قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
السلفية ظاهرة أم أصل؟

 احتج أحد زعماء التيار السلفي في تونس على وصف مختص في علم الاجتماع للسلفية بالظاهرة، قائلا «نحن أصل ولسنا ظاهرة» وبذلك يكون قد خرج بالحديث عن السلفية من سياقها الاجتماعي والسياسي وما يمكن أن يعتمل داخله من ثقافي ونفسي وغير ذلك ليحصرها فقط في السياق التاريخي ليس هذا فحسب بل أنه بادعاء الأصالة لهذا التيار وحده، يكون قد نفى عن التيارات الإسلامية الاْخري أي  علاقة بالسلف الصالح فكرا أو منهجا من جهة وجعل منتسبي هذا التيار وقادته وحدهم حماة الدين وحاملي لواءه والمجتهدين فيه من جهة أخرى، وهذا كله ينطوي على جملة من الآراء التي  لا يمكن لأي عقل علمي نقدي أن يأخذها على أنها مسلمات،.بل إن تهافتها سهل البيان.

إن المدرسة السلفية ليست وليدة اليوم، وإنما تضرب جذورها في القدم ومن ثم فإن لها سياقا تاريخيا منذ نشأتها إلي يوم الناس هذا وهو سياق ينبغي دراسته للبحث في ظروف النشأة وأسبابها ومسوغاتها. ونحن لا نستطيع أن نهمل السياق التاريخي لأي ظاهرة مهما كان نوعها. ولا شك أن الدارسين لم يهملوا هذا الجانب، غير أن الذي يهمّنا هنا هو إسقاط الهالة المعنوية والقدسية الدينية التي يحيط بها أصحاب هذا التيار أنفسهم ومريديهم وذلك بالتأكيد العلمي الدقيق على أن السياق التاريخي الإسلامي قد أفرز تيارات أخرى و مدارس فكرية واجتهادية وذلك بحسب حاجات الناس واشتراطات الأزمنة المتلاحقة وبفعل عوامل أخرى كثيرة منها ما يتصل بصراعات المسلمين الحضارية ومنها ما يتصل بعوامل التثاقف والتلاقح بين الحضارات والشعوب.ونحن اذ نصرّ على هذا، فليس إلا بدافع التأكيد على أن التنوع سمة رئيسية من سمات الخلق بشرا كان أوغير ذلك، كما أن الحرية عامل رئيسي من عوامل تطور وإبداع الشعوب. 
إن ادّعاء السلفيين التفرد بالأصالة ليس من باب المناكفة السياسية فقط وإلا ما كنا أعرناه كل هذا الاهتمام ولكننا نفعل ذلك موقنين أن لهذا الادعاء صلة وثيقة بفكرة الفرقة الناجية وصفاء العقيدة والولاء والبراء وأسبقية المفاهيم والآراء والاجتهادات التي ظهرت زمن الصحابة وتابعيهم في قرون الإسلام الأولى على كل ما جاء من بعدها من آراء ومفاهيم واجتهادات بل وحصر الحق والخير والحكمة في مدرسة إسلامية دون غيرها من المدارس. وليس بعد هذا شك في أن مبدأي الحرية والتنوع سيكونان قد ضربا في مقتل، فاسحين المجال كلّه للانغلاق والتشدّد والغلوّ والتنطّع من جانب والتعالي والإكراه والشدة وتحقير الرأي المخالف من جانب آخر و هذا لا يكون إلاّ مدخلا للتكفير والتمرّد ومحاولة إكراه عامة الناس وخاصتهم على إتباع ما تراه المدرسة السلفية من آراء بقوة السلطان إن تمكنت وبالخروج على الحاكمين بغير ما تراه في تأويل ما أنزله الله إن لم تتمكن. 
