كلمة وكفى

بقلم
خالد كشبوري
”الدواخل“ عدالة اجتماعية حقيقية ومواطنة كاملة

 أتذكر جيدا أبناء الدواخل أواخر شهر ديسمبر 2010 عندما خرجوا و واجهوا الرصاص الحي وهتفوا بأعلى أصواتهم لا للحقرة، لا للبطالة، لا للفساد، لا للسرقة، لا للمحسوبية.

أتذكر جيدا أبناء ”تالة“ عندما خرجــــوا ليقولــــون لا للتهميــــش، لا للحقرة، لا للنسيان، الذين خرجوا في إحدى ليالي شهر جانفي 2011 ولم يعودوا إلى بيوتهم سالمين فمنهم من استشهد ومنهم من جرح ومنهم من اعتقل.
أتذكر جيدا سقوط الشهداء في القصرين وأبناء حي النورعندما أقدموا على حرق مقر التجمع بالحي وأتذكر جيدا عندما أقدم شجعـــان حي الزهور على حرق صورة المخلوع لأول مرة أمام مركز أمن المدينة.
حينها كان ”الثورجيون“ و المنتفعون من الثورة الآن والراكبون عليها والمتمعّشون منها، يهللون ويناشدون ويحللون مباريات كرة القدم ويناقشون خطابات المخلوع. ومنهم من كان يشاهد النشرات الاخبارية في التلفزات العالمية، في الخارج قبل الداخل ويصفنا بأننا جهة التخلف والسرقة والهمجية والانحطاط. 
أنا لا أدّعي الثورة ولا ”الثورجية“ و لست مخولا بأي حال من الأحوال أن أتحدث باسم ”الدواخل“ أو باسم سكانها، لكني أعتز بانتمائي إليها وأعبّر عن رأيي الحر المستقل البعيد عن كل التجاذبات السياسية والايديولوجية والنقابية والحزبية والجهوية ...
أنا لن أتحدث عن السياسة ولا الساسة ولا السياسيين ولا ”السياسوين“.
أنا لن أتحدث عن الأحزاب ولا النواب ولا المتحزبين ولا المناصرين ولا المنتصرين ولا الخاسرين.
أنا لن أتحدث عن الاضراب ولا الاغتصاب ولا الاتحاد ولا سارقي وناهبي العباد والبلاد.
أنا لن أتحدث عن اليسار ولا اليمين ولا الشمال ولا الجنوب ولا الازلام ولا الإعلام ولا الافلام ولا الأرقام.
أنا سأتحدث عن ”الدواخل“ ... ”الدواخل“ منبع التاريخ والحضارات والثورات ... ”الدواخل“ التي همشت منذ عشرات السنوات ومهما كانت قبضة وسطوة الحكام ولون الحكومات، الدواخل التي همشت في القريب و البعيد و منذ عصر الدايات و البايات الى ما بعد الثورة والربيع والياسمين.
أنا سأتحدث عن كل شبر من هذا الوطن ... أنا سأتحدث عن تونس. 
أنا لا أدافع عن أي جهة مهما كانت وأتمتع بالاستقلالية التامــــــة في تحليل الوضع الحالي غيرة مني على موطني الغالي ولا أنحاز لا إلى الحكومة المنتخبة الشرعية الغير قادرة على ضبط أوتار الدولة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية ولا إلى المعارضة المشتتة الهزيلة الصبيانية ولا إلى الإتحاد المنظمة العتيدة التي تتقاذفها المصالح ولا إلى بقايا النظام والتجمع الغابر ولا إلى قطاع الطرق ومثيري النعرات الجهوية والعروشية ولا إلى أصحاب النفوس المريضة المتلونين الثورجين و الراكبين على الثورة ولا غيرهم. ولا انتظر جزاء و لا شكورا من أحد ولا من جهة مهما كان موقعها.
أملي فقط أن تنهض ”الدواخل“ ويتعافى المجتمع في الدواخل ليلتحق بغيره في الجهات الأخرى، ولنصبح مواطنين متساوين مع البقية لا مواطنين درجة ثالثة لا نتمتع بحقوق كاملة وليس لدينا أي تأثير في هذه الدولة لا اجتماعيا ولا اقتصاديا ولا سياسيا.
ضحّت ”الدواخل“ بأبنائها وشبابها وأعطت الانطلاقة الحقيقية للثورة ولكن يا خيبة المسعى، لم يتغيـــر من واقـــعا التنموي شـــيء، لم نجن من الثورة شيئا، فالبطالة متواصلة والفقر المتقع والنسيان والتجاهل والاحتقار، وبقت دار لقمان (اقصد الدواخل) على حالها، وكما يروي لنا تاريخ أجدادنا كيف كنا دائما حطب الثورات والانتفاضات وكم قدمنا الشهداء والجرحى واليتامي والثكالى على مرّ العصور والأزمان ...
