في العمق

بقلم
د.مصدق الجليدي
الأمّة والقيـادة

يطرح الزوج المفهومي"الأمة والقيادة" سؤال العلاقة. وعنه تتفرع أسئلة عديدة تنبع كلّها من التفكير في مصلحة الأمة واستقلالها الثقافي والسياسي المرتبطين بتقدمها العلمي وقوتها الاقتصادية والعسكرية. والباعث المباشر على طرح هذه المسألة هو ما تواجهه الأمة الإسلامية اليوم من تحديات تفرض عليها حسن استغلال إمكانياتها الروحية والمادية التي تمكنها من القيام والانبعاث من جديد، بعد قرون التخلف والضعف التي عانت منها، والتي أدت إلى نتائج كارثية في مستوى حرية شعوبها وازدهارها سواء من جهة وقوع أجزاء عزيزة من أرضها تحت وطأة الاستيطان الصهيوني أو الاستعمار الغربي بقيادة  أمريكا أو من جهة وقوع الشعوب الإسلامية ذاتها في قبضة الاستبداد والاستعباد المذل للعباد والمفقر للبلاد.

من هنا يطرح سؤال القيادة الرشيدة والمخلصة لقضايا الأمة وطموحها في الحرية والتحرر والتقدم والرفاهية والازدهار. وبطريقة أخرى: ما هي خصال هذه القيادة وهل من أمل في وجودها وما المقصود بالقيادة: هل هي القيادة الروحية الدينيــــة أو العلميــــة؟ أم السياسيـــة؟ أم العسكرية؟ أم جميعها؟

 

يفترض هذا السؤال وضوحا في مفهوم الأمة في حد ذاته كما أنه سؤال يرتسم على خط زمني يُفترض أنه متواصل على نفس الوتيرة، بينما يحتاج المفهوم الأول إلى توضيح ويشهد الواقع التاريخي على تباينات في الأحقاب والعهود الإسلامية اشتملت على اختلافات كبيرة في مفهوم القيادة، الذي ظهر تاريخيا على درجة من التعدد والتجاذب وحتى الصراع بين مختلف الأطراف الممثلة له. ولقد تباين نوع هذا الصراع بحسب درجة قوة الطرفين المتنازعين على القيادة في كل مرة. ففي حال التفوق المطلق لأحدهما على الآخر نشهد حالات محنة كبرى كالتي عاشتها بعض القيادات الروحية للأمة (محنة ابن حنبل مثالا) وفي حالات توازي القوى نشهد اقتتالا طاحنا(الفتنة الكبرى) وأحيانا تمر الأمة بفترات هدنة متفق عليها (بين معاوية والإمام الحسن على سبيل المثال أو بين سلطة معنوية للخلافة من جهة وسلطة مادية لذوي الشوكة من أصحاب السلطانات من جهة ثانية) أو مفروضة (حالات التقية لدى قهر وتصفية رموز الحركات الشيعية أو اللجوء للعمل السري لحين وجود فرصة للانقلاب أو الاستسلام للأمر الواقع عند اليأس من التغيير).

 

كل هذا يواجهنا الآن ونحن نطرح قضية القيادة التي تحتاجها الأمة في الوقت الحاضر. فهذا الحاضر مثقل بمشاكل ومعاني ورموز ومخلفات الماضي التاريخي في شكل بنى ذهنيــــة ومخزون نفســــي أو في شكل بنى سياسية وتجاذبات مذهبية أو غيرها. ولذا ليس لنا من سلطان على حاضرنا إلا بقدر ما نمتلك بصفة واعية من ماضينا، لأن الماضي لا يمضي بحسب عبارة أحد الفلاسفة وهو مستمر في الحاضر وجزء هام من مفاعيله.

