بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
"ثقافة الاختلاف" وضرورتها في المشهد السّياسي التونسي بعد الثّورة(1)

      المقدمة 

 
     إنّ اختيار موضوع "ثقافة الاختلاف"  في هذه النّدوة لم يكن اختيارا عشوائيا أو عفويا، وإنّما هو اختيار مدروس وذا أهداف محدّدة ولأكثــــــر من سبب واعتبــــار. ومـــن أهمّ هذه الأسبـــاب أن الاختلاف في الرأي والتعدّدية في المجتمع هي مبادئ أساسية من مبادئ الديمقراطية. وثانيا تمثل ثقافة الاختلاف إحدى تجليات الديمقراطية والتجسيد الحقيقي لقيم التّسامح والتعايــــش السلمـــي في المجتمع. والسّبب الثالث، هو أننا مازلنــــا في تونــــس نفتقد هذه الثقافة وخاصة في المشهد السياسي الجديد. ورابعا، أنّ هذه الثقافة هي الأكثر استجابة موضوعيا للتحديات التي تواجهها بلادنا بعد ثورة 14 جانفي 2011، باعتبارها فن للتعايش مع الآخرين وآلية لتحقيق الاندماج في المجتمع. 
  ففي ظل المناخ السّياسي الانتقالي وغير المتبلـــور في كثير من سماته واحتمالاته، تتأكد الحاجة الملحة إلى إعادة تأسيس ثقافتنا السّياسية من أجل بناء نظام ديمقراطي حقيقي. وعملية إعادة البناء تمثل عبءا جديدا يضاف إلى تعقد الوضعية، وجزءا من الإشكالية المطروحة أمام الجميع حكومة وأحزابا ومؤسّسات ومنظمات وإعلام..الخ. خاصة في حالة عدم اهتمام هؤلاء الفاعلين بالشروط الأولية لتغيير الحقل السياسي أو النظام السياسي للدولة وتهيئة المناخ الملائم الذي يسمح بتفعيل المقاربة التشاركية في إدارة الشأن العام للمجتمع. في ظل البنية السياسية المجتمعية الأبوية وفي ظل غياب التقاليد السياسية المواطنية ومفاهيم الحرية والديمقراطية والمشاركة الشعبية في السّلطة، كيف يمكن أن تتم إعادة تأسيس الثقافة السياسية المدنية ؟ 
 
   1ـ  الحدث الكبير يولّد الأسئلة الكبرى 
 
إنّ مفهوم "ثقافة الاختلاف" أو الحوار أو التعدّدية، يضعنا أمام قضية حضارية ومعرفية كبيرة تتعلق بالسّؤال المركزي التالي: هل يمكننا أن نصف ثقافة معينة بأنها ثقافة اختلاف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي مقومات هذه الثقافة؟
إنّ محاولة الإجابة عن هذه الإشكالية  تجعلنا نبحث في المشهد الخلفي للحراك المجتمعي الجديـــد ولإحـــدى التحدّيات الرئيسية التي يواجهها مجتمعنا التونسي بعد الثورة. وهو بحث في ما لا يريد بعضنا سماعه أو الحديث فيه أو محاولة تقويمه بعد مرور عامين من هذه الثورة. فهناك فرق بين أن تجعل المفهوم هدفا تسعى إليه من خلال ما هو قائم ، وبين أن تطلب سحب هذا المفهوم حول معنى محدّد باعتباره صيغة قادرة على الإنتاج المباشر في مجتمع مـــــا، من نظام ما، وتغيير هذا النظام وتأسيسه على معاني سياسية جديدة أساسها "ثقافة الاختلاف".