لكن لم يتغير شيء في ”الدواخل“ ولا أعتقد أنه سيتغير شيء في القريب العاجل وذلك لعدة أسباب متنوعة ومتداخلة منها ما هو ذاتي ومنها ما هو خارجي ...
أين قتلة شهداءنا؟ أين حقوقهم وحقوق جرحانا؟ أين مواطن الشغل؟ أين المشاريع والانجازات؟ أين المستشفيات؟ أين الأقطاب الجامعية؟ أين المؤسسات الصناعية؟ أين السياحة؟ أين آثارنا؟ أين الفلاحة والمشاريع الفلاحية؟ أين وأين وأين وأين ؟؟؟؟
نحن لم نجني من الثورة سوى استشهاد شبابنا وحزن أمهاتنا على أبنائهم وحرق ما أمكن حرقه وتخريبه وتكسيره، لم نجني سوى الحظائر والوعود والمماطلات والانقسامات والتجاوزات.
نحن لم نجني سوى العمل السياسي الرديء الذي يفتقر للأبجديات المهنية، قوامه المصلحة الضيقة والمحاباة والاقصاء وانتخابات مجلس تأسيسي لا يسمن ولا يغني من جوع، حيث لن يغير من حالنا في ”الدواخل“ شيئا.
السنا مواطنين تونسيين متساوين في الحقوق و الواجبات؟ ألسنا من شمالنا الى جنوبنا أبناء الوطن الواحد؟ 
ان لم تتغير ”الدواخل“ بعد هذه الثورة التي قُدَر لها أن تأخذ منعرجها التاريخي بفضل شبابها الذين كان لهم الدور الأكبر في اندلاعها، فإنها ستبقى على حالها بلا تنمية ولا مواطن شغل ولا تطور ولا مرافق حياتية ضرورية. ستبقى ”الدواخل“ فقيرة ومفقرة ومهمشة، ستبقى مناطق درجة ثالثة تتذيل الترتيب في كل مناحي الحياة من صحة وتعليم وتشغيل، ستبقى مناطق تتصدر الترتيب في كل ما هو فقر وأمية وبنية تحتية وجودة الحياة، ستبقى مناطق تنتج سكانا عاطلين ومهجّرين الى مناطق أخرى للبحث عن لقمة العيش، ستبقى مناطق تنتج عمالا لحضائر البناء والمقاطع والمقاهي والمصانع في كامل تراب الجمهورية ...
يجب على الشعب في ”الدواخل“ بشبابه وشيبه ونساءه ورجاله أن لا يقف مكتوف الأيدي وينتظر منًة من الدولة وصدقات من أحزابها ومنظماتها، لا يجب أن ينتظر الشعب في ”الدواخل“ مشاريع السراب ووعود الخراب وبرامج الأحزاب. المطلوب اليوم، مواصلة المشوار الثوري السلمي التنموي لتغيير الوضع في كافة ربوع الدواخل وذلك بوضع اليد في اليد وايجاد الحلول الممكنة وترك الانتماءات الحزبية والايديولوجية والقبلية التي شتتنا وجعلتنا نضيع الفرصة تلو الأخرى من أجل مصالح بعض الاشخاص أو الفئات أو الأحزاب أو المنظمات. يجب أن نضع مصلحة تونس فوق كل اعتبار، فمصلحتها من مصلحة المواطن والأجيال القادمة.
من أجل المحرومين في ”الدواخل“ والمهمشين في ”الدواخل“ والبطالين في ”الدواخل“ والعاطلين و المعطلين في ”الدواخل“. من أجل مستقبلنا ومستقبل ابناءنا وبناتنا، من أجل تونس الجديدة التي نحلم بها، من أجل عدالة اجتماعية واقعية شفافة غير مزيفة، من أجل عدالة اجتماعية واقعية بين الجهات وبين الأفراد. من أجل صحة و تعليم لنا و لأبنائنا مثل غيرنا في كل ربوع الجمهورية. من أجل مستشفيات متطورة، لا مراكز صحة أساسية.  من أجل مؤسسات تعليم عال، لا معاهد بناء و بيطرة. من أجل بنية تحتية وطرقات وسكة حديد. من أجل مصانع ومعامل تستوعب اليد العاملة. من أجل فلاحة عصرية ومتطورة واستغلال أمثل للمياه الجوفية. من أجـــل تقريب الإدارة من المواطن وتحسين الخدمات. من أجـــل تحسين نوعية الحياة لنا ولأبناءنا، يجب على الجميع في الدواخل ان يتصالحوا مع أنفسهم ومع مجتمعهم، والتوجه الى العمل والكد والعطاء، فبدون العمل والتضحية لن تقوم لنا قائمة.