في العمق

بقلم
الهادي بريك
الحرية أسبق من العقيدة والعدالة أسبق من الشريعة (2)

 فما هي الأدلّة على أسبقيّة الحرّية على العقيدة؟ 

(1) نفي الإكراه
ذلك النفي الذي ثبته الكتاب العزيز الهادي مرّات لينقله من درجة النّهي إلى درجة النّفي وذلك بسبب أن النّهي تشغب عليه شاغبات الهوى بما ركب فيها من غرائز هاجعة جائعة فترديه اليوم أو غدا. أما النّفي فهي إعدام ذلك الوجود بالكلية حتى لا يتسلل إلى الناس. وصل حدّ نفي الإكراه إلى نفيه عن الدين : «لا إكراه في الدين»(1) ومعلوم أن مناسبة نزولها هو ما قام به بعض الصحابة الكرام ـ عليهم الرضوان جميعا ـ من محاولة إسترداد أبنائهم الذين تنصّروا إلى الإسلام. ربما كانوا قد حاولوا ذلك مرّات ومرّات بالمنهاج الإسلامي الدعوي وقوامه الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ولزوم البصيرة والحجّة والبرهان والصبر. فلما أخفقوا همّوا بإستخدام الإكراه فنزلت الآية نافية الإكراه في الدين حتى لو كان ذلك الإكراه كفيلا بالإخراج من الظلمات إلى النور وبالإنقاذ من النّار إلى الجنّة. بل حتى لو كان ذلك الإكراه من لدن والد حيال ولده لطفا به ورحمة وحبا وودا. حتى عندما يكون الإكراه محفوفا بذينك المستويين فلا يلقى في الإسلام غير النفي المطلق. النفي وليس مجرد النهي. كما نعثر على نص آخر يعاتب محمدا صلى الله عليه وسلم بسؤال إستنكاري :«أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».(2) كان فؤاده يتقطع في اليوم ألف مرة ومرة بسبب الإعراض من لدن الناس. «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا»(3). و في موضع آخر: « فلا تذهب نفسك عليهم حسرات»(4) ورغم ذلك كله فإن النفي يظلّ هو هو. راسخا ثابتا لا يلفى له أي مبرر حتى لو كان من لدن محمد نفسه صلى الله عليه وسلم وهو: «بالمؤمنين رؤوف رحيم».(5) بل هو: «رحمة للعالمين».(6). هو رحمة للعالمين ولكن الرحمة لا تلتقي مع الإكراه البتة. الأصل أن الإكراه الذي ينفى حتى في المعتقد من باب أولى وأحرى أن ينفى فيما دون ذلك أي في حقل العمل. لم يقتصر الإسلام على ذلك الأصل بل نفى الإكراه حتى في العمل فقال :«ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا»(7) كما لم يرخص حتى للآباء في إنكاح بناتهن إكراها وبمثل ذلك أنشأ العلاقة السياسية بين الدولة وبين الناس على تعاقد سياسي قوامه الرضى مما كان يسمى قديما بيعة. كلمة البيعة نفسها تشي بأن العقد السياسي مقيس على عقد البيع الذي يبطل به تخلف شرط الرضى في البيع.
