مجرّد رأي

بقلم
د.لطفي زكري
الرياضة والفن والسياسة بين الاستثمار المتبادل والفجور

 حين تعود بي الذاكرة إلى الماضي ألاحظ أن الفترات التي انشغلت فيها بالرياضة أو الفن لا أذكر خلالها شيئا هاما عن السياسة. وفي المقابل، تبدو فترات الانشغال بالسياسة مفرغة من كل ذكريات رياضيّة أو فنيّة ذات بال. هذه الملاحظة تحملني على القول: لكأن المواطن منّا لا يستطيع أن يجمع في اهتماماته بين الرياضة والفن والسياسة في آن واحد أو أن صنّاع الرّأي قادرون على الفصل بينهما في وعينا وذلك بتضخيم الرّياضة أو الفنّ على حساب السّياسة متى شاؤوا ذلك أو العكس. مازلت أذكر كيف استطاع بن علي أن يضع حدّا للحراك السّياسي الذي عشناه في أواخر الثمانينات، بتوجيه أنظارنا إلى الرياضة وفتح أبواب الرّئاسة في قرطاج إلى رؤساء النوادي الرياضية ولا سيّما الأربعة الكبار منها. وكان له الحقّ في ذلك، لأن الأحزاب التي سمح لها بالنشاط السّياسي وقتها لا تستطيع مجتمعة أن تحشد ربع جمهور أحد النوادي الرياضيّة شمالا وجنوبا. وحتى يتفادى خطر شعور المواطنين بالفراغ، كان يفتتح مهرجانات الفنون عند اختتام الموسم الرياضي، كما كان يسرع بافتتاح الموسم الرياضي بمجرد اختتام المهرجانات. أما بعد 14 جانفي، فيبدو أن انشغالنا بالسياسة أنسانا مجددا الرياضات والفنون وأفرغ المدرجات من جمهورها الذي انخرط في المسيرات والاعتصامات والإضرابات، فلم يعد يجد متسعا من الوقت للاهتمام بالرّياضة والرّياضيين أو بالفنّ والفنّانين. إنّ عين المواطن ووعيه انشدّا إلى الألوان السياسية بالرّغم من الصداع الذي ينتاب الجميع حين يصغي لضجيج «الحوارات» أو بالأحرى المعارك السياسية في وسائل الإعلام أو في الفضاءات العمومية. لقد نسينا ألوان النوادي الرياضية ولم نعد نعرف أسماء لاعبيها ومسيريها ومدرّبيها، لأن مساحة الذاكرة الفردية والجماعية لم تعد تتّسع لغير الألوان والأسماء السّياسية، أو هي بالأحرى موصدة على ما دونها. إنّ ذاكرة لا تقدر على المزاوجة بين الرّياضة والسّياسة أو بين الدّين والدّنيا أو غيرها من المتقابلات، هي في رأيي ذاكرة آحاديّة ومريضة لا تقدر على حمل صاحبها على رؤية ثراء الواقع وخصوبته. 

