مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
ارتفاع الأسعار استهداف للثورة وتلاعب بقوت المواطنين

 في الوقت الذي حقق فيه النمو الاقتصادي زيادة ب3.5 بالمائة سنة 2012 ما فتئت الأسعار تزداد مبينة بذلك غياب الأثر الايجابي لذلك النمو على المقدرة الشرائية للمواطنين مما يطرح تساؤلات عديدة حول الأسبـــاب الحقيقيـــة وراء ارتفــــاع الأسعــار الذي بات شغل الناس الشاغل ومحــــل سخط عـــام يعكـــس عســرا في حياة المواطنين.

إن النمو الاقتصادي الايجابي يعني زيادة  الإنتاج وبالتالي زيادة  العرض على مستوى السوق إذاشملت الزيادة السلع الموجهة له، مما يعني في حالة استقرار الطلب تراجـــع سعر الســــوق أو في أســـوء الحالات استقرار الأسعــــار حين يزداد الطلب بنفس نسبة زيادة العرض أما أن تزداد الأسعار فذلك يعني أن الطلب فاق العرض إذا اعتمدنا في تحليلنا على قانون العرض والطلب فهل هذا هو الحال في أسواقنا؟

إذا استحضرنا من جهة أولى زيادة الأجور في القطاع العام التي أقرتها حكومة السبسي مع اتحاد الشغل وألزمت  حكومة الجبالي بتنفيذها وأخذنا بعين الاعتبار من جهة ثانية كثرة الإضرابات والاعتصامات وكذلك عدم الاستقرار الأمني وما لهم من تأثير سلبي على عمليتي التوزيع والتسويق، أصبح من اليسير استنتــــاج  زيادة الطلب من جهة وتراجع الإنتاج و/أو تعطّل وصول السلع إلى السوق وبالتالي انخفاض العرض في كلتا الحالتين من جهة أخرى، مما يفسر بالاعتماد على قانون العرض والطلب ارتفاع الأسعـــار وهنا نقف عند مسؤولية مشتركة بين السلطة التنفيذيـــة والمركزية النقابيـــة في ما آلت إليه الأسعار من ارتفاع. ولعله من المفارقات أن تتورط أطراف كان من المفروض أن تحتكــم إلـــى مصلحـــة كل المواطنيـــن في مفاوضاتها وقراراتها في ظاهرة ارتفاع الأسعار وتأخذ بعين الاعتبار اثره السلبي على محدودي الدخل وضعاف الحال .

إن عمليات الاحتكار وخاصة عمليات تهريب السلع للتراب الليبي زاد الوضع سوءا و شكل استنزافا لجزء من المنتوج الوطني  تجسد بنقص في الكمية المعروضة إضافة إلى الزيادة في الطلب الداخلي الناتجة عن زيادة الأجور دون أن يصاحبها زيادة في الإنتاج تفســــران ارتفـــــاع الأسعـــــار وبالتالــــي تراجع المقدرة الشرائية للمواطنين.

إن استمرار ارتفاع الأسعار قد يولد لدى المواطنين شعورا بعدم تحسن حالهم الاجتماعي بعد الثورة ممـــا قـــد يولـــد لديهم حالـــة من الإحباط تكون الثورة بذلك المتضرر الرئيس مما يخدم مخططات أعداء الثورة الذين يتلقفونها حتما ويستغلونها قصد تعميق الإحباط في النفوس لإشاعة عدم الثقة في عملية الانتقال الديمقراطي تمهيدا لتجاوز الشرعية والعمل على إجهاض الثـــورة التـــي لا يـــــراد لها أن تكون مسارا تحرريا يقطع مع طريقة التعاطي السابقة مع قضايا المجتمع ويتخلّص من أسر نمط العلاقات التي نسجتها منظومة الاستبداد والفساد بين مكونات المجتمع، سواء بين السلطة التنفيذية والمركزية النقابية على حساب المصالح الحيوية لأفـــراد المجتمـــع أو بين أفراد المجتمع ذاتهم في علاقــــة بعضهـــم ببعض، القائمـــة على التفكير الضيق المحكوم بالآني وأسيرة الأنانية بدل التفكير الجماعي في الآتي والتعاون على رفع التحديات التي تواجه الجميع وتستهدف الجميع.

إن ارتفاع الأسعار لم يشمل المواد المحلية فقط بل كذلك المواد الموردة وإن كان ارتفاع أسعار المواد المحلية يفسر بزيادة الأجور الغير مصاحبة بزيادة في الإنتاج وكذلك بتفشي ظاهرتي الاحتكار والتهريب وجشع بعض التجار الذين ضعفت الرقابة الذاتية لديهم واستغلوا ضعف الرقابة الرسميـــة على الأسعــــار وكذلك تعــــدد المتدخلين بين الفلاح والمستهلك في ما يتعلق بالمنتوج الفلاحي وارتفاع تكلفته، فإن ارتفاع أسعار المواد الموردة تفسر بتراجع سعر صرف الدينار التونسي لضعف الثقة فيه نظرا لاهتزاز صورة اقتصادنا رغم ما حققه من نمو ايجابـي تجــــاوز به مرحلة الركـــود التي عرفها سنة 2011 .       