(2) بناء العقد الإيماني بين الله وبين الإنسان على الحرية
حتى في العقد الإيماني بين الإنسان وبين ربه الحق سبحانه لا بد من توفر شرط الرضى والحرية والإرادة وإلا بطل العقد. وما الدليل. الدليل باهر متألق صحيح صريح في مكة ـ أي والناس مازالوا في حالات إستثنائية جدا من المطاردات والمحاصرات والنفي والقتل والتشريد والتجويع ـ وفي سورة الكهف المكية بالتحديد وذلك عند قوله سبحانه :«وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».(8) ألم يكن يومها مناسبا أن يكره الناس على الإيمان من لدن ربّهم وليس من لدن غيره بسبب تلك الظروف القاسية التي يلاقيها المستضعفون المؤمنون في مكة. ما ضرّهم لو أكرهوا مؤقتا فإذا أمنوا نظروا في أمرهم فإن شاؤوا أمضوا العقد الإيماني بينهم وبين خالقهم وإن شاؤوا ألغوه. بمثل ذلك يفكّر المتعجّلون والمتهافتون والذين لا يدركون طبيعة هذا الدين. دعني أعبّر بلساني أنا وبقلمي أنا دون خوف ولا وجس من أحد من البشر. دعني أسمّي الأمور بمسمياتها الحقيقية. دعني أقول لك أن هذا التعبير :«فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».. ذلك التعبير لا يسميه لساني ولا يصفه قلمي سوى بأن الإسلام منح الإنسان حرية الإيمان بمثل ما منحه حرية الكفر. لا أخجل من ذلك البتة. لا أجد حرجا في قولي : الإسلام منح الإنسان حرية الكفر. أجل. حرية الكفر. أعرف جيدا أن العربي الذي يقرأ ذلك النص قراءة لا تفي سوى للغة العربية ذاتها لا يخرج عن تلك الخلاصة ولكني أعرف جيدا في مقابل ذلك أن جزء كبيرا من التراث أهال على تفكيرنا ترابا كثيفا يجعلنا لا نصرح بمثل ذلك حتى لو كانت اللغة العربية لا تحتمل سواه. وفاء للعادات والتقاليد والأعراف التي كمّمت أفواهنا أن تصرح بأن الإسلام منحنا حرية الإيمان وحرية الكفر سواء بسواء. الذي يمنع الناس من ذلك هو تأثمهم من هذه الكلمة النابية : حرية الكفر. لم؟ لأن حرية الكفر كلمة يستخدمها أعداء الإسلام اليوم. ولقد وقر فينا ـ ظلما وقهرا ورقا ـ أن الكلمة التي يستخدمها عدو الإسلام لا يستحب لنا إستخدامها. لم نكتف بسجنهم هم بل ساعدناهم على سجن أنفسنا في سجن آخر أشد ضيقا. الذي يمنعنا من ذلك هي خلاصة عندي مكينة وقوامها أن المسلمين اليوم ـ أقول كثيرا منهم ولا أقول لا أكثرهم ولا بعضهم فحسب ـ لا يؤمنون بقيمة الحرية في الإسلام إلا وهم بها كافرون. إيماننا بقيمة الحرية في الإسلام اليوم ـ ولأسباب تاريخية معروفة ـ هو إيمان منخول يخترمه الحرج من كل جانب. مثله مثل إيمان الموشك على الردة. ردة عن الحرية وليست ردة عن الإسلام. ذلك هو مبلغ تفكيري : الإسلام يمنحنا حق الإيمان بمثل ما يمنحنا حق الكفر. سوى أنه يحملنا المسؤولية كاملة يوم القيامة لمن يكفر به سبحانه من بعد ما تبيّن له الرشد من الغي أو لمن وصلته الدعوة صافية صحيحة وكان يمتلك الحرية والإرادة لإعلان إيمانه ـ أو حتى ليسرّه ـ فما فعل. لا تكتمل الصورة إلا بالأمرين معا : حرية الكفر مكفولة بالتمام والكمال ولكنها حرية مقيدة بتحمل المسؤولية كاملة كذلك يوم القيامة. يظن الناس أن قولك : الإسلام يمنح الإنسان حرية الكفر .. يصد الناس عن دين الله. الذي أجده فكرا وعملا هو مخالف لذلك بالتمام والكمال. 