    لا شك أنّ التجربة السّياسية الجديدة في تونس بعد الثورة، تمثل إحدى الملاحم التاريخية المهّمة في تاريخ بلادنا المعاصر. بل يمكن القول أنها ستكون أبرز حدث سياسي عرفته تونس منذ الاستقلال. ولكن نجاح هذه التجربة في تحقيق أهدافها يبقى متوقفا على مدى نجاحها في التخلص من اكراهات التّجارب السّياسية الاستبدادية السّابقة واستجابتها إلى متطلبات المرحلة المطروحة على جدول أعمال اللّحظة (2).
   ليس المطلوب، بالطّبع، في هذه الظرفية الحرجة، والفترة الانتقالية التي تمر بها بلادنا هو أن نخلق المعجزة، وأن ننجز ثورة انقلابية جذرية خلال أشهر أو سنة على ما يسود في أوضاعنا الاجتماعية والسّياسية والثقافية القديمة من قيم وممارسات سياسية مهترئة فاسدة. وليس المطلوب كذلك، أن نستعيد كل مقوّمات التجارب السّياسية الغربية الحديثة ومسارات ثوراتها وطرق تطورها أو أن نقلدها ونستنسخها لضمان نجاح انتقالنا الديمقراطي، ولكن كل ما نأمله وما نراهن عليه في إطار مرحلة التأسيس لثقافة سياسية جديدة، هو أن نبني فكرا سياسيا جديدا يلازم بين الحفاظ على الهوية والأصالة من ناحية، وبين تأسيس هذا الفكر على قيم الحداثة والتعدّدية والحوار والانفتاح من ناحية ثانية. 
   فمن الضروري أن تلازم الحـــراك المجتمعــــي، حراكــــا وتغيرا في الفكر والثقافة السياسية وأن تحدث تحولات حقيقية في آليات الفعل السياسي. والمنطلق الأول لهذا التحول هو إعادة بناء المفاهيم السّياسيــــة وتغييـــر معاييـــر العمــــل والعلاقات السياسية القديمة بعد أن أفلســـت. وثانيــــا، ينبغي علينا الانطلاق من النقد الذاتي حتى نتمكن من الوقوف على نقاط ضعفنا، وأن نسأل أنفسنا لماذا خسرنا معاركنـــا الماضية في التحـــرّر والنهــــوض والتخلــــص من الاستبداد والتخلف؟ وأين نريد الوصول اليوم؟  
  إذًا، هناك مشاكل وتحديات أخلاقيــــة وثقافيـــة وسياسيـــة كبيرة لم نعشها في الماضي. والتحدي الجديد يتعلق أساسا بكيفية إنتاج المجتمع نفسه بنفسه، وأن يغير آليات الفعل السياسي الجديد. فالمشهد السياسي التونسي والعربي عموما الجديد يطرح علينا عديد الأسئلة المهمة : ما هي أهداف الحراك السياسي الجديــــد؟ وما هي مقاصده؟ وما هو منطقه: ثورة أم حركة احتجاجية؟ ووفق أي معايير يجب أن نشكل تجربتنا السّياسية الجديدة؟ أي هل نحن نعيش مرحلة القطيعة مع ماضي استبدادي مازال قريبا منا أم أننا نعيد إنتاجه ولكن بلبوس ثوري؟
   من خلال فهمنا للثقافة السّياسية الخاصة بمجتمع ما ومن خلال إرثه المعرفي والقيمي نستطيع أن نعرف كيف تتشكل السياســـات في هذا المجتمع وكيف تنتقل من شخص إلى آخر. وكل أزمة حادة تشمل النظام الاجتماعي والثقافي تبدو أولا وقبل كل شيء أزمة الاختلاف والتعدّد"(3). وإذا ذهب الأمل بالتّكاسل، وذهب إليـــــــه ما يدعو إليه من الأحوال، وكانت العصبية ذاهبة للغلب الحاصل عليهم، تناقَص عمرانهم، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم، وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم (4).  
