في العمق

بقلم
الهادي بريك
لو قام الذي نحتفي بمولده لأنكر علينا

 أجل، لو قام خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام من قبره لأنكر علينا احتفاءنا بمولده. ليس ذلك لعدم مشروعية الإحتفاء، أبدا وكلاّ. ولكن لما تنكبناه من سوء فهم له شخصية ونبيا ورسولا ورسالة عالمية لا يحدها زمان ولا مكان ولا حال ولا عرف. أول ما يبدأ به إنكارا هو إختلافنا المرهق في مشروعية الاحتفاء بمولده عليه الصلاة والسلام. لا شك في أن كثيرا من الراسخين في الوعي الإسلامي أصالة ومعاصرة، يتوافقون على أن دائرة المحكمات الثابتات في حياتنا في تقلص وانحسار في حين أن دائرة أخرى مصطنعة من لدنا في زحف وامتداد. هي دائرة الظنيّات والمتشابهات والخلافيّات التي يتوسع فيها أهل العلم بحسبانها موطن اجتماع تندمل فيـــه جراحات التفـــــرق وهــــو اجتهاد خاطـــــئ دون ريب. وهي الدائرة ذاتها التي يعمل على توسيعها أعداء المشروع الإسلامي ـ ومنهـــم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ـ بحسبانها تمكن للمشروع الغربي بمختلف ألوانه الفكرية في مجتمعاتنا الإسلامية. مشروعيــــة الاحتفاء بذكرى مولده عليه الصلاة والسلام لا تنتمي إلى تلك الدائرة وذلك لسبب بسيط جدا وهو عدم انتمائها إلى الدين بل إلى الدنيا. إنه عندما صرح ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : ”أنتم أعلم بشؤون دنياكم“ فهو إنما يقصد مثل هذا. شغب على ذلك الغالون المحرفون بسبب جهلهم أن الإسلام دين ودنيا ظنا منهم أن ذلك التقسيـــم يجري لمنفعة العلمانية فأفضى شغبهم ذاك إلى إلغاء الدنيا من الإســـلام وبإلغائهـــــا تتحول دينا لا بد لنا فيه من نص من الوحي والحال في التشريع الإسلام مغايرة لذلك بالتمام والكمال، إذ أن نصوص الوحي الملزمة اعتقادا وعملا نادرة جدا بالنسبة إلى تصاريف الحياة ودروبها الكثيرة المتعرجة المتشعبة وليس تلك منطقة فراغ أهملها التشريع ولكنها عفو عفا به الشارع الحكيم من النص إلى العقل تفويتا إراديا تكريما للإنسان المستخلف المستأمن المعلم من جهة ومن جهة أخرى تحقيقا لإستيعاب الإسلام بشريعته المرنة لطارئات التطور وداعيات المعاصرة وحالقات الليالي.

 
منهاج الإستدلال هنا خاطئ منذ البداية
 
أجل، هو خاطئ منذ البداية. لأنه منهاج يخضع حقل الدنيا إلى حقل الدين ولذلك يكون خطؤه منهجيا. لا يشفع للعلماء أن يكون ذلك تحصيلا لرضى المخالفين أو جمعا للكلمة، إذ الحق أحق أن يتبـــــــع من أرضيته اليوم. ففاء إليك تكون جنايتك عليه أنك لقنته منهاجا خاطئا فأي الأمرين أحب إلى نفسك؟ تأصيل مشروعية الاحتفاء بمولده عليه الصلاة والسلام يبدأ من النقطة الأصولية المنهجية الأولى وإليها يرتد وهي أن مثل هذا الأمر ينتمي إلى الدنيا وليس إلى الدين ولو كان ينتمي إلى الدين الموقوف لكان لنا فيــــــه أمـــــر أو نهي وليس شيئا غير الأمر أو النهي. فإذا كان ذلك كذلك فإن الأمر مفوت فيه إلى العقل يصرفه بحسب ما فقه من اتجاه النص واتجاه مقصده واتجاه أيلولته. إلا أن ينبه العلماء إلى ما قد يشوب الاحتفاء ـ أي احتفاء ـ من محرمات ولكن محل ذلك ليس هذا المحل لأن المعاصي يمكن أن تشوب أي عمل حتى لو كان عبادة.
 