(3)  تعريض الإيمان للمقارنة
 معلوم لكل دارس للكتاب العزيز الهادي أنه يعرض علينا الإيمان مقارنا بالكفر وبأضداده بصفة عامة. كأنه يعرض علينا الرأي والرأي الآخر. بل هو يفعل ذلك بالتمام والكمال. مواضع ذلك في الكتاب العزيز الهادي لا تكاد تحصى لكثرتها. دعنا نأخذ منها مثالا واحدا. قال سبحانه :«ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه»(9). قوله ( لا برهان له به ) هو جملة إعتراضية. ولكن ما معنى دخول هذه الجملة الإعتراضية هنا. ماذا عليه لو قال لنا : «ومن يدع مع الله إلاها آخر فإنما حسابه عند ربه». هل يتغير المعنى. طبعا لا. هل جاءت هذه الجملة الإعتراضية متسللة دون موجب. طبعا لا. المعنى من ذلك هو واحد لا ثاني له. المعنى من ذلك هو : أنا قدمت إليكم نفسي في هذا الكتاب وذلك من خلال أسمائي وصفاتي وأفعالي وقدراتي وعظمتي ومن خلال دعوتكم إلى التفكر من حولكم في الكون والتاريخ والنفس وغير ذلك. قدمت إليكم نفسي ثم دعوتكم إلى الإيمان بي وشرحت لكم حكم الإيمان ومقاصده ومحامده وغير ذلك. قدمت لكم ذلك ببراهين وحجج لا تدحض. ولكن لأني أريد منكم أن تكونوا مؤمنين حقيقيين لا مقلدين ولا مكرهين ـ حتى من لدني أنا ـ فإني أدعوكم إلى بناء إيمانكم بي على أسس صلبة متينة أديمها البرهان الساطع وسقفها الحجة البالغة. ولكن إذا تسنى لأي واحد منكم أن يلفى إلها غيري وله عليه برهان لا يدحض فلا مانع عندي. هل يريد سبحانه أن يفتننا من بعد ما هدانا إليه. طبعا لا. ولكنه يريد بناء إيماننا على البرهان الذي هو نقيض التقليد والوقوع في براثن الرق والعبودية والضعف العقلي والسخف الذهني. يريد منا ذلك وإمعانا منه في ذلك ـ إمعانا لا حدود له والله ـ فإنه يقول لنا :«لا برهان له به». كأنما هناك إحتمال لأن يلفى الواحد منا إلها آخر له عليه برهان. هل أن ذلك متاح. طبعا لا. لم؟ لأن البشرية بحثت كثيرا ونقبت طويلا وجربت بأكثر من ذلك وأطول منه فما جنت غير الشوك. ولكن رغم تلك التجربة فإنه سبحانه لا يريد منا سوى أن يؤسس الإيمان فينا على البرهان الساطع اللامع غير المدحوض ولذلك يذهب بنا بعيدا. يذهب بنا بعيدا حيث لا يريد المتفيهقون منا. حيث لا يروق ذلك للذين ينصبون أنفسهم حراسا للعقيدة. غفل هؤلاء عن حقيقة قوامها أن العقيدة لا يحرسها سوى حارس واحد أوحد إسمه : البرهان. 
(4) تعريض الإيمان للمساءلة
 ذلك واضح جلي في قصتي إبراهيم وموسى عليهما السلام. كلاهما من أولي العزم من الرسل. لم يتردد إبراهيم عليه السلام في إلقاء السؤال على ربه :«رب أرني كيف تحيي الموتى»(10) بمثل ما لم يتردد أحد أحفاده أي موسى عليه السلام من بعده في إلقاء سؤال أقوى من ذلك بكثير. «رب أرني أنظر إليك»(11). ومن قبل ذلك أطلعنا سبحانه على قصة الإيمان مع خليله إبراهيم. أنى لرجل مثل هذا يلقي الأسئلة غير المعهودة أن يكون للرحمان خليلا. أتنال الخلة ـ خلة الرحمان وما أدراك ما خلة الرحمان ـ بإلقاء الأسئلة التي نعدها نحن اليوم وقحة وينقصها الأدب في حقه سبحانه. لم الكبر والكذب. ألسنا نعدّ مثل تلك الأسئلة وقاحة لا تصدر عن إنسان بله نبي أو رسول أو من أولي العزم من الرسل. بماذا يجيب المشايخ اليوم والعلماء والفقهاء عندما يسألون عن الله سؤالا أدنى من سؤالي إبراهيم وموسى بألف مرة ومرة. أليسوا يقولون : أستغفر الله العظيم. يرددونها ثلاثا وبصوت عال حتى يسمعها الناس من حولهم فينتبهون إلى هذا الزنديق المارق الذي تمرّد على الإسلام وطرح سؤالا لا يسأله إلا الهراطقة. ليس بوسعي أن ألتزم الهدهدة عندما يتعلق الأمر بالعقيدة التي تسطّر لنا خارطة طريق الحياة. ليس بوسعي أن ألتزم ذلك وأمامي نموذجان : نموذج الكتاب العزيز الهادي الذي ينقل إلينا الأسئلة الإبراهيمية والموسوية في سياق التحريض على الإيمان بما يفيد أن تلك الأسئلة كانت مفتاح الإيمان وتجديد الإيمان وترسيخ الإيمان وتفعيل الإيمان في الحياة. ونموذج الناس الذين لا يرحبون بمثل تلك الأسئلة. لا بل بما هو أدنى من ذلك ألف مرة ومرة. ومن يسعه الصمت عن ذلك. لا يسع الصمت عن ذلك غير من لا يبالي. أما أنا فإني أبالي. تعريض الإيمان للمساءلات مهما كانت عميقة وكبيرة وخطيرة لا تزيده إلا تجددا وترسخا وأهلية لخوض معركة الحياة حتى ينتصر فيها. الإيمان عندي مثله مثل بطل رياضي لا يشق له غبار. فإن أنت مكنته من المنافسة فاز وإن أنت أخرته خوفا عليه فلن يفوز بطبيعة الحال. الإيمان عندي رساميل روحية وفكرية ونفسية وعقلية ضخمة جدا فإن أنت إستثمرتها في الأسواق مضاربة ربحت أموالا طائلة وأربحت معك غيرك ثم تضاعفت تلك الرساميل بمرابيحها الوفيرة وإن أنت أخرتها خوفا من الخسارة فلن يزيدك تأخيرها إلا فقرا على فقر ووهنا على وهن. 
