مواقف وآراء

بقلم
عماد العبدلّي
لماذا الباجي قايد السبسي بالذات ؟ قراءة في بنية و سيكولوجية المعارضة التونسية

 مقدمة

 
بعد ان عرفت في المدة الاخيرة اسابيع متلاحقة من الاحتقان السياسي و"الاجتماعي" والامني، فإن تونس مقبلة في بداية هذه السنة الادارية الجديدة على جملة من التحديات الدستورية والسياسية والاجتماعية/الاقتصادية الهامة والمعقدة في سنة يفترض أن تشهد أول انتخابات تشريعية بعد الثورة تفرز برلمانا وحكومة جديدين لا ينسحب عليهما وصف الاستثنائي والمؤقت.
و قد ارتأينا، في محاولة منا لمواكبة هذه الاستحقاقــــــات الهامة أن نقدّم جملة من التحاليل المتتابعة لمكونات الطيف السياسي التونسي مبتدئين بالمعارضة التي هي بصدد تكثيف جهودهـــــــا من أجل التوحّد قبل الانتخابات القادمة وذلك درءا لنكسة انتخابية  جديدة قد تؤدي الى انفجار كل مكوناتها ودخولها في نفق لا نهاية له من تصفية الحسابات الشخصية والحزبية.
فبعد أن خاضت هذه المعارضة انتخابات 23 اكتوبر 2011 تحت أكثر من 100 لافتة حزبية، فإنها عملت و لا تزال منذ مدّة إلى دمج كياناتها الصغيرة في عديد الجبهات (الجبهة الشعبية/المسار/الحزب الجمهوري/ هذا فضلا عن اندماج عديد الأحزاب الصغيرة المنبثقة من رحم "التجمع الدستوري الديمقراطي" المنحل بقرار قضائـــي لن تطبق منه إلا الفقرات الأقل أهمية على ما يبــــدو). و قد أفرز هذا المخاض في نسخته الأخيرة (وقد تكون قبل الأخيرة وفق تقديرات أخرى) محاولة التوحد تحت كيان واحد أطلق عليه اسم "نداء تونس" الذي يترأسه الوزير الأول السابق، السيد الباجي قايد السبسي. 
و لقد تمكن هذا الحزب من "استقطاب" أغلبية وزراء الحكومة السابقة وما لا يقل عن 10 من نواب المجلس التأسيسي كانــــــوا قد ترشّحوا ضمن لافتات أخرى، هذا فضلا عن ضمه لعديد الهيئات والأحزاب التي "ورثت" "التجمع الدستوري الديمقراطي" المنحل، ومجموعة من الوجوه السياسية والثقافية والإعلامية التي تجمعها الرغبة في التصدي وحتى المواجهة مع الحكومـــــــة الحاليــــة التي تحكمها ترويكا يسيطـــــر عليهـــــا " حزب حركة النهضة" ذو الخلفية الإسلامية. 
و اذا كانت بعض الجبهات المذكورة (الجبهة الشعبية/المسار/الحزب الجمهوري) قد حافظت الى حد الان على استقلاليتهـــــــــا الحزبية و التنظيمية، فإنها قد اعتادت منذ مدة على أن تواكب بشكل شبه آلي أجندة وتحركات "نداء تونس" ودافعت دفاعا شديدا عن هذا "الحزب" الجديد ( خاصة من خلال رفض قانون تحصين الثورة الذي يهدف إلى منع "فلول" النظام السابق من التسلل من جديــد إلى سدة الحكم تحت مسميات جديدة)، كما قبلت بأن يندرج فعلها ضمن المسار العام الذي يرسمه صانعو القرار في" نداء تونس ".
كل هذه العوامل مجتمعة، اضافة إلى أخرى سنبلورها لاحقا، جعلت من هذه الجبهات المعارضة جبهات هامشية إلى الحد الذي جعل البعض يتنبأ بأنها ستذوب داخل منظومة "نداء تونس" أو أنها ستكتفي بأدوار ثانوية في إطار تنسيقية انتخابية كبرى سيتم العمل على تكوينها لخوض الانتخابات القادمة بأوفر ما يمكن من الحظوظ. 