   نعتقد أنّ  جميع الفاعلين السّياسيين والإعلاميين والمثقفين لم يتحملون بعد مسؤولياتهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي وتخليصه من التشوّهات الأخلاقية والقيمية والتي مازالت تطبع ممارساتهم ومواقفهم وخطاباتهم إلى اليوم. فهؤلاء الفاعلون يمثلون قنوات الثقافة السياسية في المجتمع. والمناخ السياسي الجديد "المتحرر" الذي حركته الثورة لم يخفف من حدة الصراعات السياسية والأيديولوجية والنزاعات الاجتماعية والعنف الإعلامي في مجتمعنا التونسي. بل زاد في تجذيرها من جديد في المخيال الاجتماعي للمجتمع. وهي "إحدى تجليات ضعف الأسس التي قام عليها "مجتمع النخبة"(5) السّياسي والمدني. 
   في الواقع ليس هناك دور للثقافة في تعزيز الاختلاف، فالدور الذي يجب أن نبحث عنه هو دور الوسائل السياسية ودور المنابر السّياسية والإعلامية والثقافية في تعزيز ثقافة الاختلاف والحوار. كل هذه الوسائل هي التي ينبغي أن تقوم بدور في تنشئة المواطن على قيم الحرية والاحترام للآخر. والتأسيس المنتظم والمتدرج للثقافة السّياسية على قيم الحوار والتوافق والتعاقد هي التي ستسمح  بإنضاج شروط  دمقرطة الحياة السياسية واستقامة أداء مؤسّسات الدولة والمجتمع وتضمن استدامتها.
 
 2ـ ثقافة الاختــلاف كـ"نموذج إرشادي" ( un paradigme)
 
   من سنن الله سبحانه وتعالى، في الخلق، ومن نعمه في الاجتماع الإنساني هي التعدّد. فالتعدّدية جعلها الله قانونا وسنّة لا تبديل لها ولا تحويل، في كل عوالم الخلق. فهي من أعظم نعم الله لتحقيقها الحرية والسّعة واستنفار الطاقات للتسابق في ميادين الإبداع. وهناك اقتران بين نعمة التعدّدية وبين الابتلاء بها والاختبار فيهـــا، لتمييز الرّاشدين الذين يوظفونها من أجل تحقيق التكامل والتوازن في بناء المجتمع، وبين الذين يعتمدونهـــا سبيــــلا للتّناحــــر والتّقاتــــل والتشــرذم والتّفتيت(6). "ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين"(7). فالتعدّد والاختلاف  بين الناس ليس حقا قانونيا فقط، بل هو سُنّة . والسُنّة  مصطلح متداول في اللّغة العربية قبل نزول القرآن ويعني " ضربا من السّيرة النموذجيّة والفعل" ونقول "سنّ" أي  وضع أو سوّى نمطا من السّلوك نموذجا يقتدي به الآخرون (8). وهذه الثقافة لا يمكن أن تتأسّس إلا في مناخ سياسي وثقافي تعددي في طرق التفكير وفي الوعي. فكل مجال من مجالات العلاقات والحياة الاجتماعية أو السياسية وكل المؤسسات في الدولة والمجتمع تحتاج إلى نسق ثقافي مدني يؤسّس حركتها ويحدد رؤيتها إلى العالم. فالتغير السياسي الذي تؤسس له الثقافة المدنية ضروري لضمان الاستقرار الاجتماعي.
   1ـ منذ عصر النهضة الأوروبية أصبح مفهوم "ثقافة الاختلاف" عبارة عن نموذج إرشادي (paradigme) موجه للسّلوك والتفكير وللإنتاج الثقافي والعمل السياسي أي عبارة عن منظومة قيمية ناظمة للمشروع المجتمعي الحديث. وهذا النموذج هو عبارة عن جهاز أيديولوجي اعتمدته المجتمعات الأوروبية لنقل قيم المواطنة ولشرعنة أنظمتها الثقافية والسّياسية. فـ"ثقافة الاختلاف" هي نموذج للعقلانية وللتنظيم القانوني، ولمفاهيم الحرية والديمقراطية والمساواة واحترام حقوق الإنسان وكرامته. وهذه الثقافة هي عبارة عن وعي ثقافي وفكري وممارسة اجتماعية خلاقة. كما أنّ هذه الثقافة هي ركيزة للمجتمع المدني. وأوّل سمة لها هي أن تكون متنوعة، فالتنوع بأحدث صوره إيجابي لأنّه يدل على ثراء هذا المجتمع ويقضي على كل أشكال التعصب فيه.
