بهدوء

بقلم
طه كعنيش
تونس بعد عامين من واقعة 14 جانفي 2011 تقييم المرحلة بمؤشرات التغيير الثوري

 لم تكن جمهرة الشعب في تونس المشارك في احتجاجات ديسمبر 2010 و جانفي 2011  مؤطرة لتحقيق البديل الفكري الاقتصادي الثقافي والحضاري فطبيعة الاحتجاجات في شعاراتها سياسية اجتماعية لفكّ طوق الاستبداد المسلّط على قوت الناس ومعاشهم (خبز حرية كرامة وطنية - الشغل استحقاق) وكانت المطالبة بإسقاط النظام معنى عفويا لم يتزامن مع بناء معالــــم البديــــل. ولئن كان دخول الحقوقيين والمناضلين .. صمام أمان من الانزلاق نحو التقتيل الشامل أو الحرب الأهلية فإنّ معظم السّاسة لم يشترطوا التغيير الجذري ورضوا بالوجوه المناهضة لمبدأ التغيير الكامل (المبزع، السبسي...) وقبلوا بالرموز السابقة لإدارة مرحلة ما قبل انتخابات 2011 فظلّت أجهزة الدولة على ولائها للمنظومة القديمة ليعاد إنتاج التجمع من جديد وتعود  معالـــــــم العهــــد النوفمبــــري من أسوار الأحزاب المفرّخة ويظهر المفسدون في ثوب الثوريين الجـــــدد. 

هذه المقالة محاولة للحفر في الذاكرة القريبة المدى لتقييم خطى الثورة في عيدها الثاني، برسم مؤشرات للتغيير الثوري تكون بمثابة نقاط استدلال لاستحقاقات المراحل القادمة والخيارات المستقبلية.
 
المؤشر الأوّل للتغيير الثوري
 
هو القطع الكلي والبات مع الإرث البائس من الماضي. القطع بعدم القبول بمن خانوا وهم في طريقهم إلى الإفلات من العقوبة قادة للنّاس القطع برفض "المرتزقة" من المداحين والكذابين والارهابيين المتمترسين بشركات المحاماة ومقاولات المال الفاسد. من الظهور في وسائل الإعلام ومزاولة دجلهم على الرأي العام القطع مع البوليـــس السياسي الفائق التنظيم  في تحويل المظاهرات و الاحتجاجات السلمية إلى حالة احتقان دائم بشهداء وضحايا جدد وتحت عناوين مختلفة ..القطع مع سياسة المراوغة وأفانين الاستخفاف بالشعب من اجل تحقيق المآرب الذاتية على حساب حقوق المجموعة الوطنية ..القطع مع المافيا الصهيونية التي تعمل ضدّ الدولة ولفائدة رموزها.. 
القطع الصارم بالماضي لتحقيق هذا المعنى الذي افتقدناه كان ينبغي أن يتمّ بتقويض المنظومة من أسسها بحلّ البوليس السياسي فعليا لا صوريا واستكمال مرحلة الهدم لا الانشغال بنوبة الأحزاب المزهوّة ببرامجها وبالانتخابات لتأسيس دستور جديد. كان الأولى النزول عند طلبات الشارع الموتور لا تحوير الأشكال والقبول بالحكومة الانتقالية للسبسي إذ كانت هذه الحكومة امتدادا للفترة السابقة لا نقيضا لهـــــــا ولعلّ خطأ السياسييــــــن في تونس أنهم لم يتشبثوا، بإسقاط  محاولات الالتفاف، ولم يعملوا على تصنيف بقايا النظام القديم بشكل صحيح إلى عدة تصنيفات،( عناصر موجودة مع النظام القديم بحكم المهنة، عناصر لـــــم تنغمس معه في أي عمل فاسد مشترك، عناصر مقربة ومنتفعة، عناصر ارتبطت مصالحهم باستمرار المنظومة... ) في لحظة كان الشعب يرفع فيها شعار " ارحل" في وجه "الأكابر" قبل "الأصاغر"..
 
