رسالة العراق

بقلم
نعمه العبادي
معرقلات التحول الديمقراطي في العراق

    إن المعرقلات التي تقف بوجه التحول الديمقراطي في العراق يمكن أن أجملها في آلاتي : 

(1) -  تأصل ثـقافة الاستبداد:

 فالشعب العراقي بكل مكوناته تشكل ثقافته وعقليته مجموعة روافد أبرزها الرافد الديني والاجتماعي والعشائري وهذه الروافد الثلاثة مبتلاة بتأريخ طويل من الاستبداد في مجال ممارسة الحكم واحتكار السلطة والعمل بالنظام الوراثي وقمع الرأي الآخر وتحكيم رأي القوي . فالفرد في الأسرة والمدرســـــة والشــــارع، في الحاضر وعند النكوص إلى الماضي يغرق بتيارات متلاطمة من الممارسة الاستبدادية ؛ بل والفكر المقـنن لهذه الممارسة . ويحتاج هذا المعوق إلى ممارسة نقدية جادة تتجاوز إطلاق الشتائم أو توصيفات الانتقاص وتبادل العبارات ذات النعوت السيئة، وتغور في أعماق المكون الفكري والثقافــــي العراقــــي، (وأنا أدعو وبإلحاح لقراءة العقل العراقي، قراءة موسعة وتحليلية)، وفحص المفاهيم المكونة لمنظومته الضابطة للسلوك، وما هي التصورات التي تأسست عليها تلك المفاهيم، كما تقوم بفك التشابك المعقد والخفي بين الروافد المتباينـــة فــــي عمليـــة انزيـــاح غير مرئية، وإعادة خصوصيات كل رافد إلى حيزها، حتى يتم محاكمتها في ظل جوّها الخاص. فمن الخطر أن تحكم على منتج عشائري في سياقات دينية وهكذا. ولكن أن تكون العملية واعية وحذرة ولا تأتي معبئة بمفاهيم ورؤى مناهضة أو موافقة بتحيز إلى مكون دون آخر، بحيث تقع بنفس الداء الذي تريد معالجته، فتكون من باب (إصلاح المفسد) . وهذه الممارسة النقدية ينبغي أن تنطلق من فضــــاء مؤسساتـــــي، وفي ظروف واضحة، وتحاول قدر الامكان توسيع دائرة الشراكة فيها، حتى تكسب مديـــــات واسعــــة في التأييد وبالتالي يتم تبني نتائجها. ومن المهـم أيضا ً ألا ّ تـغـفـل التجارب النقدية الناجحة في العالم شريطة أن تراعي الخصوصية العراقية على مستوى الأدوات والمنهج. 

(2) - الشعور بتهديد المقدس

 إن وجود المقدس حالة ملازمـــة للوجود الإنساني وهي تتصل بالتركيبة البشرية التي خـُـلِـق الإنسان عليها. ووجود هذه الخاصيّة يتّصل بالأهداف العليا للوجود الإنساني، ولا مجال لتفصيل هذا الموضوع هنا. وما الاختلاف بين الناس إلا في سعة دائرة المقدس وضوابط التقديس وحدود التعاطي معه. ويجـتمع كل بني البشر على الممانعة من اجل الحفاظ على مقدسها، ما زال في ذهنيتها مقدسا ً، بغض النظر عن حقيقة هذا المقدس. وعملية التغيير المزعومة تـلوح بتجاوزها لأكثر من مقدس في الذهنية العامة، وهذا ليس نحو من الوهم، فالخطاب الناطق باسم عملية التغيير هذه، كثيرا ما يتـناول المقدس بالاستهانة والنعوت السيئة ويعلن حربه الشعواء عليه ويجعل من أهدافه الرئيسية تغيير ذلك المقدس. وهذا بالتأكيد سيستـنـفـر حالة الدفاع والاستعصاء بوجه عملية التغيير. من هنا ينبغي أن تقوم الجهات الفاعلة في عملية التغيير بدراسة موقع المقدس في الذهنية العراقية، والبحث في خصوصيات كل مكوّن ونوع المقدس وسعته وأسباب التقديس ومساحة المناقشة والاعتراض والتصحيح في ساحته، وإخصاب حوار واع يلامس الأشياء برفق ويتجرد عن التعنت والانغلاق والمقاطعة ويسترسل مخلصـــــا ً مـــن اجل الوصول إلى الحقيقة. ولابد في مثل هذا الأمر أن نلاحظ الظروف والأجواء التي تحيط عملية الحوار هذه، فان لها دخالة كبيرة فـــي إنجاحـــه، فلا يمكن لجهة أن تتعامل مع حوار على انه بريء وموضوعي وباحث عن الحقيقة يكون الطرف فيه قوة قد حققت الغلبة عليها في ساحة النزال ورفعت راية الانتصار وقادتها قهرا ً إلى طاولة الحوار والتباحث . 

