همسات

بقلم
د.محمد كشكار
اجتهاد بإخلاص - و ليس عن دراية

 (1)

قرأت الآيتين الواضحتين الصريحتين التاليتين:
قال تعالى: «مَن يُضلِلْ اللهُ فلا هَادِيَ له (سورة الأعراف، آية 186)... و مَن يَهدِ اللهُ فما له من مُضِلّ (سورة الزمر، آية 37)».
آيتان، قمة في استقلال إيمان البشر عن البشر واستغناء الفرد عن الفرد في مجال الاعتقاد بالله مهما كان الداعية ومهما كان المَدعو! 
تأملت فيهما جيّدا بإخلاص (la sincérité)، فعرفت أن الرّغبة المسيطرة على الإنسان ليست الرغبة الجنسيّة كما يدّعي «فرويــد» بل هي الرغبة في السلطة والتسلط على الآخرين كما يؤكد «يونڤ»، فوددت لو كُتِبت الآيتان بمداد من ذهب و رُسمتا على الجدران والواجهات وعُلِّقتا في المساحات العمومية الكبرى وفي مداخل القرى والمدن حيث يتواجد بكثرة هذه الأيام، الدعاة بالتي هي أخشن و أعنف وليس بالتي هي أحسن و ألْين، المتطفلون على الإسلام دينا وحضارة.
و أوضّح اجتهادي جيّدا استنادا إلى قولة معبّرة جدّا للفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون. قيل: كيف ذلك يا عمر؟ قال: بأخلاقكم»، ولم يقل بتكفير غيركم أو التشهير بهم أو تخوينهم أو التشكيك في عقيدتهم أو تحقيرهم و كرههم أو نبذهم وإقصائهم من دينهم ووطنهم اللذين هما في نفس الوقت دينكم ووطنكم إذ أنتم، والإسلاميون والسلفيون والمسلمون التونسيون العَلمانيون واليساريون و الحداثيون، في الاثنين شركاء لا أجراء.
و أنهي بقوله تعالى في نفس الموضوع: « ولا تزِِِِرُ (لا تحمل) وازِرَةٌ (النفس، مقترفة الإثم) وِزْرَ (إثم، عبء) أخرى»: 
« Nulle âme ne portera le faix d’une autre » 
(2)
التقدم ليس شيئا قائما في ذاته نبحث عنه لكي نقبض عليه أو شيئا مخفيا، علينا اكتشافه! بل هو شيء نمارسه ونصنعه أو ننتجه بأيدينا! النهضة ليست هدفا ساكنا أو جامدا حتى يتيسّر لنا الاقتراب منه، بل هي نتاج متحرك يُنتج في المعيش اليومي! 
إذ لا شيء عندنا و ليس عندهم، و لا شيء عندهم و ليس عندنا، نحن وهم نشترك في العقل والإنسانية. فالشيء إذن، عندنا وعندهم في آن واحد. علينا فقط تبادل ما عندهم بما عندنا، أو استيراد ما عندهم وليس عندنا، أو تصدير ما عندنا وليس عندهم لكي يتكامل ما عندهم مع ما عندنا. 
علينا تجنب تبجيل ما عندنا و ذمّ ما عندهم أو احتقار ما عندنا وتقديس ما عندهم لأن ما عندنا قد يكون أنفع لنا مما عندهم و ما عندهم قد يكون أفضل مما عندنا. فلا شيء يستدعي الضد أو يتواطأ معه أو يصنعه أكثر من ضده. فلا نجعلهم ضدنا ولا نجعل من أنفسنا ضدا لهم.
(3)
ما أرحب قرآننا الكريم، قليل القيود، كثير الحريات. القرآن رسالة للعالمين و لم يخص الله بها العرب وحدهم و لا المسلمين وحدهم.
القرآن كالجبل، نتفكّره و نتدبّره من جميع جوانبه عن طريق نظرة شمولية.Approche systémique دون تغليب جانب على جانب آخر إلا باستعمال آخر ما توصلت إليه العلوم الحديثة من اكتشافات وحقائق نسبية وظرفية. العلوم الحديثة هي : الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والسوسيولوجيا وعلم النفس والفلسفة والإبستمولوجيا والألسنية وعلم الأجناس والأنتروبولوجية وعلم الأديان المقارن والأركيولوجيا والجيولوجيا... وغيرهم كثير.
و لكل مسلم أو غير مسلم الحق في الحفر والتنقيب والنهل والاستفادة من هذا الجبل ومن الجانب الذي يريحه أو يراه صالحا له دون تغيير أي حجرة من مكانها إلا لتحليلها في المخابر العلمية المختصة مع عدم المساس بالتوازن البيئي المتوارث أو بمبدأ التنمية المستدامة وحق الأجيال القادمة في هذه الثروة الوطنية المؤممة ربانيا.
و لكل مسلم أو غير مسلم الحق في الاجتهاد وتأويل آيات القرآن من وجهة نظره دون تطاول ودون تزوير أو تعديل ودون نية سيئة مبيتة ودون شرك بالله ودون إقصاء أو تكفير غيره ممّن ينظرون للقرآن من جانب أو جوانب آخرى أو من فوق أو من تحت الجبل أو من قلبه.
و مَن يصرّ على رؤية الجبل من زاوية واحدة، يحرم نفسه من بهاء و جمال القمم و السفوح الأخرى، و قد صاغها حكمة شاعرنا العظيم أبو القاسم الشابي منذ قرن تقريبا، حين قال: « ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر» لأن مَن عاش في حفرة لا يرى غير الحفرة و مَن يصعد إلى قمة الجيل يستمتع برؤية بارونامية شاملة وشمولية.