلغاء الجانب التشريعي من الإسلام جملة بما فيه الجانب الجزائي العقابي الجنائي متجاهليـــن أن الأنظمة « الحداثية» التي يقلّدونها تقليد الببغاوات، لا تقوم سوى على تشريعات عقابية جزائية جنائية ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .. وبين فريق يريد تكديس الإسلام في سلة واحدة تكديسا فوضويا فلا يميز بين عقيدة وبين شريعة ولا بين حرية ولا بين مسؤولية. كلاهما مشط مغال وعلى جنف. 
الخلاصة الثانية 
تلك أسبقيات راسخة ثابتة حتى في الأوضاع العادية فإذا شابت حياتنا مراحل إستثنائية إنتقالية ألنّا إلى ما سمته الشريعة مرحلة الضرورات والحاجات والطارئات وهي مرحلة لها أحكامها الخاصة. لا بد لنا من فقه إنتقالي يكون مرحلة عبور بين العقيدة وبين الشريعة بمثل ما كان ذلك بالتمام والكمال حتى في العهد النبوي ذاته. لا بد لنا من مراعاة المرحلة الإنتقالية من بعد ثورات الربيع العربي من تونس حتى سوريا مراعاة تجعلنا نفقه مرحلتنا وطبيعتها فلا نحمل أنفسنا ما لا نطيق لأن ذلك يؤول بنا إلى رفض الإسلام جملة وتفصيلا كما قال الخليفة الراشد الخامس لإبنه المتعجل : «أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعونه جملة». الإنسان ليس قطعة من حديد أو من خشب يستلط عليها نجار أو حداد فيحيلها مائدة منضودة أو فأسا مدمرا. الإنسان كائن مكرم مستأمن مستخلف معلم مبتلى ومسؤول وهو كائن متعدد الأبعاد. الإنسان هو القيّوم على العقيدة بسبب ما كرم به من حرية وعقل. مبنى التشريع هو التدرج من طور إلى طور. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله حكومة إلا وسعها كذلك. العقيدة مسؤولية الإنسان وليس الدولة والشريعة كذلك مسؤولية المجتمع وليس الدولة. إلا الدولة البلشفية التي تؤز الناس بـ «البرافدا» أزّا.
ويتأسس عن ذلك كله أنه علينا أن نوطئ الأكناف لتنفيذ الشريعة السياسية في الإسلام وهي الحرية والكرامة والعدالة والوحدة والتنوع ومن بعد ذلك يمكن لنا ـ أي للمجتمع ـ أن ينفذ الشريعة الجنائية الجزائية العقابية عندما يحل محلها. أما المطالبة بذلك قبل ذلك فهو إما غرور للمزايدات الفارغة أو هو طيش وحمق وجهل. 
لذلك كله فإن الحرية أسبق من العقيدة والعدالة أسبق من الشريعة والإنسان أسبق من التعذيب والإنتقام فإذا كان ذلك بإسم الله كان الجرم مضاعفا ولن يكون جزاؤه يوم الدين إلا مضاعفا كذلك.
والله أعلم
الهوامش
(1) -  سورة الجاثية ( الآية 18 )
(2) - سورة المائدة ( الآية 48 )