زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
من الثورة . . . إلى الإصلاح إلى التنمية

 لغط كثير يطفو من حين إلى آخر على صفحات الشبكة الاجتماعية فايس بوك وعلى الفضائيات، تلوكه ألسن عديد السياسويين من محترفي التشكيك والتقزيم والمزايدة، ومن مدّعي الطهر السياسي والعفة النضالية.هؤلاء اللاغطون يتزيّنون بخطاب الثورة، ويمجّدون الثوريين، ويُسوّقونهم في مغالطة فجّة على أنّهم المناضلون الوطنيون التقدميون الصادقون الذين واجهوا قوافل الاستبداد بصدور عارية، وقارعوا الظلم بشظايا الكلام الثوري.

وفي المقابل يتبرّم هؤلاء من خطاب الإصلاح ويرجُمون الإصلاحيين بالغيب ويقدمونهم في مناورة مفضوحة على أنهم الخانعون الخائنون الرجعيون المنافقون الذين قعدوا عن النضال وتراجعوا عند النزال واستكانوا للأهوال والأغوال وقايضوا الصمت بالمكاسب والمناصب.
حين نتوقف عند هؤلاء اللاغطين، وحين نفحص ما لغطوا تتراءى لنا أسئلة ثاوية لا بد من مواجهتها ونفض الغبار عنها لإنارة السبيل وإزالة العوائق ومن أبرزها:
ما المقصود بالثورة؟ وما المقصود بالإصلاح؟
هل تمثل الثورة نقيض الإصلاح؟
هل الثورة غاية في حد ذاتها أم وسيلة؟
ما هي علاقة الثورة بالإصلاح؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تبدو اليوم ضرورية لكشف هتر المهاترين وتعرية لغط اللاغطيـــن وتوضح الرؤية أمام الصادقين المقبلين على العمل السياسي والعازمين على الإسهام في رفع التحديات الوطنية الراهنة.
 
بين الثورة والإصلاح
 
تذهب أغلب التعريفات الحديثة للثورة إلى أنها ذاك الاندفاع المفاجئ والسريع الذي يحدث داخل مجتمع تسوده علاقات ظلم سياسي واضطهاد اجتماعي ويعمه فساد مالي وإداري وأخلاقي من أجل تغيير النظام الاجتماعي والسياسي والمؤسسي القائم والانتقال منه إلى وضع جديد قد يكون أفضل مما سبق أو أسوأ.
الثورة إذن كحدث طارئ وظرفي تهدف إلى تصحيح الأوضاع الاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية ومعالجة الآثار السلبية المترتبة عن الإخلالات والانحرافات الحاصلة ووضع تصورات جديدة لتأمين حياة أفضل وهي بهذا المعنى الغالب ليست إلا وسيلة ممهدة للإصلاح المجتمعي والحضاري وليست غايـــــة في حد ذاتها كما شبّه لكثيرين.
أما الإصلاح، فهو تلك الإرادة الباحثــة عــن الخيـــر والعاملـــــة على تجديد النظام المجتمعي ومعالجة القصور والاختلال المعيقين فيه للتنمية في أبعادها المختلفة وهو ذاك العمل السياسي الذي يطال الميادين المادية والروحية والأخلاقية والفكرية في المجتمع لتقويمها وتطويرها والذي تميزه جملة من الخصائص أهمها أنه:
ـ عمل متدرج يثبّت المكاسب ويراكم النجاحات ؤيتخذها قاعدة في ضبط الأهداف ورسم الخطط الكفيلة بتفعيل مسار التنمية والازدهار.
ـ عمل متكامل مع جهود السابقين في الإصلاح الوطني والبناء الحضاري، ومستقبلي تتواصل حركته وتستمرّ دون أن تتوقف عند سقف زمني محدد.
ـ عمل شامل يمس مجالات الحياة كافة في أبعادها المختلفة، المادية والروحية والفكرية والأخلاقية.
ـ عمل مرن ينفتـــــح علـــى جميـــع الفاعليــن في البناء الوطني على اختلاف انتماءاتهم السياسية ومذاهبهم العقائدية.
ومع هذه الخصائص المميزة فإن الإصلاح ليس عملية سهلة التجسيد بل هو عملية معقدة وصعبة ولا يمكــــن إدراك نتائجهـــا المرجــــوة إلا بالتحلي بكثير من طول النفس والصبر والمثابرة وتغذيه روح الفعل الجماعي.
 
من الثورة إلى الإصلاح إلى التنمية
 
إن الحديث عن ثورة تٌقوّض النظام المجتمعي وتنسف بناه التقليدية وتنطلق في عمل بنائي جديد وفق نظرية فلسفيــة جديدة لم يعد قابلا لا للتسويق ولا للتصديق ولا للتطبيق، وقد أثبتت الثورات الحديثة التي شهدتها بعض جمهوريات أوروبا الشرقية والتي تشهدها اليوم بعض الأقطار العربية دقة ما نذهب إليه. 
هذه الثورات لم تذهب إلى خيار الهدم والبناء بل رفعت شعار الإصلاح الشامل وجعلته رهانها الاستراتيجي وانكبت على معالجة الهنات الحاصلة وتطوير الوسائل المتاحة واستغلال الامكانيات المتوفرة للأخذ بأسباب التنمية المجتمعية الشاملة.
وليس من النشاز القول بأن الثورة التونسية على غرار ما جرى ويجري في الوطن العربي قد قامت من أجل الإصلاح الاجتماعي والسياسي كمقدمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي والرقي الحضاري.
وبالإجمال يمكن الجزم بأن ثورتنا المجيدة حينما جاءت فإنما جاءت من أجل تحقيق الإصلاح، والإصلاح حينما يجـــيء فإنمـــا يجــيء من أجل تحقيق التنمية للتونسيين.