وإن كانت القرارات النقابيــــة الآمرة بالإضـــرابات -والتي تعكس في بعض الحالات قرارات سياسيـــة من جانب أحـــزاب لهـــــا نفوذ في مستوى القيادة النقابية- وراء تراجع الإنتاج المحلي، فإن تراجع التصدير يجد ما يفسره في الأزمة التي يمر بها شريكنا التجاري الأوروبي ولكن أيضا في منوال التنمية الذي لم يشهد بعد تغييرا ينوع بموجبه وجهتنا التجارية الخارجية حتى نحررها من محدودية الأسواق الخارجية ونفتح بذلك آفاقا تجارية أرحب تمكننا من تقليل انعكاسات مخاطر الأزمات الاقتصادية المجاورة على تجارتنا وبالتالي على اقتصادنا عموما.

وفي مقابل تراجع التصدير ازداد التوريد ولعل ما سجل في موفى شهر جانفي من هذه السنة من نسبة تغطية الصادرات للواردات فاقت السبعين بالمائة مؤشر ايجابي وجـــب دعمـــه والاستمـــرار في مزيد ترشيد التوريد وإرسال رسائل طمأنة سياسية لشركائنا الاقتصاديين في الخارج مع تركيز الاستقرار الدائم وعدم التهاون مع أي انفلات أمني أو تلاعب بأرزاق الناس أو عبث بالدورة الاقتصادية مهما كانت الدوافع والمبررات وكذلك الغايات لأن ذلك يساهم في الحدّ من ظاهرة ارتفاع الأسعار. فبالحرية وحدها لا يمكن للثورة أن تصان ولا يمكن لمسارها أن يستمر فقلة الإنتاج يعمق تبعيتنا التجارية ويستهدف كرامتنا الوطنية ويستنزف رصيدنا من العملة الصعبة ولا سبيل لاستمرار ثورتنا دون خلق الثروة  وضمان تمتع كل المواطنين بها كل حسب حاجته وهذا لا يتم إلا بالتحكم في الأسعار مع  واجب كل واحد منا المساهمة في إنتاج هذه الثروة كل حسب طاقته وكل لمـــا سخـــر لـــه لأن ذلك حاســـم في  تراجع الأسعار.

إن إقرار قانوني تجريم الاحتكار وكذلك تجريم التهريب الذين تقدمت بهما وزارة التجارة لا يكفي لمحاصرة هاتين الظاهرتين ما لم يصاحب هذا الإقرار إرادة قوية للسهر على تنفيذهما وتوفير كل مستلزمات تفعيلهما وتحقيق أهدافهما في الحد من ارتفاع الأسعار لتتحسن المقدرة الشرائية للمواطنين ليستطيعوا بذلك تلبية حاجاتهــم من السلع والخدمات بأريحية دون أن يولد لديهم إحساس بالغبـــن في وطنهم.

إن سفينة النجاة اليوم لمجتمعنــا فــــي استكمـــال مســــار الثــــورة على المستوى الاقتصادي عبر مزيـــد خلــق الثروة بما يعنيه ذلك من تقديس العمل والرفع من الإنتاج والزيادة في الإنتاجية وكذلك بتقوية قدرة اقتصادنا التنافسية وفتح آفاق تجارية أرحب مع ترشيد التوريد وتطوير هيكلة تجارتنا الخارجية بما يحقق توازنها ويدعم توجه اقتصادنا نحو إنتاج السلع والخدمات ذات قيمة مضافة عالية  وفيها من التنـــوع والابتكــــار مـــا يضمـــن لهـــا الترويج والولوج في الأسواق المستعصية.

إن زيادة النمو الاقتصادي المصحوب بحسن توجيه ثماره نحو تلبية حاجات المواطنيـــن بأسعـــار متوازنـــة تضمن للمنتج استمراره في العملية الإنتاجية ولا تؤثر سلبا على المقدرة الشرائية للمستهلك تستوجب وحــدة وطنيـــــة حــــول النهــــوض باقتصادنـــا وإقـــرار كل ما من شانه أن يضمن توزيعا عادلا للثروة في اتجاه تركيز مقومات اقتصاد قوي ومجتمع متضامن في إطار من الحرية المسؤولة والعطاء المتبادل والحرص على التحرر من نمط العلاقة الذي ساد بسيادة الفساد والاستبداد بين مكونات المجتمع السياسية منها والاجتماعية على حد سواء وبين أفراد المجتمع الواحد والتفكير بمنطق المجتمع الواحد الراكب لسفينة واحدة تلطمها العواصف مـــن كـــل جانـــب وهـــو يعمل كل ما في وسعه للوصول إلى شاطئ الأمان شاطئ الاستقرار الاجتماعي والأمني ليعيش حياة طيبة آمنا مطمئنا، كرامة أفراده مصانة وعزته محفوظة ويحرص الجميع على وحدته وتنميته وتقدّمه ليجد له موقعا في هذه الألفية ويكون بالتالي مساهما في الحضارة الإنسانية ضمن الفاعلين فيها لا المفعول به أو المفعول فيه.