نقاط على الحروف

بقلم
محمد بن جماعة
فهم القرآن وروح المصادرة

 نقل أحــــد الباحثين الأصدقــــاء عن د. أبي يعرب المرزوقي، على هامـش مؤتمــــر فكري عقد فـــــي 2002 بدمشق، أنه قال: «لا يستطيع أحد أن يفهم القرآن كالفيلسوف».. فالرؤية الفلسفية، من وجهة نظره، هي وحدها التي يمكن أن تزودنا بمنهجيــــة التأويل «الحقيقيـــة»، أما تــــراث «الشيوخ اللاهوتييــــن» فلا يمكنه ذلك، لأن هؤلاء في النهاية لاهوتيون يصعب عليهم في النهاية القدرة على الإمساك بالمعنى. وذكر الصديق أيضا رؤية محمد أركون والحداثيين من أضرابه التي تعتبر أن العلوم الاجتماعية واللسانية أداة أساسية، وإلى حد مّا وحيدة، تمكّن من فهم القرآن فهماً معاصراً.. وأنهم يعتبرون أن شرط هذا الفهم هو القطيعة التامة مع المعارف التراثية ونسقها الفكري، فالتراث ههنا هو تراكم من الماضي يجب التخلص منه عبر القطيعة معه أو حتى تفكيكيه، في هذا الإطار الإحاطة بالمعرفة التراثية وجهلها ليس أمراً مهماً في فهم القرآن ذاته، فالأدوات والمناهج التي توفرّها العلوم الاجتماعية كافية لهذا.

ومثلهم أيضا، قول الدكتور فاضل صالح السامرائي أحد أبرز النحويين العرب المعمّرين، والذي يرى في الدرس النحوي والمعجمي أدوات كافية لفهم القرآن، ولا بأس بشيء من علم البلاغة والمعاني التي تساعد في فهم «جماليات التعبير القرآني»، ولا حاجة لمزيد من الأدوات والمناهج (بما فيها علم الأصول) إلاّ على سبيل التزيد والمبالغة في استكشاف النكات البلاغية والوجوه المرجوحة، وهو منذ سنوات يقوم بتفسير القرآن من النحو والمعجم تحت مسمى إعراب القرآن، ويكاد يرى في علماء الدّين غير المتخصصين بالنحو والمعجم مجرد «شيوخ» لا يمكنهم أن يفقهوا من الدين إلا ما ينقلونه عن أسلافنا المفسرين العظام من أعلام اللغة والبيان كـ «ابن عطية» و«الزمخشري» و «أبي حيان الأندلسي»! ولا يهم كثيراً معرفة أصول الفقه، فأصول الفقه ـ من وجهة نظره ـ مجموع من قواعد اللغويين نفسها، فبضاعتهم إذا ترد إليهم!
وكذلك، يجد متّبعـــو منهج المحدثين أنفسهم أيضــــاً يفهمون القرآن أكثر من أي متخصصين آخرين، فمعرفتهم بأقوال النبي وسيرته الشريفــــة وأقوال الصحابة والتابعبيــــن يغنيهم عن الاستعانة بمناهــــج الرأي، فالرأي أساساً مـــــرذول، ومـــــن يميل منهم إلى قبول مـــــا يعرف يمنهج الرأي يرى أن ثمة فهم صحيــح للقـــــرآن هو ما عليه السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى، وينظر متّبعوا منهج المحدثين إلى التفسير بعين الريبة، فالفهم «الحقيقي للقــــرآن» لا يصلح إلا لعلماء الحديث والأثر القابضين على ما قاله السلف قبضاً محكماً.
ودارسو الفقه وأصوله عموما لا يرون في القرآن إلا آيات الأحكام، ويرون في باقي الآيات أنها تختص بالجدل العقدي والأخلاقي وهي عموماً مكمّلة للتشريع وداعمة له، وهي مهمة موكلة للباحثين عن الحجج الكلامية والراغبين في تهذيب النفس وترقيتها تعبّداً، وهي عموماً مهمّة المفسّر أيضاً.
ويرى الصديـــق أن من يملك القدرة على فهم القرآن، ليسوا علماء النحـــو، ولا اللغويين المعجمييــــن، ولا الفلاسفة، ولا حتى العلماء الاجتماعييـــن.. وإنمـــا وحدهم المتخصصـــون في الدراسات الشرعية، والذين يجمعون برصانـــــة بين المعرفــــة التراثيـــة (والأصولية منه على وجه أكثر تخصيصاً) والمعرفة الحديثة، قادرون على ذلك.. 
بالنسبة لي، هذا الجدل بين أهل التخصّصات المختلفة إنما يعكس روح (المصادرة) المترسخة في عقلية المسلمين، والمتجسدة في كثير من الميادين والمقولات: الدائرة الفقهية، الدائرة العقدية، دائرة التفسير، دائرة الانتماءات، مفهوم (الفرقة الناجية) و(الطائفة المنصورة)، إلخ.
كلٌّ يصادر الحق، ويعتبر نفسه الوحيد الذي يملك الأدوات والمفاتيح الموصلة إليه.
ولست أدري أيـــن هو موقع المسلـــــم البسيط فـــي هذه الحلبة: أهو مجرد تابع لهؤلاء أو هؤلاء؟ أم مناصر لفئة دون أخرى؟ أم متفرج مستمتع؟ أم غير مكترث؟
وماذا عن فهمه هو في زحمة الصراع على (حق الفهم) وامتلاك الأدوات؟
وماذا لو ثار على الجميع ورفض الاعتراف لهم بهذا الحق؟
من ناحية أخـــرى: لفائــــدة من يتصـــارع هؤلاء على (حـــــق الفهم)؟ أهو لفائدتهم في الدنيا؟ أم لفائدتهم في الآخرة؟ أم لفائدة المسلم العادي؟
حل المشكلة يتمثل في تقديري، في:
(1) التخلي عن عقلية (مصادرة) والإقرار بعدم جدوى الإصرار على هذا المنهج، وأنه حتى وإن أراد أحد الأطراف مصادرة (حق الفهم)، فلن يسلّم له مخالفوه بهذا الحق، وسيواصلون ممارسة الحق من جانبهم أيضا.
(2) الاعتراف بأن التعامل مع القرآن (والسنة أيضا) فهما وتحليلا واستنباطا، هو بمثابة السباحة أو الغوص في البحر المحيط، فلكل منطقة عمقها، ولكل منطقة محاراتها ودررها، ولكل عمق أدواته. ولا يمكن لأي غوّاص أن يظنّ أنه يمتلك جميع القدرات والأدوات التي تسمح له بالغوص في مناطق المحيط المتعددة، وفي أعماقه المختلفة. وحتى لو ظن في نفسه ذلك، فواقع ممارسته سيكذّبه حتما.
ومـــن توفرت لديه القدرات اللازمـــــة للغوص، فلن يعــــدم فقــــدان بعض المهــــارات الخاصــــة في التعامــــل مع بعض الجزئيات. ومن وصل إلى العمق المطلوب ووجد المحارات، فليس من الحتمي امتلاكه للقدرة على انتزاعها من مكانها وإخراجها للناس في أفضل الصور.
باختصــــار: الحل يتمثل في اعتراف كل تخصص بعجـــزه لمفرده، وعجــــز أدواته الخاصــــة عن القيام بكامـــــل المهمة، وحاجته للتخصصات الأخـــــرى وأدواتها، والبدء في التفكير بعقلية تعاونية.