المؤشر الثاني للتغيير الثوري
 
 هو تواصل اليقظة الدائبة بشلّ حالة الوجوم والتردد التي تفضي للمباهاة بالإنجازات الواهية أو السكوت عن التجــــاوزات والدّوس عن أعراض الشرفاء وتوسيد الأمر لغير أهله. إنّ الميل للانتشاء بفوز ظرفي والركون إلى السهولة في معالجة وضع متأزم  والضعف تجاه إكراهات قوى الجذب إلى الخلف مع التعلل بكسب الوقت رهان  يخدم تلك القوى ولا يؤصّل مطالب الثورة. وأرى أنّه لتحقيق عنصر اليقظة من الضروري الاستئناس بآراء الوجوه المناضلة من الشخصيات الاعتباريــــة وجماعــــات الضغط لتشديد الخناق على بؤر الفساد لا التعويل على السياسيين الذين تموضعوا في الحكم و كبّلوا تحركاتهم بمنظومـــة قانونيــــة معطلـــــة للإنجاز و معالجة القضايا العالقة والخطيرة، فإنّما يطرق الحديد وهو ساخن وإلاّ تتحقق تنافي الفعل مع الثورة و ضياعها وخراب البلد تحت سعير دورة الصراع  المرتقب بين الوطنيين من اسلاميين وقوميين ويساريين ..وبين الفاسدين مهما كانت رايتهــــم. ســــوف يكــــون من المفيد في هذه المرحلة استنفار اليقظة إلى مداها الأبعد بالإبقاء على رابطات حراسة الثورة لا المطالبة بحلّها وتصفيتها فالدولة الخفية  يضيرها أن ترى تكاتف أطياف الشعب للدفاع عن كرامته وحريته، و أرى هنا تفعيل كافة آليات الشحن والتحفيز لضمان استمرار الطاقة الإبداعية الفعالة للعمل والصدع بالحقّ وتفعيل المشاركة المجتمعية في كل من عمليات الإدارة والرقابة وبشكل حقيقي لا مظهري مبتذل.
  
المؤشر الثالث للتغيير الثوري:
 
 الارتكاز على مكونات المجتمع المدني لئلاّ تحصــــل حالــــة تراخ و فتور وأن تستمر حالة  التحشيد الجماعي الملتزم، والملاحقة الفاعلة الشاملة  لمخلفات الإرث الملغم والتصدي للمؤامرات الخارجية التي تعمل على دعم الفلول بقوة وفعالية..  ففي الحالة التونسية تفرق الناس في البلاد إلى أحزاب كثيرة وجمعيات بعضها مستلب الفعل وأخرى مخترقة و شبكات متـشظّــية  وأغلب تلك الهياكل ضعيفة البنيان يسودها الاختلاف  ولذلك سريعا ما  خمد  وهجها في أشهر ممّا فوّت التركيز  على الهدف الجوهري وهو بناء رؤية واضحة ومتفق عليها للوضع الأمثل الذي نسعى للوصول إليه.. 
ما نلحظه هو الميل الجماعي إلى التحفّظ والحذر والاكتفاء بالردود الغاضبة ومشاعر الاستياء مما سينزع  فتيل الإيجابية فى مجالات متعددة ويجرّئ أهل الإفك على توهين الناس بنشر الأكاذيب وقلب المفاهيم. ولعله بحكم عامل الزمن أن تزول تدريجياً حالة الرفض النفسى الدّاخلى للفساد، خاصّة إذا كانت دوائر الحكم غير واثقــة من انقياد  المؤسسات لمباشرة مهام الإصلاح بإرادة وحزم . لذلك لا بدّ من حمل من اختارهم الشعب لتنفيذ استحقاقات الثورة  ألاّ يكونوا مثبطين بل مصممين على تثوير مختلف أوجه الحياة السياسة ، بالضغط والنقد والدعم والتّصدي للأساليب، العديمة الجدوى في البناء والتطوير. 
 
المؤشر الرابع للتغيير الثوري
 
 هو جذرية التصوّر والتّحرك في الميادين بالبعد عن ارتجال المواقف و عشوائية التصرف وصوغ أهداف بعيدة الأثر في نتائجها كالارتكاز في تحليل القضايا وبناء الحلول على سبر أهمية البعد المغاربي والقومي لا القطري فحسب وأن نستشعر عمق  التحولات في المنطقة في خضمّ الأطماع الخارجية، وبنية العلاقات الدولية وحالة اهتزاز الأمن الإقليمي وعدم  استقرار الوضع  الاقتصادي العالمي. وإلآّ فما عسى أن يصنع التونسيّون بثورة تأسر اهتماماتهم في المطالب الآنية الضّيّقة  والرؤية غير المكتملة للصعيد السياسي  و الاقتصادي و الاجتماعي وماذا سيصنع العرب بثورة قصر ساستها ومنظروها عن تمعّن  حقيقة الارتباط الجيواستراتيجى بين قضايا البلد ووضع المنطقة ومحددات التنمية والعراقيل التي تضعها القوى المتصهينة لإفشال التجربة فلا بدّ من وجوه سياسة تبنى الرؤى وأخرى تعمّق الطرح و تعبّد الطريق وأخرى ضاغطة للحدّ من الدعم الغربي للفلول إذ ان هذا الدعم لن يستمر الى ما لانهاية  و إذا استمرّ الى زمن، فلا بدّ أن يحسم لأحد الطرفين فعلى قوى الثورة أن لا تنزع إلى المعارك السطحيّة وأن تفهم هشاشة الوضع وأن تعمل على تغيير قواعد انتشارها وتحالفاتهما حسب تطور الظروف والمصالح وأن تعدّد واجهات المقاومة حيث لحظة الحسم الفعلي لم تفرق بعد.
 