  2ـ تعتبر "ثقافة الاختلاف" أيضا، آلية لتغيير شكل العلاقات والسّلوكيات السّياسية في مؤسسات الدولة والمجتمع. فهي آلية لتنظيم عملية التنافس السياسي وإدارة الحوار والصراع الفكري بين مختلف القوى السياسية والمدنية والثقافية في المجتمع. ولهذا، غدت هذه الثقافة أداة ضرورية بهدف التمييز بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية، باعتبارها إحدى محدّدات بنية النظام السّياسي للدّولة. 
  3ـ لا تمثّل ثقافة الاختلاف ظاهرة سياسية فحسب، بل هي ظاهرة اجتماعية وثقافية ورمزية. أي أنّ مستوى مشاركــــة المواطنيـــن في الحراك السّياسي مثلا، يتأثر بعدد من المتغيرات الاجتماعية والثقافية الخاصة بالمجتمع الذي ينتمون إليه. لذلك، فهي مرتبطة بنسق التنشئة الاجتماعية باعتبارها عملية يتدرب عليها الفرد طوال حياته وتمكنه من استبطان القيم والانخراط في العمل الجماعي لخدمة الشأن العـــــام. وهذه التنشئة تنطلــــق مــــن المحيط العائلي ثم التعليمي والمجتمعي. وبالتّالي، فالتنشئة السّياسية للفرد ليست عملية شكلية ومناسباتية، وإنّما هي عبارة عن قيم ومشاعر واتجاهات يستبطنها المواطن وتوجه سلوكه للمشاركة المسؤولة في إطار نظام ديمقراطي.
  لهذا، تظلّ من أبرز التحدّيات التي تواجه التجربة السياسية التونسية الجديــــدة والذي لا يمكن تجاهله أو الاستهانــــة بأهميته أو تأجيله، هو تأصيل "ثقافة الاختلاف" كنموذج سلوكي في بنية ثقافتنا وفي مستوى ممارساتنا وعلاقاتنــــا اليوميـــة. وهذا الأمر هو خيار استراتيجـــي لا يمكن التـــردّد فيه أو التّراجع في العمل على توطينه في مخيالنا الاجتماعي والسياسي باعتباره ضرورة داخلية لتعزيز وحدة المجتمع أولا، ولدعم شرعية النّظام السّياسي في الدّولة ثانيا.  وطالما تأخر ميلاد هذه الثقافة في "الحقل السّياسي" كآلية لتنظيم الحياة السّياسية وإدارة الصراع بين القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني سيظل الحراك السياسي عشوائيا واعتباطيـــا، وسوف يبقى في حـــدود ردود أفعال لا يمكن أن تفضي إلى التحول الديمقراطي الحقيقي أو إلى تحقيق أي تراكم في أي تجربة سياسية مهما ادعت من شرعية ومن ديمقراطية. 
   فالمجتمع الذي يفتقد فيه الأفراد والمجموعات القدرة على إعمال العقل وتطوير طرق التعامل في ما بينهم في إطار الوحدة والمشاركة السياسية والانخراط الفعلي وتحمل المسؤولية في إدارة الشأن العام، سوف يبقى وضعه الاجتماعي العام ميزته القصور الذّاتي وغياب الوعي السّياسي والتفكّك المؤسّساتي للدّولة وللمجتمع وقد يعود في أية لحظة  إلى الحالة البربرية أو"الفوضى الخلاقة".