إن الارتقاء بالوعي الفردي والجمعي إلى أفق الرهان الوطني والإنساني، يحتّم علينا تخطّي خطر التضحية بالسّياسة لحساب الرّياضة والفنّ وعقم التضحية بالرّياضة والفنّ لحساب السياسة، ذلك أن مجتمعا لا يحسن ضمان التنوع في اهتمامات أعضائه (السياسية والاقتصادية والرياضية والفنية والعقائدية والأخلاقية...) هو في النهاية مجتمع مهدّد بالانقسام والتّطاحن والانهيار.إن التضحية ببعض أبعاد المشهد اليومي أو توظيفها لخدمة بعد معين، تفقد المجتمع توازنه وانسجامه ووحدة أعضائه. إن وجود الملاعب والمساجد والمسارح والأسواق والمقاهي والخمّارات والمواخير والمدارس والمستشفيات والسجون وغيرها من المؤسسات التي يرتادها الناس بحسب حاجاتهم اليومية، يملي على السّياسي أن يرعاها دون تمييز حتى لا تختل الموازين باكتظاظ بعضها وفراغ البعض الآخر منها. إن المجتمع السوي فضاء تحافظ فيه كل المؤسسات على آداء الوظيفة التي جعلت لها. لذلك كان يوما واحدا تغلق فيه مصبات الفضلات كاف لتمتلئ شوارع المدن بالقذارات.
إن وجود أي من تلك المؤسسات خالية من روّادها وعاطلة عن آداء وظيفتها، هو في النهاية مؤشّر دالّ على خطر يتهدّد المجتمع برمته، ذلك أن الطاقات الفرديّة التي لا تُصْرَف في مجالها الطبيعي، ستبحث لها بالضرورة عن بدائل قد تشكّل خطرا على حياة الفرد والمجموعة. هكذا نرى العنف في مختلف تجلياته ودرجات حدّته بديلا قسريّا لتعطل بعض الوظائف المدنيّة داخل النسيج الاجتماعي. لقد كان الكثير من ظواهر العنف مسجونا داخل المدرّجات قبل 14 جانفي 2011 أما بعد هذا التاريخ فقد تحرر العنف ونزل إلى الشوارع والساحات العامة حيث لا نرى اختلافا بين أهازيج المقابلات والمهرجانات وأهازيج المسيرات والمظاهرات. 
ليس غريبا أن يطالب السياسي بحل مشكل يواجه النشاط الرياضي أو الفنّي فذلك جزء من اهتماماته، لكن هل يمكننا أن نلتمس لدى الرّياضي أو الفنان حلاّ لمشكل سياسيّ؟ في الواقع توجد بعض التّجارب الدّالة على هذا الإمكان، لكن فيها الناجح وفيها الفاشل. لقد نجح «برلسكوني» في إيطاليا في وضع حدّ لأزمة الحكم حين تقدم لرئاسة الحكومة الإيطالية فيما فشـــل «جورج ويا» في كسب ثقة اللّيبيريين في أول مشاركة سياسية له. بيد أن ما يستطيعه الرّياضي أو الفنّــــان في الحياة السياسية يتعدى حدود المشاركة في الانتخابات إلى توجيه اهتمام الرأي العام وصرفه عن الانشغالات السياسية إلى انشغالات رياضية أو فنيّة تخفف من حدة الضّغط الذي يُعيق الآداء السياسي ويربكه. إن للحدث الرّياضي أو الفنّي قابليّة عالية للاستثمار السّياسي والاقتصادي في مختلف النظم (سواء منها الاستبدادية أو الديمقراطية أوالرأسمالية أو الاشتراكية)، لذلك كانت العناية بالرّياضيين وتبجيل الفنّانين واحدة من العلامات التي يستدلّ بها على النجاح السّياسي والاقتصادي أو على إخفاقهما. بيد أن صورة التتويج التي تجمع السّياسي بالرّياضي لا تبدو سجينة هذه الوظيفة الاستدلالية حتى وإن حرصت الأجهزة الإيديولوجية على تسويقها في هذا الاتجاه أو ذاك. إن لهذه الصورة الكثير من الرّسائل التي تبعث بها إلى مختلف الأوساط الاجتماعية كل بحسب الموقع الذي يحتله من إدارة الشأن العام.
لقد كان تهميش الرياضة والفن في بعض البلاد المجاورة مكلفا كما كان رد الاعتبار للنشاط الرياضي والفني فيها مكلفا أيضا. ويبدو أيضا أن تهميش السياسة وردّ الاعتبار إليها، ليس أقلّ كلفة بل لعلّها مكلفة إلى حد تضيق عن فهمه بعض العقول. إن التضحية بالرّياضة والفنّ لحساب السّياسة ينتج ساسة متطفّلين على السياسة. كما أن التضحية بالسّياسة لحساب الرّياضة والفنّ ينتج رياضيين وفنّانين غرباء عن الرّياضة والفن. هكذا كان الأمر في كثير من البلاد التي لم تجد السبيل لتحقيق التوازن الضروري بين مختلف وجوه النشاط الفكري والمادي في الحياة الاجتماعية. وهكذا أيضا كان الوجه الآخر لهذه المعادلة في بلاد حوّلت الرياضة والفنّ إلى مجال استثماري نشيط يؤشر به السياسي لنجاح اختياراته. 
إن خطورة انعدام التوازن بين مختلف وجوه النشاط الفكري والمادي في الحياة الاجتماعية، ليست أشدّ من خطورة اختلاطها وانعدام التمايز بينها. ذلك أنه في هذه الحالة الثانية يسود الصّخب وتعمّ الفوضى إلى درجة يتلاشى معها الأمل في حلّ المشكلات. فالسّياسي وقد تخلىّ عن مسؤوليته في إيجاد الحلول، استحال إلى قائد يتقدم صفوف المحتجّين من الرّياضيين أو الفنّانين أو الجمهور الذي يسندهم. أما الرياضي الذي غادر ملعبه والفنان الذي غادر مسرحه، فقد استحال إلى صوت مشرّع للحلول السياسية. إن هذا الاختلاط والفجور بين الرّياضي والفنّي والسّياسي أخطر من كل أشكال الاستثمار المتبادل بين الرّياضة والفنّ والسّياسة. فقد نشعر بالضّيم أو الغبن أمام بعض صور الاستثمار المتبادل في الملاعب والمسارح والمؤسسات السياسية والإعلامية، لكن هذا الإحساس لا يقارن بالخوف والرّعب الذي قد يسببه الاختلاط والفجور بين الرّياضة والفن والسّياسة (حفل «النجوم» بالمسرح الصيفي سيدي منصور بصفاقس، مباراة ملعب الاسماعلية في مصر، أحداث مباراتي مصر والجزائر،...). لا ينبغي للاعتراض على الاستثمار المتبادل بين الرّياضة والفنّ والسّياسة أن يحملنا على القبول بالاختلاط والفجور بينها، بل ينبغي له أن يقوّي فينا الرغبة في الحفاظ على التكامل بينها. فعلى السّياسي أن يبقى مسؤولا عن إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات التي قد تواجه الرّياضي أو الفنّان وعلى الرّياضي والفنّان ، في المقابل، أن ينصرف إلى الإبداع الجمالي الذي ينتظره منه الجمهور. إنّ الحفاظ على هذا التمايز شرط ضروري يتيح للسّياسي أن يصلح ما قد يفسده الفنّ أو الرّياضة وهو عين التمايز الذي يتيح للرّياضي والفنّان أن يصلحا ما قد تفسده السّياسة.