المؤشر الخامس للتغيير الثوري
 
 هو استناد قوى الثورة إلى الشعب بكلّ شرائحه لا الازدراء به أو تضليله عن فهم ما يجري أو إلهائه بالسفاسف و صرفه عن التنبه لأمهات القضايا في الفكر أو جبهة الفعل  أو محاولة الاستفراد ببعض قادته لإبعادهم عن أجندات التغيير الجوهري ومادامت الثورة قد أنجزها الشعب فلا بدّ من الإيمان بدوره في التضحية بالمال والنفس والتصحيح لمسارات البناء. ولمّا كان مفهوم التغيير هو إزاحـة الدولة العميقة و ذلك أمر صعب بالسياسة، فلا بدّ من التّـدرج بالقوى الشّعبية لفهم طبيعة المرحلة وفي حالة الخطأ  في تخيّر مصل المناعة (مثل التّعويل على الأحزاب الهشة والمنظمات الرخوة ) فقد يتحوّل اللقاح إلى فيروس فتّاك وإلاّ فماذا جلب هذا التغيير غير الحركات الاحتجاجية المطلبيه، وإحياء الصراعات الأيديولوجية العقيمة والنعرات الجهوية والوعد بالإصلاح الشامل وتلك من الأدواء التي يعرف عامّة الناس عقمها ويستنكف الخوض فيها.
المؤشر السادس والأخير للتغيير الثوري
 
 هو التّحسّس لأهميّة القوة التنظيمية وديمومة تماسكها ودقّتها ومثابرتها، فالقدرة على التنظيم واتقان العمليات الإجرائية في المجالات المختلفة، نقطة مفصلية في ابقاء الميزان لصالح قوى التغيير في بلدنا وفي المنطقة فيبقى  حيّز التحرك لقوى الثورة متسعا وموصولا لكن لا بدّ من دعم اسباب نجاحه بالقوة ماديّا وسياسيا واعلاميّا. لكنً ما يجري اليوم أنّ القوى السّياسية والاقتصادية تتقاسم المنابر الإعلامية وتوّظفها لتوجيه الرأي العام نحو حركات متفلّــتة وردود فعل انفعالية بينما كنّا نتوقع أن يكون  للسياسيين دور أكبر في تفكيك "الدولة العميقة"  والكشف عن التحالفات غير المنسّقة في القطاع العام و الخاص، وتفويت الفرص على الإعلاميين المتورطين في الرشى بمقاطعتهم ووضع الخطط لمحاسبة رجال الأعمال الفاسدين  وكشف المخبرين الذين يقاومون التغيير والإصرار بلا هوادة على إصلاح جهاز القضاء وأن يكون إجماع القوى الوطنية  بتوافق واسع بين عديد الأحزاب شرطا أوّليا وضروريا لتحقيق الخطوات الأولى للإقــــلاع و كبح جماح الأطراف  المستفيدة من الوضع الراهن لإحلال الفشل ومراكمة الإخفاقات والفساد في كل الشؤون الوطنية أو في أقصى الحالات حصول الصدام بين من يسميهم أبو يعرب المرزوقي "الشرعية العزلاء والقوة اللاشرعية." وتلك – بصريح قوله – "هي بداية فشل الدولة والحرب الأهلية..." ( أنظر مقولته وتفاصيل فكرته عن الدولة العميقة في مقالته الصادرة بتاريخ 2012.12.19.). 
 
الخاتمة
 
التغيير الثوري الذي ننشده هو الذي يستهدف تغيير أنماط تفكيرنا بما يتناسب مع صالح الوطن وإحداث التحولات النّوعية الكبرى التي تقفز بالدولة وعموم الأمّة إلى الفعل في حركة التاريخ والاسهام في البناء الحضاري. نحتاج إذن إلى تنمية تحتية لا نمو يذهب بالثروة لجيوب المترفين .نريد تغييرا  شاملا  لا إصلاحا  فوقيا . نريد ديمقراطية سلوكية وجماهيرية لا مواعظ تلفزيّة ودروسا في الأقبية.
إن التغيير الذي حصل لم يتجاوز ٍحيّز ٍالإصلاح الدستوري على المنوال الممطط والمتشعب والذي يحدث تلهف على حوز المواقع ومحاصصـــــة  الكراســــــي و الأسف أنّ الأحزاب لا تبنـــي للأمتن والأدعى  للإستمرار والدوام وأدعو الله ألاّ يكون القادم أتعس.