 
     3ـ  الثورة التونسية بين ثقافة الرّعية
وثقافة المواطنة؟
 
    يبدو أنّ حركة الأحداث في تونس قد بدأت تتسارع بشكل غير مألوف خلال الأشهر الماضية، ولن تعود إلى سابق عهدها من الرّكود النسبي قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011. لقد أصبح المشهد السياسي سمته الأساسية هي المعارك السّجالية والتخوينية والعنفية أحيانا. ومازال المشهد السّياسي الدّاخلي لم يتشكل إلى حد الآن سواء من حيث القوى أو التنظيم أو من حيث الرؤى الفكرية وأسلوب عملها في المستقبل، وأصبحت البيئة السياسية التونسية الجديدة خاصيتها الأساسية هي السّجالية والمراوغة التي خلقت مناخا مجتمعيا مشحونا بمشاعر اليأس واللاّمبالاة، وعطّلت إمكانية انبثاق ما يسمّى بـ "المجال السّياسي" في المجتمع، والاتجاه نحو التفكك لأنّ مؤسّسات المجتمع المدني ليس لهــــا ثقافـــة تعدديــــة تبلغها إلى الجماهير وبالتالي، لم تستطع مختلف الأحزاب والمنظمات النجاح في تعميق وعي الشّعب عموما وقواعدها خصوصا بثقافة الاختلاف. ومازالت"الأرثوذكسية "هي الغالبة في تكوين المواقف والاتّجاهات والعلاقات اليوم، شعبيا ونخبويا. وهي التي تستثمر كمحصلة أنثروبوـ ثقافية للبراديغم الفقهي وللسّلوك أيضا من قبل النخب الفكرية والسّلط السياسية(9). فعالم الاجتماع "بول لازارسفيلد" (Paul Lazersfeld) (10) يتبنى مبدأ "الحتمية الاجتماعية" في تفسيــــر نتائج الانتخابــات، ويقول في هذا الصدد " إن الشخص يفكر سياسيا بالشكل الذي هو عليه اجتماعيا" أي أنّ الخصائص الاجتماعية والثقافية هي التي تحدّد خصائص الحياة السياسية للمجتمع. وبالتالي، فهي تتحدّد خصائص المشهد السياسي من خلال خصائص مؤسسات المجتمع المدني والدولة، فالتنشئة السياسية لهذه المؤسّسات هي المحدّد الرئيسي للعلاقات على مستوى ساحة العمل السياسي.
    فمن اللافت في تونس اليوم، أنّ مختلف البرامج السّياسية والسّجالات الفكرية التي تدور في رحاب الوسائط الثقافيـــــة والإعلاميــــة تتكشـــف كل يوم عن مستوى رهيب من التخلف من حيث اللّغة السوقية المستخدمة ورفض الاستماع إلـــــى الآخــــر ومنعـــه من التعبير عن رأيه. إذ "لا تساعد البرامج السّياسية في تكوين ثقافة سياسية متنورة بمقــــدار تساعـــد على تأجيج الصراعات وتعميق النّزاعات، وتشـــــوّش من الفكر أكثر ما توضّح(11). ولا يحتاج أي متابع مشغول أو مراقب مهتم بقضايا المجتمع التونســــي إلى مقدمات من أي نوع حتى يقول أنّنا في حاجــــة إلى إنشاء خطاب ثقافي وسياسي مختلف حتى لا نتأخر أو نتوه في حركة التاريخ.