ما يشوب الإحتفاء إتجاهات فكرية موغلة في العمى 
 
مبنى الدنيا هو التفاضل خيرا وشرا دون ريب. لذلك رتبت الطاعات وبمثلها المعاصي ترتيبا تفاضليا تصاعديا أو إنحطاطيا لئلا نركمها في كيس واحد لفرط جهلنا أو لفرط تعصبنا. من العلماء اليوم من يحذر من وقوع المعاصي العملية ـ معاصي الجوارح ـ في مثل تلك الاحتفاءات. ولكن هل تجد واحدا منهم فحسب ينبه إلى أن الاتجاه الفكري للاحتفاء بمولده عليه الصلاة والسلام يكرس للعمى عن الرسالة الإسلامية الصحيحة؟ طبعا لا. بعضهم لا يعي ذلك لفرط تغلغل التديّن التقليدي الخرافي الأسطوري في فؤاده وبعضهم الآخر يتأخر عن ذلك لارتداد الإرادة فيه إلى درجات سفلية بعيدة. عندما نجاري هؤلاء نسقط في المحذور ذاته الذي يسقط فيه أولئك الذين يفتون بحرمة الاحتفاء بذكرى مولده عليه الصلاة والسلام. هؤلاء يرتكبون خطأ منهاجيا غليظا موجعا وذلك بسبب وصلهم الدين بالدنيا في الإسلام وصلا لا فصل فيه ولا يشفع لهم حسن الطوية في الدنيا ولا سدا لذريعة غفل عنها الإسلام بزعمهم. أما أولئك فإنهم يرتكبون الخطأ المنهاجي ذاته ولكن في اتجاه معاكس وذلك عندما يأذنون بإحتفاءات تغرز في الأمة معاني الجاهلية الغابرة والحاضرة سواء بسواء. كيف ذاك؟ إليك البيان الآتي :
 
عندما يكون إتجاه الإحتفاء شخصانيا 
 
من أعقد معضلاتنا المعاصرة اليوم أننا نأخذ جزء كبيرا من ديننا عن مخلفات عصور الانحطاط وهي عصور مبكرة جدا في تاريخنا سيما في جانبها السياسي بسبب الانقلاب الأموي الشنيع ضد أكبر قيمة في الإسلام من بعد قيمة التوحيد العظمى أي قيمة الشورى الكفيلة بصياغة شخصية جماعية للأمة قوامها الاجتماع المتنوع من جهة وكرامة الإنسان بمشاركته السياسية ومشاركته العامـــة من جهة أخرى. جرثومة المشكلة الحضارية المعاصـــرة اليــــوم هي تلك اللحظة البئيسة التي تغلب فيها السيف على القلم فألجمت الألسنة القويمة وسالت لعابات الأفواه الجشعة. من مخلفات تلك الفترة وما تلاها أن إنحسر الإهتمام في جانبه الشخصي متعلقا بمحمد  عليه الصلاة والسلام فأنبرى الشعراء و المداحون يصفون جسمه وحركته وسكنته وشعره ومشيه وقعوده وقيامه ووسامته وجماله حتى يحال إليك اليوم بطلا دوليا في رياضة كمال الأجســام أو ملك جمال الرجال وليس ذاك سوى محصلة حزينة من محصلات ذلك الانقلاب الأموي الدموي الذي حمى حقول السياسة والحكم والدولة والمال العام وحاشيات القصور أن تتناوشها أقلام المصلحين أو ألسنة المقاومين فكان أضعف الإيمان عندنا هو ألا نفرط في محمد عليه الصلاة والسلام ولو بذكر مناقبه البدنية. هل تجد منا من ينكر ذلك اليوم؟ هل تجد في الكتاب أو السنة أدنى ذكر لذلك؟ ناكية النواكي أنك تجد مثل ذلك الإتجاه الشخصاني البليد حتى في زمن الثورة أو زمن ما بعد الثورة حيث لا مكمم للأفواه ولا للأقلام. ذلك يعني أن الثورة ـ على جلالة قدرها ـ ليست سوى مفتاحا لثورة لا بد منها في العقول والأفكار بل في مناهج التفكير. عندما تتأخر مثل تلك الثورة القابلة تندحر الثورة العربية الراهنة ـ الربيع العربي بالتعبير الإعلامي ـ خطوة إلى الوراء بل خطوات.
 
