في الصميم

بقلم
د. مصباح الشيباني
تأثيرات وسائل الإعلام في الفعل التربوي المدرسي من وجهة نظر سوسيولوجية

 تعتبر البيئة الخارجية للمدرسة من أهم العوامل التي تؤثر في نسق اشتغال هذه المؤسّسة وتساهم في تشكيل فعلها التربوي والتعليمي وفي نظام التواصل وفي نمط العلاقات بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين المنتمين إليها. فالبيئة المجتمعية بمختلف عناصرها السياسية والثقافية والاجتماعية والإعلامية..الخ قد تكون عامل تطور ونجاح للمدرسة أو عامل إحباط وفشل في تحقيق أهدافها التربوية والتعليمية معا.

   وفي السنوات الأخيرة أصبحت وسائل الإعلام والاتصال مثلما ذهب البعض عبارة عن»الأولياء الجدد»(1) للطفل. أي تشكّل فاعلا رئيسيا للتنشئة الاجتماعية والثقافية ومنافسا كبيرا للمؤسسة التربوية في المجتمع. بل إنّ آليات التنشئة المدرسية أصبحت مفككة وهشّة ومحدودة بحكم اتساع شبكة الاتصال والإعلام المعاصرة التي ساهمت في تفكك الرّوابط الاجتماعية داخل هذه المؤسّسة وخارجها في ظل تنامي دورها الاجتماعي وتأثيرها في تشكيل الوعي وبناء المعرفة لدى الطفل (المتعلم).
أولا:  الإطار العام للمقاربة
     لقد ظهرت الدّراسات الاجتماعية الأولى لفهم ما أحدثته هذه الوسائط الاتصالية من تغيرات في حياة النّاس وطرائق تواصلهم وتفاعلهم منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي. ومنذ أن تحولت وسائل الإعلام والاتصال الحديثة من آليات للإعلام ونقل الخبر والمعلومة إلى إحدى آليات للتنشئة الاجتماعية تحولت بذلك لتصبح المنافس الرئيسي لعائلة والمدرسة في القيام بهذه الوظيفة. بل أصبحنا نعيش حالة من الخلط بين وظائف هذه الوسائل وبين تأثيراتها المختلفة في مجتمعنا المعاصر. فبينما تهتم الوظائف بالدور العام الذي تؤديه وسائل الاتصال، نجد أن التأثيرات عبارة عن نتائج لهذه الأدوار. 
    لذلك لابد من التأكيد على ما يلي:
 أولا:  من الحقائق التي أصبحت ثابتة اليوم، هي أن وسائل الإعلام تؤثر في مجرى تطور البشر، وأن هناك علاقة سببية (causale) بين التعرض لوسائل الإعلام وتغير السّلوك البشري، وذلك على الرّغم من صعوبة الإثبات الدّقيق للعلاقة بين السبب والأثر (cause et effet) لدى كل الأفراد، في كل المواقف لأن هناك عديد من المتغيرات المركبة التي تتحكم في آثار وسائل الإعلام.
 ثانيا:   لقد كانت السّينما في بداية القرن الماضي هي التي تشكل الذاكرة الجماعية. وبعد ذلك بدأت تتشكل ثقافة التلفيزيون من خلال البرامج والصور التي يبثها هذا الجهاز التقني بحيث بدأت تترسخ شيئا فشيئا الثقافة التلفزية في المجتمع. وهذه الوضعية الجديدة أصبحت فيها التلفزة تمثل وسيلة نقل مهمة للمعلومات والصور العابرة للقارات. ولم تعد مؤسّسة التلفزة مجرد جهاز تكنولوجي فقط، وإنما أصبحت تمثل أيضا مؤسسة اجتماعية (إنسانية) باعتبارها تشكل فضاء افتراضيا للتواصل ولإنتاج البرامج حسب أهداف محددة. ومنذ سنة 1937 تحولت إلى فضاء إعلامي وثقافي ومشهدي شعبي (un spectacle de masse). ومن هنا أصبحنا نتحدث مع تطور التكنولوجيا الاعلامية عن ما يسمى بـ «الطرق السيارة الإعلامية» وعن» المجتمع الإعلامي» أو الافتراضي.
 ثالثا: مع ظهور تقنية الحاسوب وتطور تطبيقاته، أصبحت الإعلامية مصدر المعرفة الأساسية في المجتمع واخترقت جميع مرافق الحياة وغيرت أوجهها المختلفة (الاقتصادية، الاجتماعية، المعرفية) في زمن قياسي، وأصبح النظام الاجتماعي والقيمي يواجه تحديا حقيقيا في الحفاظ على تماسكه. ومن بين التأثيرات التي أحدثتها الأنترنت أنها أعادت تشكيل العلاقة التي تربط بين عدة جهات مثل العلاقة بين العائلة والمدرسة، العلاقة بين التعليم الرسمي والتعليم غير الرسمي، العلاقة بين الأولياء والمعلمين..وأصبحت تطرح عديد التساؤلات في هذا المجال.