(3) -  خفاء الدوافع

 الإنسان كائن معقد وهو اكبر من أن نصفه بجبل الثلج . فله القدرة العالية على التلون والتدليس وإظهار عكس ما يستبطن. ولا نريد هنا أن نناقش مـــرض النفـــــاق أو فكـــرة ازدواجية الشخصية التي طرحها الباحث الاجتماعي الدكتور علي الوردي. وإنما نريد الإشارة إلى أن إخفاء الدافع الحقيقــــــي، خلف دافع معلن مختلف، هي ممارسة واسعة وموجودة على طول الإنسانية. وتكمن المشكلة في التعامل مع هذا الدافع المعلن على انه المطلب الحقيقي، فـتـتـرتب نتائج لا تصيب كبد الحقيقة. وفي مجال مواجهة حالة التغيير، أضرب مثلا لخفاء الدافع، بالمعارضة المكية التي واجهت الرسول (ص) وهي ترفع شعار حماية دينها والانتصار لألهتها، ولكنها بالحقيقة تخفي دوافع اقتصادية تتعلق بالحصول على السلطة ومكاسبها، وهذا الذي حدى بالنبي (ص) وبأمر من الله تعالى لنقل الدعوة إلى مجتمع آخر وأرضية أخرى، وبقيت تلك الدوافع الخفية كامنة، حتى بعد التحاقها بالإسلام قهرا ً بعد فتح مكة. وما أن جاءتها الفرصة الموآتية حتى قفزت إلى سدة الحكم لتحول الخلافة إلى ملك عضوض وموردا ً اقتصاديا ً ضخما ً، أخرج الرسالة الإسلامية عن أهدافها الإلهية السامية وحولها إلى ممارسة سلطوية في ظل الأمويين والعباسيين ومن سار علــــــى نهجهم. واليــــوم في العراق تختـفي دوافع حقيقية، خلف دوافع معلنة من مثل مواجهة الاحتلال أو الشعور الوطني أو قضايا أخرى، ولم تنجح الحكومات التي تعاقبت خلال الفترة الماضية على فهم هذا اللغز والتعامل معه بشكل دقيق، مما جاء بالنتائج السيئة . 

(4) - نقص القيادة الواعية المنظمة

 صحيح إن عملية التغيير هي حالة تتفاعل فيها جميع المكونات وتتحرك على مساحة واسعة، ولكنها ينبغي أن تسير على بصيرة من أمرها وعبر منهج منتظم وتحت إشراف حكيم ونزيه. وهذا يتطلب قيادات واعية تدرك ضرورة التغيير وتؤمن به وتخطط له وتشرف عليه وتضحي من اجله، قد استوعبت سنن التغيير وخبرت تجارب الشعوب وآمنت بقـــدرات شعبهـــا وهي قيادات استـثـنائية بكل ما تحمل الكلمة. والواقع يشهد بالشحّة الصّارخة لمثل هكذا نماذج. وقد يتوفر لدى البعض جوانب  من الاشتراطات التي ذكرناها، ولكنها تـفـتـقـد إلى جوانب أخرى. وهذا يمكن تلافيه عندما تعترف به تلك القيادات وتعمل على تكامل نفسها مع قيادات أخرى، بحيث يكون العمل ضمن فريق قيادي، يوزع الأدوار والمسؤوليات. ولكن دون تحقيق ذلك عقبة الرغبة بالتفرد أو التعالي على النقص وعدم الاعتراف ودعوى الكمال وعدم القدرة على الانسجام ضمن عمل القيادة المشتركة. وبمناسبــــة الحديـــث عن موضوع القيادات، نود الإشارة إلى أمــــر مهـــم في هذا الجانب، وهو فتح المجال للقيادة أمام الدماء الشابة والقدرات الطموحة، فمن خلال ملاحظة الواقع لكل مكوناتـنا السياسية والشعبية والدينية، يوجد العديد ممن يمكن أن تكتمل عندهم أكثر الشرائط القيادية، ولكنهم غائبون أو مغـيـبون من قيادات عليا، لا تريد للآخرين أن يزحفوا إلى محلها، وهذا الحديث طويل الذيل، يحتاج إلى وقفة كبيرة لمناقشته والوقوف عنده . 