 

عندما نضع أمامنا الزوج المفهومي" الأمة والقيادة" يطرح علينا عمل على مستويات خمس، وهي:

(1) ما الأمـــــة؟ وكيف تشكلت تاريخيــا؟ وما هي الأطوار التي مرت بهــــا؟ وماذا تحتاج لتكون قوية حرة أبية كريمـــــة؟

(2) ما هي القيادة التي رضتها الأمة لنفسها وبنت تحت إمرتها حضارتها الشامخة؟ هل هي روحية أم سياسية أم عسكرية؟ وما هي العلاقات التي نسجت بين مختلف هذه الممكنات والتعينات القيادية للأمة؟

(3) ما هي أنماط العلاقة التي قامت على امتداد التاريخ الإسلامي بين الأمة وقياداتها أو كيف يرتسم المسار التاريخي لتشكل مفهوم القيادة وتطورها في الحضارة الإسلامية؟

(4) كيف يرتسم مشهد علاقة الأمة بالقيادة اليوم؟

أية قيادة تحتاج الأمة اليوم ولأية مهام وطنية وحضارية؟

 

أولا: الأمة وتشكلها الرمزي والمادي

 

1- الأمة في اللغة:

 

الأمّة لغةً تعني الدين والطريقة، فيُقال: فلان لا أمّة له أي لا دين له. كما تدل الأمّة عند العرب أيضًا على النعمة والعيش الحسن، والأمّة تعني كل جماعة بشرية، وكذلك كل جنس من الحيوان والطير، غير أن الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله يرى أن إطلاق لفظ الأمة خاص بالجماعة العظيمة من البشر حيث يقول في تفسير قوله تعالى:  ﴿ومَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام38). أمم جمع أمّة. والأمّة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتيــــة من نسب أو لغــــة أو عادة أو جنـــس أو نوع...وأحسب أن لفظ أمّــــة خاص بالجماعة العظيمة من البشر فلا يقال في اللغة أمّة الملائكة ولا أمّة السباع. فأما إطلاق الأمم على الدواب والطير في هذه الآية فهو مجاز أي مثل الأمم لأن كل نوع منها تجتمع أفراده في صفات متحدة بينها أمما واحدة وهو ما يجمعها وأحسب أنها خاصة بالبشر. وبناء عليه سنعتمد هنا هذا المعنى الأخير للأمة مع تدقيق القول فيه فلسفيا وتخصيصه لاحقا بالأمة الإسلامية دون سواها من الأمم، لأن شأنها هو الذي يعنينا في هذا المقام.

 

2- منزلة الأمّة من الاجتماع الإنساني

في الفكر الفلسفي الإسلامي القديم

 

ينزل الفيلسوف المسلم أبو نصر الفارابي الأمة منزلة وسطا من بين الاجتماعات الإنسانية الكاملة:"فالعظمى اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة. والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمّة...والأمّة جزء جملة أهل المعمورة فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينــال أولا بالمدينــــة لا بالاجتمــــــاع الــــذي هو أنقص منهــــا"(آراء أهل المدينة الفاضلة، ص. 62).

 

والمدينة في الفكر الفلسفي القديم يقصد بها ما يعرف عندنا اليــــــوم بالدولة الوطنية، فتصبح الأمة مكونة إمـــــــا من دولــــــة عظمـــــى (كما  هوالحال في الفترة الأولى من الخلافة الإسلامية) وإما من مجموعة دول تدين بنفس الدين وتجمع بين مواطنيها وحدة شعورية روحية غالبا ما تختلط بقضايا مشتركة كثيرا ما تهم مواجهة الأعداء الخارجيين (كما هو الحال عند ظهور السلطنات أو كما هو حالنا اليوم).

 

3- تشكل الأمة من منظور الفكر الاجتماعي الإسلامي الحديث

 

يشرح الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" كيفية تشكل الأمة الإسلامية على قاعدة روحية تتمثل في رابطة الدين الإسلامي، التي هي "رابطة مقدسة تصغر أمامها الروابط كلها" (ص. 108) وسمى الشيخ بن عاشور هذه الرابطة جامعة الأمة التي لا تخترقها جامعة أخرى: ﴿ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ (الشورى: 13).