(5) إزالة حواجز الخوف لتأمين الحرية
ظهر ذلك جليا في حادثة الحديبية وذلك عندما قبل محمد صلى الله عليه وسلم بتوقيع معاهدة سياسية بينه وبين قريــــش تنازل فيها عن ( بسم الله الرحمان الرحيم ) لكتابة ( بإسمك اللهــم ) وتنازل فيها عن (محمد رسول الله ) لكتابة ( محمد إبن عبد الله ). حتى ثارت ثائرة الصحابة الكرام ـ بل ثارت ثائرة أحد قوادهم المشهود له بالحصافة والإربة أي الفاروق عمر ـ وقالوا : أنعطى الدنيّة في ديننا. وذلك بسبب شروط « مجحفة» في المعاهدة تقضي بأن من يرتدّ عن دين محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيأتي إلى قريش طائعا فليس للإسلام أن يسترده وليس لقريش إلا أن تحتضنه وفي مقابل ذلك فإن من يأتي محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ مسلما من قريش عليه أن يرده إليهم مكرها ولقريش أن تعيد إحتضانه. إعادة إحتضانه معناها : تأديبه بما يلزم حتى يرتد من بعد إيمان وهجرة. عجب عجاب. أنّى له أن يوقع مثل هذه المعاهدة الظالمة الجائرة. الناظرون فيها بعجلة وطيش وحدة لا يجنون شيئا فيسرعون إلى الإتهام والتجييش. أما الذين يحسنون قراءة التوازنات الدولية فإنهم يدركون أن الزمن هو زمن الصحوة الإسلامية وأن أعداء تلك الصحوة في إندحار وأن أرصدتهم في هبوط ولذا فإن خير سبيل لتأمين الإسلام والمسلمين هو إشاعة مناخات الحرية دون حدود بمثل ما فعل عليه الصلاة والسلام في هذه المعاهدة. وذلك الذي حصل بالتمام والكمال إذ كان أجل المعاهدة عقدا كاملا فما عمّرت سوى عاما واحدا حتى تسارعت الموازين الدولية تدك أركان الخوف الذي كانت بالأمس تبثه قريش ولم يكن يحجز الناس عن الإسلام سوى حواجز الخوف تلك فما إن إنداحت بسبب المعاهدة حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وأمكن فتح مكة. كانوا في السنوات الثلاث الأولى في مكة أربعين فلما هاجروا كانوا بضع عشرات أخرى. ولما جاءت الحديبية من بعد ذلك بعقدين كاملين كانوا ألفا وخمسمائة نفر. ولما مات ـ عليه الصلاة والسلام ـ من بعد ذلك بزهاء عامين فحسب كانوا 124 ألفا. ألا تنظر معي إلى الفارق العددي الكبير. من زهاء ألفين حتى 124 ألفا في غضون عامين فحسب. هل تقدم إليهم إسلام جديد لم يكونوا يعرفونه. هل جاءهم به رجل جديد لم يكونوا يعرفونه. لا هذا ولا ذاك. ولكن جاءتهم الحرية التي أولاها عليه الصلاة والسلام المقدمة العظمى في عمله فأعلنوا إسلامهم وربما كان كثير منهم من قبل ذلك مسلما لا يجرؤ على إعلان إسلامه خوفا من البطش القرشي. كل ذلك مدين لقيمة واحدة إسمها الحرية. فما بالنا نكفر اليوم بالحرية وهي حمّالة الإسلام. ذلك سؤال يحيّرني. لا بل يطعنني بأسياف نجلاوات حداد.