ولأن هذا الخليط من الاحزاب والجبهات والأفراد يمتاز بفرادته وغرابته، فقد استوجب الأمر البحث عن شخصية سياسية بإمكانها ان تلمّ هذا الشتات  المعقّد (شكــــلا ومضمونــــا) وتقوده بالقدرة على "ارضاء" الجميع.
ويبدو أن الباجي قايد السبســــــي هو الشخــــص "الوحيد" القادر على لم هذا الشعث الذي لا يكاد يجتمع إلا على هدف واحد: اسقاط الحكومة الحالية حتى وإن كان ثمن ذلك تعطل التنمية واحتقان الأوضاع الأمنية ووضع البلاد ضمن مسار مجهـــول قــــد يفتح على بعض السيناريوهات "الانتحارية" الأكثر درامية. 
و لذلك كان السؤال الذي عنونّا به هذا التحليل: "لماذا الباجي قايد السبسي بالذات؟". 
 
في الحل "الوحيد" الممكن لوضع يكاد يكون ميؤوسا
 
يمثل "قايد السبسي"، و هو سياسي تونســــــي مخضــــرم يبلغ من العمر 86 سنة، جسر التواصل "الوحيد" بين مكونات هذه المعارضة بشقيها الرئيسيين (الشق الدستوري التجمعي والشقّ اليساري العلماني). فهو بالنسبة لمن يحلمون باستعادة الارث البورقيبي (الحزب الاشتراكي الدستوري) رفيق درب زعيمهم المؤله الحبيب بورقيبة والذي تقلّد معه عديد الوزارات والمناصب الهامة (وخاصة ادارة الأمن ووزارة الداخلية). كما أنهم يرون فيه نسخة مكررة لنفس مفردات الحكم والخطاب البورقيبيين (التركيز على قضية هيبة الدولة ضمن مقاربة تسبـــــق "الاستقــــرار" على الديمقراطية / النظرة "الأبوية" المتعالية للمجتمع/ الخطاب "الحكوي" السردي/ المنّ على الشعب بالتعليم و"تحرير" المرأة/...). و لذلك فإنهم يحلمون معه بالقدرة على طي صفحة "التجمع الدستوري الديمقراطي" وإحياء بعض جوانب الصورة "المضيئة" التي لا زال عديد التونسيين والتونسيــــات يملكونها عن حكم بورقيبة. 
أما بالنسبة للتجمعيين، فإن عشرات الأحزاب التـــــي أسســـــوها بعد الثورة لم تشفع لهم لدى الشعب ولم تمكنهم من احتلال موقع تحت الشمس كما يقال. فهم لا يزالون محل كل أنواع المتابعـــــات من قبل شباب الثورة وناشطي المجتمع المدني الذين لا يألون جهدا في التصدي لهم ومنعهم من النشاط وتطويقهم بمختلف انواع الشكاوى القضائية والاحتجاجات الميدانية، وذلك بالرغم من الاداء الضعيف جدا للحكومة الحالية في مجــــال العدالــــة الانتقاليــــة ... كما أن قانون "تحصين الثورة" الذي يستهدفهم بشكل مباشر سيؤدي في حال تبنيه الى حل الكثير من أحزابهم و تعريضهم لمتابعات قانونية و قضائية كبيرة. 
و عليه فإن انضمام هؤلاء التجمعيين إلى "نداء تونس" (الحاصل على تأشيرة قانونية تتحمّل فيها الحكومة الحالية مسؤولية كبيرة) هو أقصر الطرق للحفاظ على مصالحهــــم، مستفيديـــــن في ذلك إلى حاجة "نداء تونس" إلى "خبرتهم" بالدولة وتوازناتها وحضورهم القوي في الادارة التونسية التي لا زالت الى حد اليوم أحد بؤر الثورة المضادة في البلاد.