 عندما يكون الإحتفاء تقليديا
 
دعني أقول لك هذا فلا تعجل علي بتكفيري وتفسيقي وتبديعي ورميي بالهرطقة والزندقة حتى تسمعـــه منـــي. دعنـــي أقول لك أن كارل ماركس عندما قال : الدين أفيون الشعوب.. إنما قال ذلــــك في المسيحية المتكنسة التي تسلب الإنسان حقه وحريته وكرامته. ذلك صحيح دون ريب. ولكن الأصح منه عندي أن الإسلام نفسه تحول في فترات معينة محددة فينا إلـــى ما يشبـــــه ذلك الأفيون الذي يستخدمه علماء السلطان وفقهاء البغي وزبانية القصور بقصد تخديرنا وصرفنا عن المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدولية والتحررية بصفة عامة داخليا وخارجيا. أكرر لك القـــول أن اللحظة المأساوية التي لا زلنا ندين بدينها غير واعين بشرها وخطرها هي لحظة افتراق الحكم والسياسة والشأن العام عن الوحي الساطع الصادق أي لحظــــة تغلب السيـــــف على اللسان والقلم وهي لحظة بعيدة في التاريخ مبكرة في التجربة وآثارها اليوم بادية حتى بعد الثورة. صحيح أن صحوة إسلامية كبيرة نسبيا تشق الأمة منذ زهاء ثلاثة قرون ولكنها صحوة مازالت نخبوية فئوية ضيقة يحجزها عن الإنسان المسلم في الأدغال والقرى حاجز التصدئ فينا. هل تنفك إحتفاءاتنا بالمولد النبوي الشريف عن المدائح والأذكار وكثير منها ينضح شركا قحا بمثل ما حوته قصيرة البردة البوصيرية على جلالة قدرها البياني الكبير؟ ناكية النواكي أن تنبري لتلك الإحتفاءات إحياء نساء عاريات وليس كاسيات عاريات. لا بل عاريات عراء فاحشا متبذلا. هل تظنون أن ذلك خطأ فنيا أو توبة منهن أو على غير إعداد مسبق؟ عندها نكون قد وقعنا في خطإ قيمي من بعد وقوعنا في الخطإ المنهاجي. ذلك كله مسبق الإعداد لإفراغ الإسلام من نهضته القيمية والروحيـــة والإجتماعيــــة التي لم يتألق إلا بها ولم يجلب إليه رؤوس الفلسفة في القديم والحديث إلا بها. هي خطة علمانية محكمة تحقق فيها مقالة كارل ماركس : الدين أفيون الشعوب من جهة ومن جهة أخرى ترضينا بذلك الفتات المدسوس سمّـــا زعافا. وأي سمّ أشد علينا عندما تتربى أجيالنا على إسلام لا طعم فيه للمقاومة والجهاد والكرامة والعدالة والعمل والحق والخير والقوة والوحدة والانتصار للمسحوقين؟ أي طعم للإسلام عندما ينبري فيه إماما بالعشي من كان بالضحى عربيدا؟ هي خطة لتمييع الإسلام ونبذ قيم الالتزام فيه.
 
