آراء الشباب

بقلم
هشام السلّيني
أي دستور نريد؟؟

 سؤال يطرح بالصيغة الصحيحة والمناسبة، يربط فعل الإرادة بنون الجمع الكريم، ليؤكد أن الإشكال المطروح شأن جماعيّ عام، وجميعنا معنيّون بطرحه والإجابة عنه... وليؤكد أنّ الدستور الذي سيكون لنا، هو المعبّر عن إرادتنا جميعا، جميعا بكل تأكيد، نحن التونسيّون، بكل ألواننا وتشكيلاتنا وانتماءاتنا الفئويّة والسياسيّة والجهويّة والقبليّة... بلا إقصاء أو تهميش من أي نوع وبأي ذرائع أو مبرّرات...

فهو دستورنا نحن التونسيّون، نحن الإسلاميّون والقوميّون واليسار والليبراليّون والدستوريّون والمستقلّون والصامتون والكادحون والعاطلون والمهمّشون في باطن البلاد وفي أعالي الجبال والمغتربون في سبيل الحياة ولقمة العيش وكل مكوّنات شعبنا وأبنائنا لا نستثني منهم أحدا...
فما هو بالدستور الذي يريدون ولا هو بالدستور الذي يُراد لنا... بل هو الدستور الذي نريد، وسيكون حتما كما نريد... ولو أرادوا وأراد وأُريد، فلن يكون سوى ما نريد...
 فهذا السؤال يطرح قضيّة مصير، مصير شعب، ومصير ثورة، ومصير وطن عانى الكثير ... ولهذا فإن إجابتي عنه لن تنبع من مرجعيّتي (القوميّة) ولا من انتمائي الحزبي ولن أجيب كعصاميّ ولن أجيب كرجل... بل سأجيب كمواطن تونسي مجرّد من كل انتماء آخر، سأجيب معتبرا أن الدستور هو القاعدة الأساسية للدولة التي ستضمّنا جميعا، وهو بذرة صالحة لشجرة طيّبة نزرعها في أرضنا لتظلّلنا جميعا...
ولا بد في البداية أن أسوق ملاحظات شكليّة أساسيّة للمرحلة التأسيسيّة...
أوّلا، أنّ صياغة الدستور شأن توافقيّ لا يخضع مطلقا لمنطق التوازنات والغلبة والهيمنة والأمر الواقع، وأنّ الخروج على التوافق سيؤدي حتما إلى الصّدام، سياسيّا أو ميدانيّا أو كلاهما معا، وأنّ قضيّة المصير قد تتحوّل إلى معركة مصير، وحده الله من يعلم مداها ونتائجها...
ثانيا، أن هذا الدستور هو دستور الثورة، ملك للثورة، خالص لها، دفعت ثمنه دماءا كثيرة وقدمت لأجله التضحيات الجسيمة ونام لأجله الأحرار في العراء، وهو نتاجها وثمرتها وهو التتويج المستحق لها، وهو أمانة منها، لمن يحملها أن يفي بعهد الثورة وأن يلتزم بمبادئها وأن يضع نصب عينيه أن الدستور الذي نريد، ما هو إلا تجسيد لأهدافها وتحقيقا لغاياتها...
وعليه، فإن أي محاولة لفصل الدستور عن الثورة ، عن مبادئها أو أهدافها، كلّيا أو جزئيّا، يعدّ مرتكبها خائنا للأمانة، خائنا للثورة وعدوّا لها... وسيكون عليه أن يواجه سخطها وغضبها، وأن يواجه حكم التاريخ في الخونة والمجرمين...
 ثالثا، إن للدستور الذي نريد علويّة مطلقة، فهو أعلى قانون في الدولة وهو مرجعيّتها العليا وهو كذلك أساس بنائها... فلا مرجعيّة تعلوه ولا شيء يضاهيه في علويّته. (مثلما يراد للشريعة أن تكون مرجعيّة للدستور ويكون لها العلويّة عليه بحيث تصبح المرجعيّة العليا للدولة، كنصوص ذات طابع قداسي لا مجال لتغييرها أو لتحويرها، فلا يعود الحديث مقتصرا على دستوريّة القوانين، نظرا لعلويّة الدستور على بقيّة القوانين، بل وعلى شرعنة الدستور ومدى التزامه بأحكام الشريعة، فلا يعود لوجوده مبرر ولا معنى...).