ولا خلاف في أن "الدساترة" (أتباع بورقيبة) والتجمعيين (أتباع بن علي) على استعداد لتأجيل خلافاتهم ( وما بينهم من ثار تاريخي ناجم عن "الاذلال" الذي عامل به بن علي ولي نعمته الحبيب بورقيبة) من أجل الدفاع عن "وجودهم" السياسي والمالي (هناك تداخل كبير لهم مع المال الفاسد)، والتقليص قدر الامكان من آثار الثورة على مصالحهم. إن هذا التخندق المشترك تحت مسمى "الارث البورقيبي" بكل استتباعاته الايديولوجية (العلمانية الاقصائية الاستئصالية على النمط البورقيبــــي التـــي أضاف إليها بن علي ضراوة الآلة القمعية) والسياسية (القول بأنهم الأعرف بالدولة والأقدر على قيادتها في ظل ما يظهر – ولكن يضخم قصدا-  من تخبطات الحكومة الحالية في هذا المجال) هو الذي يجعلنا ننظر اليهم كفصيل أو شقّ واحد. 
أما الشقّ الآخر المهيكل لحزب "نداء تونس" فهو الشق اليساري العلماني الذي أفقدته الثورة أقدارا كبرى من سيطرته السابقة (خاصة زمن حكم بن علي) على النخبة والتعليم والثقافة والاعلام ووضعته أمام حقيقة قاسية لم يكن يتخيّل يوما أن تكون بهذه الحدّة: وهي أن المجتمع التونسي (الذي عمل بورقيبة وبن علي جاهدين على قطعه عن جذوره التاريخية والحضارية وعمقه العربي الاسلامي) هو مجتمع عادت اليه حيوية التديّن (بكل مــــا يرافقها من اختلالات وتحديات في مثل هذه المراحل الانتقالية الحساسة) ولم تزده عقود التغريب القسري إلا حرصا على هويّته. فاليسار التونسي لا زال وسيظل يعاني من خلفيته الايديولوجية الاستئصالية ومعاداته المبدئية لكل ما يتصل بالتدين من قريب أو من بعيد لأنه حبيس قوالب فكرية مشبّعة بعهود الشيوعية الأولى والتبعية لليسار الفرنسي المعروف بعدائه المطلق للإسلام ونظرته الاستعمارية الاستعلائية. 
لقد عمل هؤلاء بقوة في صلب "لجان التفكير" للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل وفي التأطير الايديولوجي للآلة القمعية لبن علي (وهذه ظاهرة تاريخية خاصة جديرة بالاستقصاء المعمق)، وسيطروا كليّا على المجال الثقافي والإعلامي مما جعلهم بالمنظور الشعبي والتاريخي شركاء أصليين لبن علي في جرائمه بحق الشعب التونسي (جرائمه الأمنية والسياسية والمالية والتنموية). 
وعليه، فإنهم يخشون اليوم من فقد هذه الامتيـــــازات ويجــــدون في "المشترك العلماني" مع الباجي قايد السبسي المنفذ الوحيد والبوابة الخلفية للدفاع عن وجودهم ومصالحهم. 
وهناك ملاحظة هامة تسترعي الانتباه والتوقف ضمن هذا السياق وهي أن هذه "النخبة" اليسارية التي كانــــت مشاركــــــة (خاصة في دولة بن علي) لا تزال تربطها بالأحزاب اليسارية الأخرى (الجبهة الشعبية و المسار وحتى الجمهوري) علاقات تعاون وثيق وتوزيع "محكم" للأدوار. بل أن بعض رموزها البارزين في الإعلام (محسن مرزوق، خميس قسيلة، عياض بن عاشور، عبد العزيز المزوغي، الطاهر بن حسين، الخ) لا يخفون انتماءهم اليساري سياسيا وحتى حزبيا. كما أن لديهم علاقات وثيقة بالمركزية النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) التي اختـــــارت في الآونة الاخيرة أن تلعب دور المظلة السياسية الجامعة من خلال مبادرتها الفاشلة للحوار الوطني المشروط وتهديدها بشن اضـــراب عــــام سياسي لم تكن للمطلبية فيه أي حضور.