 

هذه الجامعة لا تعادلها جامعة أخرى في نظر ابن عاشور لأن جوامع الأنساب والمواطن جوامع اصطلاحية قاصرة كما يرى، كما لا تحل محلها جامعة البشرية لأنها جامعة واسعة جدا لا يلتئم تحتها البشر لأن البشرية قد اختلفت بالعقائد والأعمال (نفسه). ولأن الإسلام نابت على أعراق الفطرة "كانت جامعته فطرية مقبولة في النفوس سهلة التسرب إلى القلوب النيرة لأن مبناها على الحق ووضوحه وبساطته وذلك المبدأ هو إثبات الإله وتوحيده وإثبات الرسالة عن الله إلى الخلق" (ص. 110).

 

هذا المظهر النفساني الروحي لتكون الأمة الإسلامية احتاج إلى مظهرين مشاهدين ليكون فاعلا في التاريخ: أما الأول فهو إيجاد المجتمع الإسلامي، وأما الثاني فهو رابطة الأخوة الإسلامية (ص. 115) وهو ما عملت القيادة النبوية على بنائهما معا بتوجيه من الوحي. وقيام المجتمع الإسلامي احتاج إلى تركيز نظم تؤطره وتفصل في نوازله. وهذه النظم كما شرحها ابن عاشور ترعوي إلى فنين أصليين: الفن الأول فن القوانين الضابطة لتصرفات الناس في معاملاتهم (كالعدالة والمساواة). والفن الثاني فن القوانين التي بها رعاية الأمة في مرابع الكمال والذود عنها أسباب الاختلال (كالمساواة والحرية والتسامح وحماية البيضة ونشر الدين وإدارة الاقتصاد) (ص. 122).

 

وبناء عليه لا مناص من إقامة الحكومة للأمة للإسلامية للتصرف في هذين الفنين مع أنهما ينطويان على جانب أخلاقي ونفسي يتبع قناعات الأفراد، ولكن "يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" كما قال الخليفة عثمان بن عفان. ولذا فقيام هذه الحكومة هو "أمر في مرتبة الضروري حيث أنه لا يستقيم حال الأمة بدون حكومة" (ص. 122). وهذه الحكومة لا يراها الشيخ ابن عاشور إلا حكومة ديمقراطية على حسب القواعد الدينية الإسلامية المنتزعة من أصول القرآن ومن بيان السنة النبوية ومما استنبطه فقهاء الإسلام في مختلف العصور"(ص.123) ومعلوم أن آخر ما انتهى إليه العقل الفقه الإسلامي هو الفهم المقاصدي للشريعة وهو ما خصص له ابن عاشور كتابه المشهور وما نص عليه في كتاب "أصول النظام الاجتماعي" بكل وضوح لدى قوله: "فقاعدة السياسة الإسلامية لأمتها أنها إجراء لمقاصد الشريعة بالرغبة والرهبة" (ص. 221). وقوله "بالرغبة" يحيل إلى الوظيفة التربوية والتثقيفية والتوعوية للدولة (المدرسة والإعلام والثقافة والمسجد) والطمع في نيل رضا الله تعالى، أما "الرهبة" فإنها تحيل إلى سلطة القانون والخشية من غضب الله عزّ وجلّ.

 

وهكذا فقد تدرجنا من الرابطة الروحية الإسلامية (جامعة الأمة) إلى الأخوة الإسلامية، فالمجتمع الإسلامي، فالنظم اللازمة له، فانضواء تلك النظم تحت إشراف الدولة الإسلامية، تلك الدولة التي لا يكتمل تحقيقها لمقاصد الشرع إلا بأن تقودها حكومة ديمقراطية ضمن الإطار العام لفلسفة التوحيد الإسلامي النابت من أعراق الفطرة. وهو ما يصلنا مباشرة بالعنصر الثاني الذي نروم معالجته وهو مفهوم القيادة.

 

ثانيا: القيادة وتشكلها الرمزي والتاريخي

 

سننظر من خلال هذا العنصر في مفهوم القيادة كما عولج في الأدبيات الفلسفية الإسلامية لتحديد بعده الرمزي ثم سنتناول بالدرس منزلة القيادة-الإمامة في أهم المدارس الكلامية الإسلامية: السنة والشيعة والخوارج لنتجاوز بذلك المعالجة النظرية البحتة لهذا المفهوم إلى مسألة اندماجه في الرهانات والصراعات التاريخية بين مختلف المذاهب الإسلامية الرئيسية.

