تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
تنمية مستديمة

 قامت ثورة ولم تقعد. فهل ستبني لتونس تنمية مستديمة ومستدامة كما يسميها البعض؟ يتأكد يوما بعد يوم أن الثورة تحمي نفسها بنفسها، فلم يخب لهيبها بعدُ، بل مازال مستعرا. ولكن، هل يمكن أن يُدرج كل تحرك اجتماعي أو سياسي، فكري أو ثقافي تحت عنوان ثورة أو مواصلة الثورة ؟

صادف أن اطلعت على كراس طفلي أراجع معه درسا كان حول التنمية المستدامة. وقد ارتحت لما قرأت مفاده «استغلال ثروات البلاد مع تأمين حصص الأجيال القادمة»، ولمست أن  المدرس نجح في تلخيص مفهوم التنمية على مقاس فهم الطفل. ولكن سرعان ما انتابني شعور بالخوف من أن يفقد الأطفال الثقة في المفاهيم التعليمية التي تلقوها إذا ما استكشفوا وفهموا ما تفرزه الثورة من فوضى تهتك بكل القيم  وتهدم كل ما شيّد من أسس للاستثمار لتأمين المستقبل.
مازلت آمل استدامة الثورة لإنجاح ما تم استثماره لتأمين الحياة الكريمة للأجيال القادمة. مازلت أثق في أن تُصلح الثورة مسارها ونسقها لتبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق وتربي وتهذب وتزرع لتحصد، ولكنني لا أجد مفرا من التساؤل أين دوام التنمية في ما شهدته الثورة من تخريب وتوقيف لدواليب الإنتاج؟ أين دوام الثورة من تموقع أصحاب النزوات؟ وأين دوام الثورة من الخوف من الآخر؟  لقد كشفت الثورة حقيقة هزال التنمية بالبلاد وسرعة اندثارها، وبرهنت على وجود خلل في أسسها التي بنيت عليها.
توفر التنمية المستديمة مخزونا للأجيال ينمو باستمرار فيغري في كل يوم ويزيد في الأطماع. فكيف يمكن تشييد صرح التنمية دون تأمين حمايتها من النهب والسرقة بكل الوسائل؟. كيف يمكنني، مؤمنا بضرورة المساهمة في الاستثمار في تنمية مستديمة، أن أعمل وأجتهد وأوفر من قوتي للادخار لمستقبل أطفالي عندما لا أثق البتة في من حولي. أراني بفكري وعرقي أُلفّ في ورق تبغ وأُحرق سيجارة أفيون صباحا، مساء ويوم الأحد، على لسان أولاد احمد. 
إن للتنمية المستدامة دعائم وروافد يجب أولا تحديدها ومعرفتها جيدا والعمل على تدعيمها وحمايتها. ومن هذه الروافد خلاصة القيم الإنسانية والتربية الدينية السليمة والفضائل المشتركة من ثقة ووفاء وإخلاص للوطن. حماية الثورة وتحصينها يبدأ بتحصين المكاسب وحمايتها وضرب الأنانية والجهل والدفاع عن مخزون التنمية وديمومتها لنؤسس لصناعة تاريخ عنوان فخر واعتزاز يستنير به أحفادنا. ولكن أي تاريخ يُدوّن لهم؟ ألا يكفي ما ملأ كتبنا من تناحر على السلطة وانقلابات وإعدامات؟ وأي نماذج تُصاغ من تجارب الفشل والغطرسة؟ إن ما كتب لا يمكن أن يستثمر لأنه فاقد لكل القيم والأخلاق؟ رجاء فليعتبر من يريد أن يؤرخ ويعيد كتابة التاريخ وليترفق بأولادنا حتى لا يسبّونا ويسبوا أصلنا ولا يتنكروا لنا.
أين نحن من التنمية المستدامة لما ننجب الأطفال تأمينا للشيخوخة وضمانا للرفاهة والرخاء عند الهرم والعجز. أين نحن من التنمية المستدامة إن لم نحدد أولا لماذا ننجب أطفالا. فالأجوبة عديدة. يولد أطفالنا مثلا لأننا لا نستطيع إلا أن نلدهم ، وسيولدون طالما نفرح إن ولدوا. يولدون كذلك لنعيش غبطة المقدرة على الإنجاب.. وأول استثمار لفائدة أطفالنا أن نؤسس لجواب واحد وهو أن يولد أولدنا أحرارا على لسان عمر ابن الخطاب،  أن يولد الفرد ليعيش حياته وعلى طريقته يعبد الله الخالق. وحتى لا يتحمل الطفل تبعات الرغبات الشخصية المقيدة لحياته، وجب على الدولة الاستثمار لتنمية مستدامة تنطلق من مفهوم حرية الطفل في تحقيق مصيره وأن تؤمّن له إرثا يضمن العيش. وعليه، وجب التفكير قبل الإنجاب ووجب تنظيمه بما يضمن العزة والكرامة للمولود أولا مشروع مواطن. وأدعو من يدير دواليب الدولة للتساؤل كيف يمكن تأمين حياة كريمة لطفل وأن لا يتحمل عبئ ديْن الأجيال التي سبقته.
إن واجبي نحو والدي ورثته عن إنسانيتي ويمليه ديني علي ويؤكده، ولا حدود لهذا الواجب إلا ما حدده لي والدي. أما بخصوصي شيخا، فأنني سأقلّص من حدود الواجب نحوي كما سأستثمر في موت مبكّر استدامة لأمّة ستصنع تاريخها ثم تكتبه. إنني أدعو ساستنا إلى التفكير في إعادة تعديل مؤشرات التنمية تأمينا لاستدامتها وأن يكتسبوا الشجاعة وأن يفصحوا عن نواياهم في التخلي عن أنانية غير معلنة ومراجعة مدى أهداف أخرى تصحيحا لمسار التنمية وتدعيما لاستدامتها . 
هذه تنمية أريدها دائمة تعدّ لاكتساب القوة. وهكذا ألتمس من مَن أراد أن يحكمنا أن يكون للأجيال اللاحقة نبراسا ينير ظلمة تاريخنا. يا حامي الثورة بماذا تسلّحت وتجهّزت؟ ألا أخذت معك نصيبا من الحكمة ونبذة من التاريخ واستنرت بمن أضاء علمه وتسلحت بالشجاعة والثقة في النفس فدفعت الأذى عن المكتسبات بكل ما أتيت من قوة استثمارا للأجيال القادمة.