 ولقد أدى الفشل الذريع لهذه المغامرة النقابية غير المحسوبــة (التي سيكون لها على المدى القريـــب والمتوســـــط آثار كارثية على التوازنات الايديولوجية والجهوية والمالية للاتحاد) الى الرفع من أسهم حزب "نداء تونس" كمظلّة جامعة لكل الطيف السياسي والنقابي والإعلامي والمالي الذي يعارض حكومة يقودهــــا حزب ذو مرجعية اسلامية، و ذلك فـــي هــــــذه المرحلـــــة الفاصلــــة عن الانتخابات المقبلة، وتجعل من الباجي قايد السبسي الأمل الوحيد في تجميع هذا الخليط غير المتجانس من المسارات الحزبية والفردية شديدة التناقض.
 فالباجي قايد السبسي بإمكانه التعويل على"خبرته" بالدولة وقيادته "الناجحة" للمرحلة الانتقالية الثانية (ما بعد اعتصام القصبة الثاني) وصولا الى انتخابات 23 اكتوبر 2011 وعلاقاته "الوثيقة" (وثوق التابـــع الوفــــي وليـــس وثوق القائد الأمين على مصالح شعبه) بالخارج حيث تعمل عديد الدول وفي مقدمتها فرنسا على اعطائه مكانة وحضورا كبيرين كمخاطب مفضل واستقباله بصفة رسمية في تنقلاته العديدة إلى الخارج. 
إن هذه الميزات يفتقر إليها الاخرون داخل "نداء تونس" أو حوله (بقية الجبهات المعارضة التي اختارت أن تضبط ايقاع حركتها وفعلها على وقع ايقاع وحركة هذا الحزب).
فالتجمعيون / الدساترة، على معرفتهم الاكيدة بالدولة (التي هيمنوا على مفاصلها من خلال الاقصاء و تكميم الافواه) واستمرار فعلهم الظاهر والباطن فيها من خلال منظومـــــة الدولــة العميقة، هؤلاء لا أمل لرموزهم وقياداتهم في أن يتقبّلهم الشعب، تحت أي مسمى جديد، كحكام له بعد الثورة. 
أما فصائل اليسار المختلفة فهي تفتقر إلى هذه "الخبرة" العملية في إدارة الدولة (إلا في بعض ما يتصل بالثقافة والتعليم والإعلام) مما يفقدها احدى أهم الحجج التي تستعملها الآن ضد الحكومة الحالية بقيادة "حزب حركة النهضة" وهي قلة خبرتها بتسيير دواليب الدولة. 
كما أن "الكفاءة" الخطابية لقايد السبسي (عندما لا يتعلق الأمر بمناظرات مفتوحة لأنه لم يتعوّد عليها!!) تجعله الأقدر على تجميع قطاع واسع من المعارضين لأحزاب و حركات ما يعرف بالإسلام السياسي دون السقوط (الظاهر على الأقل) في خطيئــــة التعدي على المقدسات، أي تقديم خطاب علماني "معتدل" يشترك فيه الدساترة / التجمعيون مع أحزاب وتشكيلات اليسار المختلفة ويكون "الارث" البورقيبي الملمع الحامل الرئيسي لهذا المشروع للاعتبارات التي ورد تفصيلها آنفا. 
إن هذه التركيبة السياسية الفريدة هي التي تُفسّر نكوص الباجي قايد السبسي عن الوعد الذي قطعه على نفسه قبل انتخابات اكتوبر 2011 بتسليم الأمانة والانسحاب من الحياة السياسية. فهو فعلا "القائد" الوحيد الممكن لهذا الخليط الايديولوجي والسياسي العجيب. ولذلك يعمل الجميع على تلميع صورته وتقديمه في صورة "المنقذ" و"رجل المرحلة" و"رجل الدولة المهيب" الذي يملك بمفرده الوصفة القادرة على اخراج البلاد من أتون الصراعات الحالية وحالة الانسداد التي تلقي بظلال امنية واجتماعية عميقة على الواقع اليومي للمواطن التونسي.