 

1- البعدي الرمزي للقيادة في الفلسفة الإسلامية

 

سنفحص مفهوم القيادة (الرياسة) في مدونة الفلسفة الإسلامية من خلال ثلاث أعمال رئيسية: "كتاب السياسة" لابن سينا وكتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي وكتاب "تلخيص السياسة" لابن رشد.

 

أ- من هو الأجدر بالرئاسة؟

 

هنالك اتفاق بين هؤلاء الفلاسفة الثلاثة على أن الفيلسوف هو أجدر الناس بالرئاسة، وذلك لما يتمتع به من رجاحة عقلية. ومن الأدلة على ذلك هو أن الشيخ الرئيس ينبه في "إلهيات الشفاء" إلى أن معيار اختيار الخليفة هو عقله فقط. فصاحب العقل الأعظم هو الذي يستحق الرياسة. ولا أحد أعظم عقلا من الفيلسوف خاصة في عصور الفكر القديمة. وجاء في كتاب "تلخيص السياسة" لابن رشد أن "الحكام في هذه المدينة هم بلا شك الفلاسفة الذين توفرت فيهم إلى جانب الحكمة كل الفضائل الخلقية وغيرها من الفضائل" (ص105).  وحسب ابن رشد فإن "حد الفيلسوف هو بعينه حد الملك والشارع والإمام، كلها بمعنى واحد، ما دام الإمام في لغة العرب يعني الرجل المتبوع في أفعاله، والذي يؤتم به، ومن هذه صنعته هو بصورة تامة فيلسوف، وهو الإمام بصورة مطلقة"(ص. 140). والمقصود بالفيلسوف هو العالم لأنه لا يوجد من هو أعلم من الفيلسوف في العصور القديمة، زيادة على كون علمه لا يختص بأمور جزئية وإنما يشمل كليات الأمور في مختلف المجالات التي تحتاجها المدينة. ومن هنا نستنتج أن القيادة بحسب الفلسفة الإسلامية المتأثرة بأفكار أفلاطون في "الجمهورية" يجب أن تكون للعلماء أي للعقل الذي يجب أن يسود أصحاب القوة الغضبية (الحرس والجند) وذوي النفس الشهوانية (أرباب الأموال والصناعات) حيث أن تقسيم القوى المتحكمة في المدينة هي عينهـــا المتحكمة في الفرد (الناطقة والغضبية والشهوانية) بحسب ما تقرر لدى أفلاطون وابن سينا والفارابي وملخص أفلاطون وشارح أرسطو ابن رشد.

 ب- خصال رئيس المدينة الفاضلة

 

جـــــاء في فصـــل "القول في خصــــال رئيس المدينـة الفاضلـــة" من "آراء أهل المدينة الفاضلة"، أن الرئيس هو" الإمام وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلــــة وهو رئيس الأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها ولا يمكـــن أن تصيـــر هذه الحــــال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتــــا عشــــرة خصلة قد فطــــر عليهـــا" (ص. 69). وهذه الخصـــال الاثنتا عشر هي الصحة الجسدية وجودة الفهم والتصــــور وجودة الحفــــظ والذكاء وحسن العبارة ومحبــــة التعليم والتحكـــم في الشهوات والصدق والكرامـــــة والكـــــرم والعــــدل وقوة العزيمة. وهذه الخصــــال هي في الحقيقـــــة من خصال النبـــــــوة، ولكن يمكن أن تتوفر كلها أو بعضهـــــا بقـــدر في من يخلف النبــــي (خليفة رسول الله) وهو الرئيس الثاني- بقطع النظر عن ترتيبه في الخلافة- إن كان حكيما وحافظا للشرائع والسنــــن والسِّير التـــي دبرهـــا الأولــــون للمدينـــة كما يشترط فيه جــــودة الروية وقوة الاستنبــــاط وجودة الثبات بالبدن في مباشـــــرة أعمال الحــــرب (ص. 71). فإن لــــم يوجــــد إنســــان واحــــــد اجتمعت فيه هذه الشرائط ولكن اثنان أو أكثر أقاموا مجلس رئاسة. والمهم أن يكن بينهم على الأقل واحد حكيم وإلا فإن المدينة معرضة للهلاك (ص. 72).