ليست الحرية في العقيدة الإسلامية مسألة ثانوية بل هي مسألة أساسية في اختيار أي إنسان لعقيدته أيّا كانت تلك العقيدة ولا إكراه في الدين وإن يك قد تبين الرشد من الغيّ .فالحرية، إذا في نظري، شرط لاكتمال العقيدة ولا نظن أن الإسلام ابتغي ذلك إلا لكي تكون مساهمة الفرد في جماعة المسلمين مساهمة حرّة كاملة وفاعلة حتّى لا يكون مجرد رقم أو فرد في قطيع ومن ثم فإنه لا مجال إذا للحديث عن جماعة واحدة أو فرقة واحدة تحوز كل حقيقة الدين وهي التي على حق وغيرها مجانب له أو قاصر عن إدراك حقيقة الدين ومقاصده.
إن النظر إلى الاجتماع السلفي الناشئ، الذي اشتد عوده وقويت شوكته بعد الثورة، على أنّه ظاهرة اجتماعية ليس إلاّ من باب فتح المجال أمام علم الاجتماع لدراسة الظاهرة السلفية دراسة علمية اعتمادا على كون الاستئناس بالعلوم الإنسانية في مثل هذا الأمر لا يتعارض البتة مع الطابع الديني لهذه الظاهرة وتأكيدا على أن الديني فيها لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الاجتماعي والسياسي.  فنحن هنا إزاء ظاهرة بالغة التعقيد يختلط فيها العقائدي بالأصولي والديني بالتاريخي والاجتماعي بالسياسي، كل ذلك في إطار وعاء جامع هو وعاء الجماعة البشرية المنظّمة بشكل هرمي فيه للشيخ والإمام والزعيم سلطة على الأتباع والمريدين والمنتسبين، وهو بناء محكم يتضاءل فيه الفردي أمام الجماعي فلا تكاد الجماعة تُرَى إلا ككتلة واحدة، فِعْلُها في الغالب الأعم فعل جماعي.
ليس هذا فحسب بل إن التأكيد على مبدأ الحرية في العقيدة سيقودنا حتما الي التسليم بحرية الانتماء إلى أي جماعة إسلامية أخري  لها قراءتها المختلفة للدين ولها نظرتها الخاصة في التعامل مع قضايا الدين في المجتمع. لن يكون بوسعنا حينئذ تكفير أي فرقة إسلامية  مهما كان وجه الاختلاف معها لأن التكفير مسألة بالغة الحساسية. أليس يجدر بنا التساؤل ونحن نعيش في سياق ما منحته لنا الثورة من حرية فكرية وسياسية عن جدوى التعصب ؟ ألا يجدر بنا أن نعلي من قيمة الحرية بدل النكوص عنها بدواعي واهية كثيرة ومنها ادعاء حماية العقيدة والحفاظ علي الدين؟ هل تقود الحرّية إلى التقارب والتفاعل والتسامح أم تقود إلى التباغض والتقاتل والتنافر ؟
فإذا كان علم الاجتماع يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية وكانت الظاهرة السلفية كذلك، فقد صار من الضروري وضعها تحت مجهره، مستأنسين بذوي الباع والحياد المتصفين بالموضوعية، واضعين على ذمتهم كل الامكانات حتى يدرسوا هذه الظاهرة دراسة علمية تهتم بكل الجوانب وتنير كل الزوايا المخفية، حتى نستطيع فهمها فهما حقيقيا في لحظتها الراهنة. كل هذا بدل النظر إليها من زاوية أمنية فقط وإعداد الخطط والبرامج والوسائل المادية لمقاربتها مقاربة أمنية بحتة سوف تفتح علينا من جديد بابا للسقوط في ممارسة القمع والاضطهاد وتنحرف بنا عن مساري الحرية والكرامة الذين جعلناهما شعارا لثورتنا.
إننا أمام لحظة فارقة في حياتنا ولا بد لنا أن نجعل قضايانا أمامنا نخوضها بعقلية البناء ضمن عقيدة واحدة لها رب واحد أتاح لنا حرية الاختيار والتفكير وأمرنا بالبحث عن سبل التعارف ومن ثم فان فتح المجال أمام العلم لمقاربة قضايانا من الزاوية المناسبـــة دون تعسف أو تعصب أمر في غاية الأهمية .ولجامعاتنــا التي تنام في العسل هي و باحثوها دور وأي دور.