ولقد برزت هذه الخطة عمليا في التسويق له داخليا وخارجيا بشكل "هوليودي" واحاطته بهالة اعلامية كبيرة من خلال ترتيب حوارات صحفية على "مقاسه" تمكنه من البروز بالشكل الأكثر بورقيبية في شخصيتــــه: الزعيــــــم الــذي يوجــــه ويعطي الحلول ويتعالى عن الصراعات.  ولأن بورقيبة لم يشارك يوما في منبر حواري لما كان عليه من تاليه نفسه وازدرائه لشعبه، فإن الباجي قايد السبسي يفضّل الحوارات الناعمة ويخشى المواجهة الاعلامية المباشــــرة مع السياسيين والاعلاميين الذين يدينون له بالولاء (وقد برز ذلك جليا في الارتباك الكبير الذي غلب عليه أثناء مشاركته في منازعة سياسية ساخنة ونادرة يوم 24 ديسمبر2012، وهي منازعة احدثت شرخا كبيرا في الهالة الاعلامية التي يحيط بها نفسه مع أنه، لحسن حظه، لم يكن حاضرا في الاستوديو و إلا لكان السقوط أكثر دويّا). 
فهل بإمكان السيد الباجي قايد السبسي أن يكون بحق قائد المعارضة الأوحد و"منقذ" الوطن؟ هذه هي فحوى السؤال الذي افتتحنا به هذه المقالة: لماذا الباجي قايد السبسي بالذات؟ 
إن جملة هذه العوامل "الايجابية" (التي ذكرناها سابقا والتي يبدو أنها تصب في مصلحته) لا يمكن أن تلغي تأثير عديد العوامل الأخرى التي تجعل من هذا الرهان خاسرا لا محالة.
فالسيد الباجي قايد السبسي لا يمكنه بسهولة، (ضمن المعطيات الجديدة لتونس ما بعد الثورة/ تونس الديمقراطية والمكاشفة رغم كل العقبات)، التجرد بسهولة من خدماته الجليلة للاستبداد الذي مثله الحزب الحاكم المنحل في نسختيه الدستورية والتجمعية. 
فقيادته لإدارة الأمن و لوزارتي الداخلية والدفاع في المراحل التي شهدت تصفية الحركة اليوسفية واغتيال زعيمها صالح بن يوسف، ستظل ملفا شائكا قد يجعله أقرب إلى تقضية أوقاته في الإجابــــة عن أسئلة القضاة منه الى الادعاء بمحاولة الاسهام في بناء المسار الانتقالي الديمقراطي في تونس. كما أن اتهام العديد من ضحاياه له بأنه كان مساهما فاعلا في ما يعرف بميليشيات "صباط الظلام" (حذاء الظلام) التي كانت اليد الطولى لبورقيبة في تصفية معارضيه والتنكيل بهم، إن هذه الاتهامات (التي يبدو أن بعضهـــا هو الآن من انظار القضاء) ستجعل من الصعب عليه اعطاء دروس في الديمقراطية وحقوق الانسان واتهام معارضيه، من الاسلاميين خاصة، بالتعدي عليها.
 هذا وقد تدعم رصيده المناوئ للحريات بجملة من الاجراءات الخطيرة التي تصب قضائيا في خيانة الدولة (اخفاء ملفات المحاسبة وإتلاف جزء من ملفات الدولة لحماية نفسه وشركائه وفق شهادات سياسية وأمنية متطابقة وتستره على ملف القناصة إبان أيام الثورة وإصداره لعديد المراسيم اللادستورية ومنها مرسوم 22 اكتوبر 2011 (أي قبل يوم واحد من الانتخابات) لتنقيح الفصل 10 من المجلة الجنائية والفصل 5 من مجلة الاجراءات الجزائية بما يؤدي الى اسقـــاط عقوبـــــة التعذيب بعد 15 سنـــة في مخافة صريحة للمواثيق الدولية التي يتهم غيره بالتعدي عليها، قيامه بتعيينات واسعة لصالح التجمعيين مع إرهاق خزينة الدولة، امضاءه لاتفاقيات أمنية و دفاعية تهدد استقلال الدولة، الخ). 