(5) -  التفاوت الصارخ

في تحديد الأولويات والأهميات:

 لما كانت عملية التغيير كبيرة وواسعة الطرف، فأنها تحتاج إلى المرحلية ومنهج تقديم الأهميــــات، حتـــى لا تستغرق الفعاليات في قضايا على حســــاب أخرى، أو في قضايا جانبية مع إهمال المهـــم . والانطـــلاق إلى أولويات محددة بشكل جماعي، يتطلب وجود إجماع مقبول على جملةِ أولويات وقائمة أهميّات. ويأتي هذا من تقارب التصورات وإدراك إشكاليات الواقع بنفس العمق أو بشكل متقارب، والتعاطي معها بمقدار من التجرد دون أن تسقط عليها أو تحملها بمحددات مصالحها الخاصة أو مسبقاتها المكونة وفق أفق ٍ معين. صحيح إن إدراك وتحديـــــد الأولويـــات هو نتاج فكري إنساني، وبالتالي فان التفاوت فيه حالة طبيعية، ولكن هذا لا يمنع من وجود الوفاق، خصوصا ً بشأن القضايا ذات اللون الساطع، الواضحة التأثير العامة في آثارها، فهل يختلف اثـنان على أولوية مكافحة الجهل والفقر ؟؟ 

    اعتقد إن التفكيــــر ومناقشــــة الأمور على شكل جزر متباعدة من شأنه أن يباين الأولويات، لذلك نحتاج إلى أكثر من جغرافيا للتفكير المشترك، وإقامة حلقـــات النقـــــــاش المتنوعة الأطراف في سبيل تحديد قائمة أولويات واحدة، يعمل بها جميع الفرقاء المنضمين لتلك الحلقات. طبعا ً ينبغي أن يتم ذلك ضمن جدية ورغبة أكيدة للعمل وليس لتلميع الصورة والظهور بمظهر المتعاون والمحترم لآراء الآخرين، فتصبح اللقاءات، اجتماعات مجاملة، تكتب مقرراتها ثم تـُـلقى في سلة المهملات. 

(6) -  الشعور بعدم الجدوى

 إن من أعظم العقبات التي كسرت ظهر الرسالييـــن والمناضلين، هي اليأس وبُعد النتائج والتي تتجسد في إحباط يأزم العاملين ويشل طاقاتهم، فتضحى هامدة لا حراك لها. والتغيير يحتاج إلى حشد واسع يتواصل مع كل مراحله ويتابع جميع خطواته. وهذا لا يتحقق إلاّ من خلال القـناعة الراسخة بجدوى العمل الذي يقبلون عليه وحقيقة النتائج التي يحققها. 

ومن أعظم المشاكل في عملية التغيير والإصلاح، وجود مئات المشاريع والدعوات التي تم رفعها بهذا الاتجاه، ثم تؤول إلى الفشل والانتكاس لأسباب لا مجال لذكرها، أو تنتهي إلى صفقة مكاسب لطبقة محددة ثم يُحرم منها جميع الذين شاركـــــوا فــــي صنعهــــا. لذا نلاحظ تكرار كلمة (ما فائدة العمل؟ أو لمن نعمل؟ أو لا يمكن النجاح!!) وغيرها من عبارات اليأس وعدم القناعة بجدوى العمل. 

وهذه الظاهرة، تكاد تستـفحل في المجتمع وخطورتها تكمن في أنها تؤدي إلى حالة تأقلم وقبول للأمر الواقع مهما كــــان مريرا ً، وهذا ما حصل أيام النظام السابق. وقد تتطور الأزمة ويتحول الإحساس بعدم الجدوى إلى مشروع مواجهة لأي عملية تغيير بحجة إن ذلك يقلقل الأمور ويثير الاضطرابات وإنهم تأقلموا مع الواقع وقبلوه وصاروا يدافعون عنه . 

هذا الإشكالية، لا يزيلها إلا المشروع الصادق، واضح النتائج، وواقعي الرؤية يؤكد كثيرا ًعلى المكاسب الحسية الملحوظة للعامة، ويوصل نتائج النجاح إلى كل المشاركين في صنعــــه بالتســـــاوي وفي نفس اللحظة. ويوازي ذلك إشاعة ثقافة الصبر والصمود والتحدي والنظر إلى البعيد وإدراك سنن التغيير وما يتطلبه الفعل الاجتماعي من استحقاقات زمنية ومادية. 

————-