 

ج- انحرافات القيادة

 

تنشأ الانحرافات لدى الحكام بحسب ابن رشد عندما يودون منافسة رعاياهم في ملك الخيرات والأموال والقصور والضيعات، وهذا ضار بهم وبرعاياهم حيث سيلجؤون في هذه الحالة إلى "قهر أهل مدينتهم باستخدامهم السيئ لقدراتهم وقوتهم" (ص106.) مما يجعلهم مبغضين من أهل مدينتهم "وإن أعلنوا حربا فلن يعلنوها إلا من أجل الحفاظ على ملكيتهم وليس لردع عدو خارجي. ولهذا ستكون العداوة والبغضاء والكره والخديعة هي ما يتبادل بينهم وبين أهل مدينتهم، كما يحدث مع أهل المدن الأخرى، وهو سبب عدائهم وقتالهم لأهل مدينتهم"(ص121).

 

ويحــــذر ابن رشـــــــد مــــــن خلال تلخيصـــه لآراء أفلاطــــــــون  في السياســـة، من ذلك الصنف من الحكام الذين يسطون على الحكم ويصــــدرون كتبا أو خطبا يتظاهرون فيها بالحكمة وهم أبعد الناس عنها، فيقول عن هذا الصنف من الحكام: "ومن الواضح أن هؤلاء الذين اهتموا بالتفلسف [التظاهر بالمعرفــــة والقدرة على التنظير] دون أن يسعوا إلى بلوغ الكمال الأقصى فهم ليســـــوا بذي فائدة لهذه المدن فحسب، بل وسيكونون وبالا عليهــــا وعلـــــى كل خلق فلسفي حق. لأنهم على العموم يميلون إلى اللذات بكل شــــره، وكذلك نحــــو الشرور جميعا مثل القتل والتعذيب، ولا يملكـــون أية فضيلــة خاصــــة بهم تردعهـــــم عن ارتكاب مثل هذه الأفعال. ولا هم أيضا بمقنعين جمهورهم بحكايــــات كاذبــــة تبـــرر ارتكابهـــــم مثــــل هذه الشناعات. وهم إنما سيلحقون بذلك العار والأذى بالفلسفة وبكل فيلسوف حــــــق يستحــــق ذلك اللقب، وهــــــم موجودون في زماننا(ص. 146).

 2- الإمامة القائدة ومكانتها في مدارس الفكر الإسلامي القديم

 

لقد اعتبر الفقهاء المتأخرين من أهل السنة والجماعة الإمامة من فروع الدين، واعتبـــــروا الصيرورة إليها اجتهـــادا وليـــــس أمرا تعبديا. بينما اعتبـــرت الشيعــــة الإماميــــة والإسماعيلية الإمامة أصـــلا مـــــن أصــــول الديـــــــــن.(1) يوضــــح رضـــوان السيـــد هذه المسألة بقوله:"إن ما اختلف فيه فقهاء السنة والشيعة هو موقع الزعامة السياسية من مشروع الأمة (الملة، النحلة) العام. فقد رأت الشيعة أواخر القرن الأول الهجري أن  الإمامة من مقتضيات الدين أو ضروراته بمعنى أنه لا قيام للدين بدونها، أي أن الدين يقتضي السلطة القائدة، لأن الإمام عندهم قائم على الشرع، ولا تقوم الشريعة في العالم بدونه. بينما ظل الإمام عند أهل السنة- في أحسن الحالات- حارسا للشرع، وليس من مقتضياته. وكلا التصورين لا يقتضيان الدولة، أي المجتمع السياسي في الأساس لأن الإمام الشيعي منصوب من الله ورسوله كجزء من الدين وضرورته اللاحقة عند أهل السنة طبيعية مصلحية لحراسة الشرع من جهة (مع أنهم نظروا طويلا في القرنين الثاني والثالث لأنفسهم باعتبارهم حراس الشريعة ودعاتها!)، وسياسة الدنيا، أي "منع الناس من التغالب" من جهة ثانية"(ص. 16).