كما أن استمراره في الدفاع الاعمى عن التجربة البورقيبية (كرأسمال رمزي وحيد لفعله السياسي) وذلك إلى الحد الذي جعله يقر بتزييف الانتخابات بحجة أن الشعب كان وراء بورقيبة (!!!) مستعملا في ذلك نفس الخطاب الأبوي المتعالـــــي، أن هذا الدفاع لن يسعفه بتحسين صورته لأنه يواجه الآن مجتمعا متعلما شابا متحررا من الخوف في حين كان بورقيبة يقود شعبا تغلب عليه الأمية والانقطاع عن أحوال الشعوب الأخرى وتجاربهم.
 كما أن من فضائل التحول الذي أفرزته الثورة أن بعض الألسنــــة قد حلت عقدتها وبدأت تكشف للشعب  صورة مغايرة عن بورقيبة (قوامها ولاءاته المشبوهة للخارج والاحتمالات الكبرى لثبوت تورطه في اغتيال الرمز النقابي فرحات حشاد وقصص فساده الاخلاقي في القصر مع القاصرات بشهادة العديد من وزرائه والمقربين منه كرئيس جهاز أمنه الرئاسي، هذا فضلا عن تاريخه الدموي في قمع مختلف أطياف المعارضة والتحركات الشعبية والنقابية، الخ). 
أما علاقته بالرئيــــس المخلـــــــوع الهارب فهي لا تخلو بدورها من الاشكالات الناجمة عن تحمله مسؤوليات مهمة في خدمة هذا الطاغية، وخاصة منها ترأسه للبرلمان الذي كان مؤسسة صورية دون روح، دورها الوحيد تبرير السياسات المختلفة أمنيا وسياسيا واقتصاديا والتي انكشفت بعد الثورة عن تحوّل "المعجزة الاقتصادية" إلى صور من التخلف التي لم يكن أحد يتصور أنها كانت بذلك الحجم لنجاح بن علي في اخفاء الحقيقة عبر القمع وشراء الضمائر وإتقان لعبة الفزّاعــــات لمنـــــع تشكل أي بديل عن حكمه. 
وما من شك في نظري في أن انقطاع حبل الود بينه وبين بن علي يتصل اكثر بتعامل هذا الاخير "المهين" مع بورقيبة، وخاصة بروز استقطابات جديدة في بطانة الرئيس المخلوع لم يجد الباجي قايد السبسي (بحكم مرجعيته البورقيبية وعمره المتقدم) مكانا داخلها والقدرة على مجاراتها فاثر الانسحاب الى حين ...
و اخيرا، فان ادارة الباجي قايد السبسي للمرحلة الانتقالية الثانية (من بعد اعتصام القصبة 2 الى انتخابات اكتوبر 2011) لا تكفي لإسعاف طموحه السياسي اللامحدود كما وصفه بدقة الصحفي الصافي سعيد كأحد اهم العوامل المهيكلة لشخصيته النرجسية والمتمسكة بأهداب الحكم الى ما لا نهاية. 