   رابعا: لم يعد المجتمع الإنساني يشعر أنه وليد نظمه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بقدر ما هو نتاج لنظام التواصل الجديد الذي يسري في مختلف مؤسّساته الخاصة والعامة. وهذا النظام المعلوماتي الجديد هو الذي يتحكم في صيرورة الحراك المجتمعي.
   ثانيا:   دور الإعلام  في إعادة  تشكيل النسق المدرسي
   لقد بدأت تتشكل ثقافة مدرسية جديدة توافقا مع التحولات العالمية الجديدة.  وهذه التحولات ساهمت في إعادة تشكيل هوية المؤسّسة التربوية وثقافتها  على أكثر من مستوى. ومن أبرز هذه المستويات هي التغيرات القيمية التي بدأت تتشكل في الحقل التربوي والتي أنتجت أشكالا جديدة من العلاقات المهنية والاجتماعية.  قد تكون بعض مظاهر هذا التغيير ليست ظاهرة أو غير معبر عنها بشكل مباشر من قبل الفاعلين الاجتماعيين، وقد يعتقد البعض أنها مخفية، لكنها تؤدي دورا رئيسيا في تفكيك بنية المؤسسة التربوية لأن القيم الجديدة تستهدف بناء تمثلات اجتماعية جديدة حول دور المدرسة وصورتها في المجتمع.
   والإعلام بمختلف أشكاله، ساهم بدور كبير في تشكيل بنية هذه الصورة وهذه التمثلات الاجتماعية،لأن الثقافة المدرسية ليست في النهاية إلا امتدادا وتواصلا لقيم المجتمع الذي تنتمي إليه، وهي جزء من المخيال التربوي الذي يتجاوز دور المؤسسة التربوية النظامية(2). إذ أنّ لوسائل الإعلام والاتّصال  أهمّية كبيرة في تشكيل المواقف والاتّجاهات والأيديولوجيّات، خاصّة في المجتمعات التي توصف بـ»النّامية». هذه المجتمعات التي مازالت يهيمن عليها الرّأي الأيديولوجي والفكري الواحد تجاه مختلف القضايا الثقافيّة والتّربويّة. ولم يعد الخطاب الإعلامي التّلفزيوني أو الصّحفي والانترنت كوسائط للتواصل تقدّم بنية النّص وخلفيّاته فقط، وإنّما أصبحت تستهدف تشكيل بنية القيم والمواقف والمعايير في المجتمع. 
      ونتيجة ما عرفته مجتمعاتنا الإنسانية من تحوّلات ثقافية واجتماعية ورمزية عميقة لم يعد فيه التّعليم الرّسمي يمثّل مجمل العمليّة التّربويّة ولا يمثّل أهدافها النّهائيّة. بل إنّ أشكال التّربية غير الرّسمية أصبحت ذات تأثير كبير في مسارات التّنشئة الاجتماعيّة للطفل. ولهذا، ينبغي علينا أن ننظر إليها اليوم، بجدّية نظرا للآثار السّلبية التي اخترقت النسق المدرسي في بعديه التربوي والتعليمي. فالسّلطة التربوية والرمزية للمدرسة أصبحت تتفكك شيئا فشيئا بفعل تأثيرات ما يمكن أن نسميهم بـ «الفاعلين التّربويّين الجدد» أي المؤسّسات الإعلامية الحديثة. وهذا الوضع أنتج إرباكا عميقا لدى المدرّسين والمتعلمين بشأن الأنماط العلائقية والسّلوكيّة المقبولة اجتماعيّا. هل هي ما يقدّمه النّظام التّربوي الرسمي أم هي ما يتلقّاه المجتمع من خلال وسائل الإعلام ومن «الرّأي العام»، وخاصّة تلك القيم التي يتم تمريرها عبر بعض البرامج أوالأعمال «الفنية» والتّلفزيّة  عموما والتي تقدّم للمشاهد أو المستمع نماذج تربويّة وتعليميّة ترسّخ قيما وأنماطا سلوكيّة متناقضة مع أهداف المدرسة و ومع قيم المجتمع ونظمه الثقافية والاجتماعية. 