هذا عن السنة والشيعة، أما جماعات المحكمة الأولى (الخوارج) فقد رفضوا في العام    39ﮪ أو 40ﮪ ضرورة الإمام السياسي للمشروع الإسلامي، من خلال شعارهم: "لا حكم إلا لله"! ذلك أن هذا المشروع في اعتقادهم مشروع إلهي، وبالتالي يمكن للأمة بمجموعها أن تقوم عليه في ظل أحكام الله. ولكنهم اضطروا هم أنفسهم لاختيار زعيم لهم في صراعهم مع الإمام علي هو عبد الله بن وهب الراسبي، لكنهم سموه فيما بعد في نظريتهم للسلطة: إمام القتال! بمعنى أن سلطته التنظيمية تنتهي بنهاية المعارك أو الجهاد. "ومع ذلك فإن المصادر تذكر أن الإمام عليا عندما رد عليهم رد بما يفيد أنه يرى ضرورة الدولة، لا للدين أو إنفاذ حكم الله في الأرض، بل رعاية الشؤون الحياتيــة للنــــاس، فقد قال: الحكـــم لله وفــي الأرض حكـــام. لا بد للنـــاس من أمير بر أو فاجر، يضم الشعث، ويجمع الأمر ويقسم الفيء، ويجاهـــد العــــدو، ويأخـــذ للقــــوي من الضعيف، حتى يريح بَرٌّ ويُستراح من فاجر".(2)

 

3- المسار التاريخي لتشكل مفهوم القيادة

 وتطورها في الحضارة الإسلامية

 

سنحاول في هذا العنصر الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف تم التحول من نمط الخلافة إلى نمط السلطنة والملك في الحكم الإسلامي؟ ما هي القيادة الواجب طاعتها في نظر العلماء المسلمين؟ ما هي مهام القيادة سياسية كانت أو علمية كما تكرّست في التاريخ الإسلامي؟ ما هي ملامح الصراع بين سلطة الحكام السياسية وسلطة الفقهاء الرمزية؟

 

أ- الخلافة والملك:

 

يرسم لنا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بطريقة دقيقة المسار الذي سلكته ظاهرة القيادة من الخلافة الراشدة "حين كانت الأمة والدولة موحدتين في كيان صلب واحد"(3)  إلى الملك المحافظ على معاني الخلافة وصولا إلى الملك البحت (السلطنة) المكتفي بالتبرك بالخلافة أو باسترضائها استرضاء لعامة المسلمين. وهذا قوله في ذلك نورده كما هو لأهميته ولكونه جمع في أسطر معدودات تاريخ قرون عديــدة

 

لتطور ظاهرة الحكم في الحضارة الإسلامية: "فقد رأيت كيف صار  الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق. ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب عصبية وسيفا. وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك، والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكا بحتا، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ.

وهذا (كما) كان الأمر (لخلف بني) عبد الملك، ولمن جاء بعد (المعتصم والمتوكل) من بني العباس، واسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض، ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركا. والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم، وليس للخليفة منه شيء. وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين، ومغراوة وبني يفرن أيضا مع خلفاء بني أمية بالأندلس، والعبيديين بالقيروان، فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا، ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار" (المقدمة، ص. 262-263).

 

ب- من هي القيادة الواجب طاعتها؟

 

ثمة شبه إجماع في علماء الصدر الأول أن من تجب طاعته على الأمة بعد الله والرسول هم الأمراء أي الخلفاء. وأوّل من اتخذ لقب الأمير هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي لقب نفسه بأمير المؤمنين. وهناك من قال إن التسمية الأولى أو اللقب الأول لزعيم المسلمين كانت: خليفة رسول الله. وقد أطبق المتأخرون من الفقهاء والمؤرخين أن معناها: الذي خلفه أو تولى الأمر (السياسي) بعده. "لكن هناك نصوصا مبكرة على قطع نقدية، وفي المصادر التاريخية يرد فيها لقب: خليفة الله. فيبدو أن التصور الكامن في الحالتين ليس المعنى المتبادر، أي المجيء عقبه، بل أنه القائم على المشروع الإلهــــي الذي أوكله الله ورسوله إلى المسلمين في الأرض".(4)