فالحكومة التي ادارها، و التي ادعى انها مكونة من الكفاءات غير الحزبية، لم تفلح في تحدي التنمية برغم توفرها على مناخ اجتماعي اقل توترا مما تعاني منه الحكومة الحالية (حيث غادرت الحكم بنسبة نمو سلبية بنقطتين و نصف النقطة تحـــت الصفـــر). كما ان الوزراء المكونين لها سرعان ما تحولوا بسرعة قياسيـــة الى فصيل سياسي معلن بمجرد تسلم الحكومة المنتخبة لمهامها (في مشهد هو بدوره الان من انظار القضاء لتورط السيد الباجي قايد السبسي في تسريب فحوى جلسة التسليم بينه وبين الوزير الاول السيد حمادي الجبالي، مما يشكل استخفافا كبيرا بالمؤسسات من قبل "رجل الدولة المهيب"). وعندما نرى اليوم الخطاب والدور الذي يلعبه هؤلاء الوزراء في تغذية الاحتقان السياسي والاجتماعي و الامني و الاستقواء بالخارج، ندرك جيدا ان السيد الباجي قايد السبسي فشل في امتحان النزاهة الذي طالما جعل مكنه شعارا لحكمه وأكّد بما لا يدع مجالا للشك أنه إنما كان يوظف الدولة لخدمة مشروع ايديولوجي سياسي كان في طور التشكل ووجد اليوم تعبيرته المباشرة في حزب "نداء تونس".  
كما أن الوصول بتونس الى انتخابات اكتوبر 2011، وإن كان بذاته انجازا مهما، فانه يحتاج الى تدقيق وتمحيص، ذلك أن عديد المؤشرات ترجح أن الوزير الاول السابق قد عمل كل ما في وسعه للتصرف بحسب المستطاع في نتائج الانتخابات (التي تأخر كثيرا الاعلان عن نتائجها) قبل ان يضطر تحت ضغط الشعب والمجتمع المدني إلى إعلانها بعد أن تسرّبت عديد السيناريوهات المحتملة لتزوير الانتخابات لمنع تصدر النهضة للمشهد الانتخابي. 
إن الجميع يعرف، ولكن القليل فقط يصرح، بأن انتخابات اكتوبر 2011 كانت نزيهة نسبيا في نتائجها (بحكـــــم التأخيــــر الكبيـــر في الاعلان عن نتائجها برغم الامكانات المالية الهائلة المرصودة مما يبرر أكثر من شك و أكثر من سؤال)، ولكنها لم تكن بالمرة نزيهة في المسار الذي أدى إليها و الذي يتميز خاصة باعتماد قانون انتخابي فريد من نوعه كان الهدف "المعلن" منه بحسب واضعه تحجيم "حزب حركة النهضة"، وكون هذا القانون الانتخابي ادى في المحصلة الى نتائج متداخلة سياسيــــا لا زالت الى اليوم تلقي بظلالها على هيبة المؤسسات المنتخبة واستقرارها (الرئاسة، المجلس التأسيسي، الاجندة الدستورية المتعثرة، الحكومة غير المتجانسة، الخ). 
إن هذه العوامل جميعها تجعل المعارضة التونسية الحالية في وضع لا يحسد عليه، رغم الصورة المغايرة التـــــي يعطيهـــــا الاعــــلام عن حجمها. ذلك انه يتعين عليها ان تجمع تحت سقف واحد خليطا هجينا شديد التعقيد من الناحيتين الايديولوجيــــة والسياسيــــــة، هذا فضلا عن التجاذبات الشخصية التي هي المشترك العام بين كل الاحزاب السياسية في تونس.  كما ان على هذه المعارضة ان تهب زمامها لشخصية مخضرمة، متقدمة في السن، تجرّ وراءها إرثا تاريخيا يطغى عليه السواد والحلكة، ولا تتردد في لعبة التواطـــؤ مع "الدولة العميقة" وفلول النظام السابق مراودة الامل في تحقيق مردود انتخابي ينسيها نكسة اكتوبر 2011.
إنها تستفيد ولا شك من الاخطاء المتكررة و"البدائية" أحيانا لحكومة الترويكا وترددها في فتح ملفات الفساد والعدالة الانتقالية الحقة (وليس التجميلية) وعدم قدرتها علـــــى الاقنــــاع، ولكنهــــا لا تستطيع أن تتجاوز وظيفة "المتتبع للعثرات" لتصبح معارضة أصيلة ذات برامج حقيقية تتفاعل مع التركيبة الثقافية والاجتماعية والنفسية لتونس ما بعد الثورة ولا تعمل على الغاءها أو التعسف عليها تحت وقع المقاربات "السوفياتية" الجامدة لليسار التونسي الذي لا يزال ايديولوجيا يعيش في اواسط القرن الماضي، أو الحنين الى الماضي اللاديمقراطي لبورقيبة.