    فالمجتمع الذي تنتشر في أوساطه السياسية والاجتماعية والثقافية الخصومات وتهيمن عليه النزاعات والعداوات التقليدية (العصبية والمذهبية والشخصية..)، فإنّه يصاب بالضعف والتفكك والانهيار. والصراعات على الحكم أو على الثروة والمال قد تفسد ثقافة الأفراد وتحولهم إلى أعداء. فالتّسابق في الحياة مطلوب ومرغوب وقانون الوجود وسنّة من سنن الله عز وجل و"في ذلك فليتنافس المتنافســـــون"(12) ولكن يجب ألا يكون الاختلاف فـــي الرّأي مصدرا للعداوة والفتن بين المتنافسين. فهذا السّلوك مخالف لتعاليـــــم الإســــلام الذي يدعـــو إلى تربية الإنسان على ثقافة الاستماع إلى مختلف الآراء ومحاجتها على أساس المنطق والدليل، لا عبر التعصّب إلى الرأي والانفعال" فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه"(13) فالمنافسة تثري حياة المجموعة إذا كانت دافعا إنسانيا، للتنوع. أما إذا كانت دافعها عصبيا فئويا، فإنّها تكثر من التعدّد غير المجدي المتنافر، المهدر للطاقة والوقت معا، وتكون على صعيد الفكر نعرة مفرقة، نابذة ومفككة لجسم المجتمع.
   إنّ تقاعس المثقفين والسّياسيين والإعلاميين عن رفع أصواتهم عاليا بالدّعوة إلى الانفتاح والحوار والتّسامح مع الآراء المخالفة، هو الذي يفسح المجال ويترك السّاحة فارغة لأصوات دعاة الكراهية والمتطرفين من مختلف هؤلاء الفاعليــــن. وهذا التعامـــل السيئ مع الآخرين يوسع الهوة بينهم ويقلل  من إمكانيات الحوار بينهم، في حين أنّ التعامل الحسن مع الآخرين هو يساعد على استقطابهم والتأثير فيهم. فالتّواصل بين مكونات المجتمع المدني يعتبر إحدى أسس الثقافة المدنية والديمقراطية والعلاقات الإنسانيّة السليمة، ويمثّل آليّة بواسطتها تتشكّل العلاقات البشريّة، خاصة من خلال علاقات تبادل المعلومات والأفكار والتّصوّرات. لذلك يعتبر التّواصل بعدا رئيسيّا في العمليّة السياسية وآليّة مركزيّة في تحقيق عمليّة التّوافق والفهم بين مختلف أفراد المجتمع. 
   لقد كانت التجربة السياسية خلال السنتين الماضيتين صدمة أليمة للمواطن التونسي، وقللت من رغبته في متابعة المسائل السياسية أو المشاركة في الحياة السياسية، سواء كان علنا أو ضمنا. فالخطاب السياسي المتداول منذ الأيــــام الأولـــى من قيام الثورة بدا وكأنه يتجه نحو إغراق المجتمع في "ثقافة الإقصاء" من جديد. ومعرفة أزمة هذا الخطاب في بعده الأنثربولوجي يؤدي بنا إلى  فهم أفضل للسياسيين ونخبنا الفكرية. وطريقة معالجة الفاعلين السياسيين للمسائل وكيفية إدارة حواراتهم وتفاعلاتهم السياسية تعبر كلها عن وجود أزمة في ثقافتنا السياسية. وأزمة في"أسلوب حياتنا" نتيجة غلبة ذهنية الإقصاء عن ذهنية التعايش مع الآخر. مازلنا لم نتمثل الآخر في مخيالنا السياسي بعد مادامت بنية ثقافتنا السياسية مبنية على طبائع الإقصـــــاء إن صراحــــة أو ضمنـــا. وهذه الثقافــة الشموليــــــة هــــي التي أدخلت مجتمعاتنا العربية منذ الاستقلال في حالة من التفكك السياسي والمؤسّسي ومن الركود الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. بينما " سلامة العلاقات الداخلية، تنعكس إيجابا على مختلف جوانب حياة المجتمع. فحركة المعرفة والفكر تتقدم في ظلّ أجواء الحرية والتسامح، وأخلاقيات الحوار، واحترام الرأي الآخر... ومكانة المجتمع تتعزّز في أنظار الآخرين حينما يكون أكثر تماسكا وانسجاما، والحالة النفسية لأبناء المجتمع تكون أبعد عن الأزمات والعقد والأمراض، حين تصفو العلاقات بينهم.