 

وجاء في تفسير الطبري في تفسير الآية "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" أن أولي الأمر الواجبي الطاعة بنص القـــرآن، هم عنــد مجاهد بن جبــــــر (104ﮪ)، وعطاء بــــــن السائــــب (136ﮪ) ليس الأمراء بل: أهل الفقه والدين. والأمــر من معانيه في القرآن: السلطة والقوة والقدرة والتمكن.

 

وجاء في كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (463 ﮪ) أن السلف فسروا قوله تعالى "ولو ردوه إلى أولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم" وقوله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" بأنهم العلماء". (5) وينبه رضوان السيد الذي درس هذا الموضوع بشكل مفصل على عدم وجود إجماع بين العلماء في القرن الثاني وما بعده على أن المقصود بأولي الأمر هم حصرا العلماء. فقد كان هناك من استمر على القول إنهم الأمراء. وبعد تراجع التوتر بين السلطة والعلماء أواسط القرن الثالث الهجري، ساد التفسير التصالحي القائل إن أولي الأمر فئتان: العلماء والأمراء!(6)

 

ولذا سننظر في العنصر الفرعي الموالي في وظائف ومهام أولي الأمر بنوعيهم: الذين لهم السلطة السياسية والذين لهم السلطة المعنوية أو الروحية.

 

ج- مهام القيادة السياسية

 

لا تعرف المصادر كلمة أقدم من تلك المنسوبة للإمام علي في المهمات الاجتماعية للسلطة السياسية، وقد قالها الإمام في معرض إثباته لضرورة السلطة: "لا بد للناس من أمير بِرٍّ أو فاجر: يضم الشعث ويجمع الأمر [يمنع الفتنة الداخلية]، ويقسم الفيء [يشرف على توزيع الناتج الاجتماعي]، ويجاهد العدو [الدفاع عن الأرض والناس في وجه الأعداء الخارجين]، ويأخذ للقوي من الضعيف [العدالة القضائية]". فنحن إذن بحسب هذا النص أمام أربع وظائف أساسية للقيادة: ضمان اللحمة الاجتماعية والتماسك داخل المجتمع الأهلي، وتصريف شؤون الدولة الاقتصادية بما يضمن معاش الناس  بحسب المتعارف عليه، وحماية البيضة: الدفاع عن الأرض وحماية أعراض المسلمين وممتلكاتهم من العدو الخارجي، وإقامة العدالة القضائية. وهذه الوظائف تتوزع على أربع مجالات: المجال المدني أو المجتمع الأهلي- المجال الاقتصادي- السياسة الخارجية والدفاع- المجال القانوني والقضائي.

 

د- وظائف القيادة الفقهية أو سلطة المثقف

في الحضارة الإسلامية

 

نذكر بداية بأن هنالك معنيان للفقيه:

الفقيه بمعنى المختص في الشرع فيتقلد القضاء والشهادة والوعظ والإفتاء الخاص بالأفراد.

 والفقيه بمعنى المتفقه في الدين عامة والنوع الثاني هو الذي يتمتع بسلطة معنوية أكبر على جمهور الناس وله وظيفة الإفتاء العام "الذي هو ضرب من قيادة الرأي العام. وفي هذه الحالة الثانية يكون الفقيه خصيم نفسه في وظيفته بصورة تتعدى حياته الخاصة فيبحث عن إفتائها في مستوى التمييز بين الحق والباطل وعنده يفتي نفسه ويعلن فتواه يصبح قائدا للرأي العام بمقتضى وظيفة جديدة هي وظيفة العلماء العامة أو ما يناسب بلغتنا الحديثة وظيفة المثقف وفيها يكون التنافس مع المتكلم والمتصوف قديما ووسيطا ومع الفيلسوف والمبدع حديثا".(7)