 كما ان التلاسن الذي حصل اخيرا بيــــن رمــــوز المعارضـــــــة بعد استهزاء السيد الباجي قايد السبسي بشركائه و تحقيره الواضح لهم (الجمهوري والمسار والجبهة الشعبية) وتصريحه بأن هذه الاحزاب ضعيفة مقارنة ب"نداء تونس" لهو الدليـــــــل القاطـــــع على ان المعارضة  لا تمتلك الا مشتركا سياسيا ظرفيا (وهو اسقاط الحكومة التي تقودها النهضة بكل الاثمان) ومشتركا ايديولوجيا يتقاطع عند "الإرث" البورقيبي في محاولة لجمع ما لا يجمع ...
كما أن الاخبار تتواتر وتتأكد عن التجاذبات الداخلية الخطيرة داخل حزب "نداء توتس" بين عديد الاسماء والشخصيات التي لا تختلف في البرامج  والرؤى وإنما في تصادم طموحاتها الشخصية في اطار معركة معلنة لخلافة الباجي قايد السبسي، الذي يؤكد بذلك انه يستنسخ تجربة بورقيبة ونرجسيته في كل تفاصيلهــــا بما في ذلك ان تصبح خلافته اهم من التعامل معه ... فهو المنقذ ولا شك لهذا الخليط الهجين و لكنه ايضا الجسر الذي يريد كل منهــــم ان يعبـــــر من خلاله الى تصدر المعارضة و قيادتها ... 
إن وجود معارضة بكل هذه التناقضات قد يرضــــي الحاكــــم ولكنه لا يخدم مسار بناء ديمقراطية ناشئة. 
 إن هذه الخلاصة لا تأتي للتهوين من الدور المستقبلي لحزب "نداء تونس" الذي بإمكانه، في نظري، أن يُحدث مفاجأة انتخابية ليس من خلال برامجه ولا من خلال السمعة الطيبة لقيادييه (فأغلبهم متابعون في قضايا أخلاقية ومالية، هذا فضلا عن ملفات تواطؤهم مع الديكتاتورية)، وإنما بالاستفادة من حالة الاحباط العام التي يعمل هذا الحزب، بدعم من فرنسا خاصة، على اشاعتها وعملية الهرسلة المنهجية للنهضة لإفقادها ثقة الشعب واظهارها في مظهر الحزب العاجز على الاستمرار في قيادة المرحلة. ولعمري، فإن السياسة الحالية للترويكا، والنهضة من ورائهــــا، لهــــي أحسن الورقات التي تخدم بها النهضة، من حيث تشعر أو لا تشعر، مشروع الباجي قايد السبسي في التمكين لشخوص وعقلية وآليات الثورة المضادة. 
فالنهضة على ما يبدو لها قناعة خاطئة بأن هذه هي فرصتها الأولى والاخيرة لحكم البلاد (باعتبار كل التهديدات والمزايدات وأيضا أقدارا كبرى من التوهمات لقيادتها التي لا تريد أن تقرأ التاريخ بأدوات جديدة) ولذلك تعمل خطأ على الحفاظ على الحكم بأية وسيلة وإن استدعى ذلك أن تقوم بتنازلات مؤثرة للجيش والمافيا المالية والاخطبوط الفرنسي في تونس (الذي يمثل "نداء تونس" الاطار الجامع لأغلب مكوناته). 
إن هذه هي المعادلة التي إن استمرت ستجعل من عودة الدساترة/التجمعيين الى الحكم ممكنة عبر بوابة "نداء تونس" (أو نسخته المطورة في "الاتحاد من اجل تونس) التي قد تفرض نفسها على حركة النهضة كشريك قادم في الحكم.