    إنّ قواعد المنافسة السياسية التي يفترض أن تجعل من الأحزاب السياسية تشكيلات سياسيــــة تحديثيــــة للمجتمع التّونسي مازالت لا تمثل بوضــــوح وأمانة فوارق المجتمع ومصالحه الحقيقية، بقدر ما تقوم بتشويش الصّراعات التي تخترق المجتمع، وبذلك تقوم بأداء وظيفة مفارقة على صعيد التهدئة الاجتماعيــــــة (14). فنحن في حاجة إلى "رجال مبادئ" وإلى أحزاب سياسية "تحديثيــــة" و" تنويرية" تستهدف فعلا تشكيل الإرادة العامة. فميزة المشهد السياسي التونسي اليوم، هو أنّ هناك تعدد في الآراء وفي الصحافة وتعدّدية حزبية، ولكن هذا التعدّد والتحول الكمــــي فـــــي حاجــــة إلى أن يلازمه تحول نوعي (كيفي) وهــــي القضيــــة الرئيسيـــة التي يتوقف عليها نجاح المجتمع في الانتقال من "ثقافة الرّعية" إلى "ثقافة الديمقراطية" أي حتى تصبح ثقافة الاختلاف والتعدّدية نابعة من المجتمع وتعزّز مكتسباته في الدّيمقراطية وحتى لا تظل مجرد هياكل صورية وفوقية.
    يبدو أنّ نخبنا السياسية والاجتماعية تتجه نحو تحطيم نفسها ومجتمعها. والتعدّدية في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011 لو كانت بين قوى متصارعة أو مختلفة فعلا لكان الأمر معقولا، أما الموجود في الواقع فهو تمزق داخلي ذاتي، إذ لم تتحول القوى السياسية والاجتماعية فيه إلى قوى مبدعة وخلاقة، بل دخلت في صراع مع نفسها. وأغلب المشاكل بينها مفتعلة لا تعبر إلا عن حالة مرضية وعن تعفن سياسي وأخلاقي وقيمي، وهذه الحالة تعبر عن ظاهرة الانفصام الاجتماعي والسياسي (الصراع مع النفس) في المجتمع. فعندما تختفي القيم الإنسانية السّليمة المنظمة للعلاقات بين الناس في المجتمع، عندئذ يملأ الفراغ قيما قديمة وهي قيم العنف والتعصب.
 
 الخاتمة
 
  في هذا المنعطف التاريخي الدقيق الذي تمر به بلادنا، نعتقد أنّ رهان الثورة في إقامة مجتمع جديد يحتاج إلى فترة زمنية  قد تقصر أو تطول، ولا يمكن لأحد أن يحدّد مداها الزمني، لأنّ المسألة تتعلق بإعادة بناء المجتمع في شموليته من حيث مؤسّساته وهياكله وثقافته وقيمه. ولكن ليس لنا أي بديل عن لغة الحوار والاستماع إلى الآخر من أجل النجاح في إنجاز هذه المهمة التاريخية والمصيرية. أما الثقافة السياسية الرعوية فلن تصنع سوى رعية طائعة وتابعة. ويجب أن يتشكّل المجتمع ثقافيا أولا، ثم يرسم سياسته وحاكمه ثانيا. لا أن يرسمه حاكمه، فتوسم حركته بخطيئة الأصل التي تؤدي إلى اعوجاج يظلّ ماثلا في الرّوح والنفس والضمير والوعي (15). فالحكم الرعوي يماثل بين واحديته في الحكم ووحدانية الله كفكرة محورية في الثقافة السياسية العربية الإسلامية(16).