 ومن منطلق الوفاء للشعب، والوطن، والثورة، فإننا نريد دستورا يكفل في أول فصوله الحريّة في مفهومها المطلق، دون تحديد أو تخصيص يوجد سقفا قد يعلوا أو ينزل أو حدودا تقدّم أو تأخّر وفق القراءات أو التأويلات أو بقصد القمع و الاستبداد... وأن يضمن كافة الحرّيات الفرديّة والجماعيّة، أسوة بدساتير الشعوب العريقة في الديمقراطية، وإنّ شعبنا لجدير بالحرّية وجدير بالديمقراطيّة مثل أولائك البشر، وهي مبادئ أساسية لثورته...
 وإني لأذكر المراحل النضاليّة لثورتنا المجيدة، أذكر كما يذكر الجميع اعتصام القصبة، الذي أطاح بحكومة الغنوشي وأذكر مطالبه التي صنعت الأجندة السياسيّة للمرحلة الانتقالية الأولى. ومثلما رُفعت مطالب استقالة الحكومة وإلغاء الدستور وحل المجالس النيابية والاستشارية والمطالبة بمجلس تأسيسي...، فقد نودي كذلك بالنظام الجمهوري البرلماني، نظاما للجمهوريّة الثانية. ولقد مثلت تلك المطالب إرادة ثوريّة للقطع مع النظام الرئاسوي بدستوره ومؤسّساته وآليّات حكمه، مثلت إرادة شعبيّة للقطع مع حكم الفرد وسلطة الفرد... حيث أن السلطات المجمّعة مفسدة للفرد، مهما كان مقدارها ومهما بلغت عفّته، فلا ضمان لعفّة أعضاده وحاشيته وعائلته والمقرّبين منه...
وإذ قطعت الإرادة الثوريّة مع سلطة الفرد وأطاحت بحكم الفرد، فقد توجهت نحو حكم المؤسّسات، نحو الحكم التمثيلي النيابي، نحو حكم الشعب عبر ممثّلي الشعب، أي نحو نظام جمهوريّ برلماني يمثل إحدى أهداف الثورة التي نرى لها تجسيما عمليّا مبسّطا في هذه المرحلة الإنتقاليّة الثانية، والتي لا تزال تنتظر ترجمة دستوريّة...
 ومن هذا المنطلق، أعتبر أن الدستور الذي نريد (وليس الذي يريده الحالمون بالمنصب الرئاسي) يؤسس لجمهوريّة برلمانيّة يستحقها شعبنا ويضبط معايير التكامل والفصل بين سلطاتها، وفيما يُخضٍع السلطة التنفيذيّة لرقابة البرلمان وسلطانه، فهو يضمن استقلال السلطة القضائيّة واستقلال الإعلام وإعلاء شأنه كسلطة رابعة يكفلها الدستور.
ولابد للدستور الذي نريد أن يؤكد على أن الدولة تضمن كرامة المواطن وسلامته، داخل الوطن وخارجه، وتحفظ حرمته الجسديّة والمعنويّة وأمنه وممتلكاته...
ونريد لدستورنا أن يضمن العدالة بين الفئات والجهات والمساواة بين المواطنين كافة في الحقوق والواجبات وأمام القانون.
ونريد أن يكفل دستورنا التعدديّة بوصفها شرطا حيويّا وأساسيّا لديمقراطيّة فعليّة، وأن يضمن كافة الحقوق السياسيّة، وبخاصّة حق التنظّم لكل من يلتزم بالديمقراطيّة وقواعد ممارستها.
 وفيما عدى ذلك مما يمكن أن يتضمّنه الدستور، نريد له أن لا يتعارض مع ما سبق وأن لا يناقض الطبيعة الديمقراطيّة لنظام الدولة وأن لا يتضمّن ما قد يمثّل تشريعا للهيمنة أو الاستبداد أو محاباة للسلطة التنفيذيّة،... وأن تكون نصوص الدستور دقيقة الصياغة، بليغة العبارة، واضحة المفاهيم، لا لبس فيها ولا تشابه ولا غموض.
تلك هي إجابتي عن الدستور الذي نريد، فلعلّي قد توفّقت في وصف ما نريد، لا ما أريد. وندعو الله أن يوفّقنا في استكمال مهام ثورتنا والوصول بها إلى بر الأمان...