إحتفاءات 1434 لا مكان فيها للنبي الثائر 
 
تلك هي المفارقة العجيبة وما هي بعجيبة بسبب التخطيط العلماني الماكر وبسبب الاستضعاف الإسلامي الذي فرضــــه المسلمـــون على أنفسهم فرضا. لا أجد في هذه السنة طعما لتلك الإحتفـــــاءات إلا إذا اجتهدت لتقدم لنا محمدا عليه الصلاة والسلام ثائرا مقاوما ومجاهدا ضد أساطين الطغيان والاستبداد والجبروت والقهـــروت. أنى لنا أن نجمع بين الأمرين في هذا العام : إحتفاء بالذكرى الثانية لثورة تونس ( 14 جانفي ) وثورة مصر ( 25 جانفي ) وثورة ليبيا ( 17فبراير ) وفي الآن ذاته احتفاء بنبي لا علاقة له بالثورة والمقاومة والجهاد وكرامة الإنسان. ليت شعري وهل بعث هو عليه الصلاة والسلام لغير الثورة ضد الاستبداد القرشي والنخاسة العربية الجاهلية؟ ليت شعري هل بعث هو لغير كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية والوحدة البشرية جمعاء قاطبة فإن تعذرت فالوحدة الكتابية فإن تعذرت فالوحدة الإسلامية؟ ليت شعري أليس ذلك هو الأرضية الصلبة التي يدعى من بعدها إلى توحيد الديّان سبحانه؟ أجل. بعدها وليس قبلها. ألا تسأل نفسك هذا السؤال المنهاجي العظيم : هل بعث موسى عليه السلام لتحرير بني إسرائيل أم لهدايتهم؟ إنما بعث لتحريرهم من البطش الفرعوني أولا فلما تحرروا من ذلك وفاؤوا إلى حيث الأمان في صحراء سيناء دعاهم عليه السلام إلى الله سبحانه. بمثل ذلك فعل عليه الصلاة والسلام إذ عمل على تحرير الإنسان ليتأهل الإنسان إلى استقبال دعوة التوحيد وله من بعد ذلك مطلق الحرية في القبول أو الرفض. أما قبل ذلك فلا. ذلك هو معنى أن الحرية تسبق الشريعة. بل تسبق الحرية العقيــــــدة وليس الشريعـــــة فحسب. تدبر ذلك قبـــــــل أن تتعجل علي بتكفيري فلا يفيئ بوزرها غيرك.هل أن ذلك يعد فقها عالي المنال لا يحصله إلا الراسخون؟ كلا وألف ألف كلا. إذا لكان الإسلام دين النخبة. ولكن المعضلة فينا نحن. المعضلة في عدم أهليتنا للتفكير وكأننا نتجه في اتجاه معاكس بالتمام والكمال لاتجاه الكتاب الذي لا يقوم سوى على التفكير الحرّ ولا يقود التفكيـــــر الحرّ إلا إلى الإسلام. فإن قاد التفكير الحرّ إلى الإسلام الذي يطاوع الظالمين والمعتدين والسلابين والنهابين فما هو بتفكير أصلا وما بتفكر حرّ أبدا. 
عجبي لا ينقضي! أنى لنا أن نرتد إلى الإحتفاءات الشخصانية والتقليدية التي تدعونا صراحا بواحا إلى الشرك العام أو الشرك بالله بمحمد عليه الصلاة والسلام ليكون محمدا عندنا هو المسيح الصليب ـ بزعمهم ـ  إبن مريم الذي يعده النصارى إلها أو عشر إله.. أنى لنا أن نرتد إلى ذلك ونحن في زمن الثورة أو في زمن ما بعد الثورة. ولكن ينفك عني عجبي عندما أذكر أن ثورة الربيع العربي المنداحة اليوم ليست سوى مفتاحا لتدشين مرحلة الثورة الفكرية والثقافية التي نضع لها المثال الصيني عنوانا : لا تعطني سمكا بل علمني كيف أصطاد. أجل. لا تعطني فكرة بل علمني كيف أفكر. ثورة نسميها : علمني كيف أفكر. 
أجل. لو قام عليه الصلاة والسلام لأنكر علينا احتفاءنا به لأنه ينهانا عن الاحتفاء به ولكن يأمرنا بالاحتفاء بالإسلام. نحن نحتفي به والإسلام يأمرنا بالإحتفاء بالإسلام. أي مفارقة هي! إذا كان احتفاؤنا به لا ذكر فيه للإسلام فلا خير في احتفاء لا يعلى فيه الإسلام : الإسلام الذي نجده في الكتاب والسنة وليس الإسلام الذي تغلب فيه السيف على القلم فسحب منا القيادة العالمية لنظل إلى اليوم في ذيل القافلة. الإسلام الذي وضع لنا سورة مكية كاملة سماها الشورى لتتكون الأمة على قوامها وتعمل متكافلة على قوامها فلا تظلم فيها أقلية ولا تستبد فيها أكثرية.
الاحتفاء مشروع لأنه دنيا وليس دينا ولو كان دينا مثل حرمة الخمر والخنزير لما اختلفنا فيه واختلافنا فيه لهو دليل على أنه دنيا لأن الناس يختلفون في الدنيا وليس في الدين. أما اختلافنا في فروع الدين فلا يسمى اختلافا في الدين لأن الدين الموقوف هو أصول ومعاقد ومعازم وكبائر وفرائض ومحكمات وراسخات وثابتات وقطعيات. ذلك يسمى اختلافا في التقدير والاجتهاد.
ولكن الاحتفاء غير مشروع عندما يكرس الاتجاهات الفكرية المعيقة للنهضة والثورة والكرامة والعدالة والوحدة والمقاومة. عندما ندعى إلى الإرتكاس إلى الجاهلية العقدية من جديد أو إلى نبذ العدالة والكرامة من جديد .. لا يسمى احتفاؤنا مشروعا ولكن يسمى عادة جاهلية وتقليدا عربيا خائبا علينا أن نتوب منه.
أجل. عندما يكون الاحتفاء خادما لقالة كارل ماركس فلا حاجة لنا باحتفاء يجعلنا ماركسيين.