    فأشكال التّربية «غير الرّسمية» أصبحت ذات تأثير كبير على مسارات التّنشئة الاجتماعيّة. بل أصبح هناك تناقضا بين أهداف المؤسسة التربوية وبين أهداف المؤسّسات الإعلامية نتيجة غياب التّكامل بينها.   والصّورة الالكترونية المنشورة أو الكلمة المبثوثة عبر وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة والمقروءة..الخ، لها تأثيرات نفسية واجتماعية وثقافية سلبية على النشء لأن مضامينها تتعارض مع أهداف المدرسة التربوية. فإذا كانت الآثار السّلبيّة لوسائل الإعلام شاملة لمختلف الفئات العمرية في المجتمع، فإنّ أخطرها يظهر لدى الطّفل باعتباره سريع التّأثّر أكثر من غيره بثقافة الصّورة التي أصبح  لها نفوذ وسلطة  تمكّنها من تقديم مادّتها الإعلاميّة في قالب مشوّق ويقارب عتبة المتعة (3). وبما أنّ للقنوات الفضائية ذات قدرة فائقة على النّفاذ إلى كلّ البيوت وعلى «اغتصاب» العقول، فإنّها أصبحت ذات دور مركزي في تشكيل الذّهنيّات وإعادة إنتاج المجتمع والتّحكّم في مساراته الاستهلاكيّة وفي توجّهاته الثقافية. 
  وهذه الحالة من التّجاذب والتّنازع بين ما هو «أصيل» من المدرسة، وما هو «دخيل» من الإعلام والمحيط الاجتماعي للمتعلم، أنتج نظاما قيميا وتربويا مشوّها لا هو بالأصيل ولا هو بالدّخيل نتيجة ارتفاع نسق الاستهلاك السلبي للمضامين الفكرية والثقافية عبر جهاز التلفزة ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة بصفة عامة، والتهام مضامينها المختلفة دون ترشد حتى بدت هذه الوسائل وكأنها آليات تقنية للتخدير في المجتمع المعاصر. ومن ثم تجلت التأثيرات السلبية لهذه الوسائط الجديدة في التنشئة  وفي بنية المجتمعات الرّاهنة وفي تفكيك نسيج الرّوابط والعلاقات الاجتماعية( ).
    لقد بحثت عديد الدراسات الميدانية في تأثيرات شبكات التواصل الحديثة في صفوف المراهقين والمتعلمين وخلصت إلى عديد النتائج  من بينها:
1ـ ازدياد الأنانية عند المراهقين الذين غالبا ما يستخدمون الشبكات الاجتماعية للتواصل،
2ـ الاضطرابات النفسية التي يعاني منها هؤلاء المراهقون (المتعلمون) والميول نحو العدوانية ويتعرضون إلى مشاكل في النوم والقلق وحالات الاكتئاب،
3ـ ارتفاع حالات التغيب عن الدّراسة في صفوف المدمنين على شبكة «الأنترنات» وانخفاض مستوى التحصيل الدراسي عندهم،
4ـ ضعف القدرة على التركيز في الفصول الدراسية وصعوبة في الاندماج الاجتماعي.
5ـ أصبح المتعلمون في ظل النسق الإعلامي والاتصالي الجديد عبارة عن أفراد مقطوعي الأوصال بسبب استغراقهم وذوبانهم في  خبرات يومية مجزأة ومبعثرة،
3ـ يشعر أغلب المتعلمين الخاضعين إلى هذا الخطاب بحالة من العجز وضعف المقاومة وقلة الحيلة في مواجهتها،
4ـ تخلو حياة المتعلم اليومية من أي معنى، بسبب سيادة أنظمة اجتماعية جافة تفتقر إلى الحياة والديناميكية، وتعمل على تفريغ تجربته المدرسية اليومية من مغزاها ودلالتها الرمزية والاجتماعية الحميمية.
     نعتقد أنه بات من المؤكّد اليوم، أنّ إدمان المتعلمين على قيم التواصل عبر وسائل الإعلام والاتصال وخضوعهم إلى مضامينها الفكرية والثقافية ليس أمرا ايجابيا دائما سواء على مستوى المناخ التواصلي العائلي، أو على مستوى تنشئتهم الاجتماعية وتحصيلهم الدراسي. وهذه التحديات التي فرضتها مرحلة العولمة ( الثقافية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية) تفرض على المدرسة أن تعيد صياغة استراتيجياتها وطرق اشتغالها.
الإحالات
(1)
Peter Golding, The Mass media, 3 ed, London, longman, 1979, p. 78.
(2) عبد الاله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1988، ص121.
(3) 
 Alain Touraine, Un nouveau paradigme pour comprendre le monde d’aujourd’hui, Paris, Fayard, 2005.
------------------