   لا يمكننا أن نؤسّس تجربة سياسية جديدة في تونس وفي الوطن العربي عموما، إذا لم نبدأ بإعادة تأسيس أبعادها الثقافية والقيمية أولا. فعلى الرّغم من أن ثقافتنا العربية الإسلامية تزخر بقيم التسامح، وتدعو إلى قيم التعاون والتضامن، ومحاربة مشاعر الحقد والثأر والعدوان، فإنّ قيم التعايش السلمي وثقافة الحوار في مجتمعنا تميزت بالتقهقر والتهميش والتوتر في مختلف مجالاتها السياسية والاجتماعية والثقافية. وظهرت ثقافة الإقصاء وترسخّت في المخيال الاجتماعي وأصبحت نموذجا للحكم في الدولة وموجّها للسلوكيات اليومية في الوطن العربي. وبدا الأمر عندنا كأن الآخر مصطنع أي نفتقر إلى طبيعية العلاقة معه، فنحن إزاء إنطوائية (autistique) ذات شكل مزيف للآخر كما يقول "جون بودريار" ((Jean BaudriLLard(17). وأفضع أنواع هذا الاستلاب لمفهوم الآخرية (l’alteriété) حسب الكاتب نفسه، ليس أن يتملك أحدنا الآخر، وإنما أن يفتقر إلى أن ينتج الآخر في غيابه، وبالتالي يعود باستمرار إلى الأنا وإلى صورة الأنا.
  إنّ الوعي بجوهر هذه المواقف وأبعادها الحضارية ودلالاتها السّياسية وطبيعة آثارها السلبية على المشهد المجتمعي العربي يمثل السّبيل الوحيد الذي يؤدي إلى تأسيس وعي حقيقي وطرح رؤى وتصوّرات وبدائل للنّهوض بمستقبل أمتنا العربية ومواجهة تحدياتها الداخلية والخارجية.
 
الهوامش
 
(1) مقال سوسيولوجي شارك به الباحث في ندوة تحت عنوان "عامان من الثورة وثقافة الاختلاف" التي نظمتها جمعية "منتدى الثقافة والحوار" التونسي يوم 26 جانفي 2013، بتونس 
(2) سمير أمين، " الأسباب الموضوعية لفشل الثورات الاشتراكية الأولى"، من الفكر العربي وتحولات العصر، رؤى وأفكار من وجهات نظر ماركسية مختلفة، تقديم ، جورج البطل، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2006ن ص  97. 
(3)Georges Balandier, “ La violence et la guerre : une anthropologie », in Revue internationale des sciences sociales, n 110, 1986, p. 536.
(4) ـ عبدالرحمان ابن خلدون، المقدمة، دار العودة بيروت، 1996، ص 117.
(5) ـ برهان غليون، مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1986، ص 8.
(6) ـ محمد عمارة، الفتنة الطائفية..متى وكيف ولماذا؟، صحيفة المصريون الألكترونية http;//www.almesryoon.com
(7) ـ القرآن الكريم، سورة هود،الأية 118.
(8) ـ وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ترجمة رياض الميلادي، دار المدار الإسلامي، 2007، ص 80.
(9) ـ الطاهر لبيب، " علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي"، مجلة المستقبل العربي، عدد 158، بيروت، أفريل 1992، ص 80.
(10)Paul Lazersfeld, BB. Berelson, The people’s Choice, New York, Columbia University Press, 1944, p.27.
(11) ـ خالد غزال، المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة المركبة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2008، ص 182.
(12) ـ القرآن الكريم، سورة المطففين، الآية 26.
(13)  ـ القرآن الكريم، سورة الزمر، الآية 17.
(14) Philippe Brand, le suffrage universel contre le peuple, Paris, PUF, 1980, p.51.
(15)  ـ هند عروب، " ثقافة المواطنة في بلاد الرعية"، من السيادة والسلطة الآفاق الوطنية والحدود العالمية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة الأولى 2006، ص 178.
(16)  Bertrand Badie, Culture et politique, Collection politique compareé, Paris, Economica, 1983, p. 89.
-(17)   Jean Baudrillard, Marc Guillaume, Figures de l’altérité, Paris, Descarte, 1994, p.173.