(6) دليل من القصة القرآنية : 
رسالة موسى عليه السلام رسالة تحريرية بالأساس.
لم يحفل الكتاب العزيز الهادي بشيء حفله بالقصة التي ناهزت ثلثه والثلث كثير كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وليست أطول قصة فيه ـ طولا يكاد يبتلع المجال القصصي فيه بأسره ـ سوى قصة بني إسرائيل في مختلف مشاهدها الكثيرة. تارة مع موسى عليه السلام وتارة مع فرعون ( وهذا هو أكثر المشاهد ورودا ) وغير ذلك. الذي يهمنا هنا هو أن القصة القرآنية ( هكذا أسميها بالإستغراق لأنها أطول قصة ) بينت لنا أن موسى عليه السلام لم يرسل إلى بني إسرائيل إلا مخلصا لهم من فرعون إبتداء. أي أنه لم يباشرهم بالحديث عن الدين والدعوة ولكن كانت رسالته من يوم بعثته حتى الخروج بهم من البحر الأحمر إلى سيناء هي رسالة التحرير فحسب. ولنظل صديقين حتى نهاية هذه القالة على الأقل لا تقل لي : ذاك شرع من قبلنا. شرع من قبلنا قد يتغير عندما يتعلق الأمر بالأحكام العملية أما القيم العظمى التي تأسست عليها رسالة الإسلام ـ الذي هو دين الأنبياء جميعا ـ فلا تنسخ ولا تتبدل ومنها هنا ـ كما سنرى ـ أسبقية التحرير على التعبيد. 
نورد مثالا واحدا من القصة القرآنية لئلا نتوسع في الموضوع الذي ليس هو أمّ هذه المعالجة. قال تعالى في سورة الأعراف على لسان فرعون وملإه :«لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل»(12) وبالإطلاع على مواضع أخرى يتأكد الباحث أن مطلب موسى عليه السلام هو : إرسال بني إسرائيل وتخليصهم من العذاب وليس غير ذلك. ومن أقوى الأدلة على أن الرسالة لم تكن رسالة هداية بالأساس لما كانوا تحت نير الإستعباد الفرعوني هو أنهم طلبوا منه مطالب وثنية شركية :«قالوا يا موسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة»(13) وفضلا عن ذلك فإنهم إتخذوا العجل معبودا. فما تفرغ عليه السلام لهدايتهم إلا من بعد تخليصهم من فرعون بإذنه سبحانه وعندما دخلوا سيناء آمنين بدأ معهم مشروعه الدعوي. 
وبذلك يتحصل لنا أن عنوان رسالة الإسلام هو عنوان التحرير وأن التحرير أسبق من التعبيد. لذلك سعى موسى عليه السلام إلى تحرير بني إسرائيل من البطش الفرعوني فلما تخلصوا من ذلك دعاهم إلى الإيمان فآمن منهم من آمن وكفر منهم من كفر. ولم يكن لمعنى الدعوة إلى الإيمان أي معنى مع عبيد مستعبدين لا يملكون شيئا لأنفسهم.
الإحالات
1 ـ سورة البقرة ( الآية 256 ).
2 ـ سورة يونس ( الآية 99 )
3 ـ سورة الكهف ( الآية 4).
4 ـ سورة فاطر ( الآية 8) 
5 ـ سورة التوبة ( الآية 128).
6 ـ سورة الأنبياء ( الآية 107)
7 ـ سورة النور ( الآية 33)
8 ـ سورة الكهف ( الآية 29 )
9 ـ سورة المؤمنون ( الآية 117)
10 ـ سورة البقرة ( الآية 260)
11 ـ سورة الأعراف ( 143 )
12 ـ سورة الأعراف ( الآية 134 )
13 ـ سورة الأعراف ( الآية 138 )
---------------------