بهدوء

بقلم
مسعود اليحياوي
التعليم و تحديات المرحلة

 لم أجد  أبلغ من القراءة التاريخية في تلمّس مشــــوار تونس في الحقل المعرفي هذا المسار العريق الذي بدأ مع تأسيس أوتيكا سنة 1101 ق م وانتشار الكتابة البونية في مرافئ قرطاج وربما قبل ذلك وحتى ظهور المدرسة الحديثة بعد الاستقلال مرورا بالحقبة العربية الإسلامية (ازدهار الكتاتيب والمكتبات والمدارس القرآنية) وعهد الإصلاحات (مشروع خير الدين التونسي لتنظيم التعليم الزيتوني سنة 1875) وتأسيس إدارة التعليم العمومي في عهد الاحتلال الفرنسي سنة 1883.

هذا التاريخ الحافل بالمعرفــــة وحــــرص التونســـي عليهـــا بكل أشكالها وتحت أي ظرف والصعوبـــات التـــي تحملها أجدادنا من أجل تحصيل العلم رغم مشقة السفر من مناطق مختلفة والغربة وشظف العيش في تلك الأزمنة كل هذا لم يثني التونسي عن التعلم حتى داخل المؤسسات الفرنسية رغم مناهــج التغــريب وطمـــس كل معالم الهوية العربية الإسلامية فيها إيمانا منه بأن مقاومة الاحتلال تقتضي فكرا نيّرا وعلما واسعا، فتخرّج من هذه المدارس مناظلون أشداء وعلماء فطاحلة في القانـــون والسياسة خلصونا من الاحتلال الأول بدحر فرنسا وتوْنسة التعليم..
جاء بورقيبة واعدا بمحو الأمية ومساواة الجنسين في التعلّم حاثا كل مواطن على الانخراط فيه بمجانيته وإجباريته وهذه تحسب له رغم عديد المآخذ في تفاصيل قد نتفقد معه ونختلف حولها ورغم التدهور الحاصل في أواخر عهده وذهاب العقل المتعلم فيه. انتقلنا إثرها إلى عهد آخر عنوانه الفساد في كل مفصل من مفاصل الدولة والشيء من مأتاه لا يستغرب فرأس الهرم وزوجه كانا أحوج الناس للتعلم, فظهر الارتجال وتتداول الوزراء والمسؤولون وصاروا مجرّد موظفين يأتمرون بأوامر أرذل القوم من المستشــارين ممن لا شأن لهم بالتربية ولا بالتعليم ولا بالتعلّم وبات هذا القطاع الحيوي مجرد مخبر يخضع فيه أبناؤنا لتجارب ثبت فشلها في عقر دارها, تغيرت مسميات الـــوزارة فتراوحت بيــــن وزارة التربيـــة ثم التعليم ثم التربية والتعليم والتربية والتكوين وكل ذلك بثمن واستشرى الفساد وظهرت طبقة من المتربحين من الصفقات المشبوهة في مشاريع وهمية ونصف منجزة وملغاة ومتوقفة ومؤجلة ورِشًا بالملايين تأخذ من عرق الفقراء نظير الحصـــول على وظيفة، بات الارتجال سمة مواقف الوزير وأعوانه وصار الولي كما المربي لا يعلم ما يكون قرار اليوم الموالي في الامتحانات الوطنية والجهوية فشهدنا إلغاء مناظرة و نفي ذلك في ذات الأسبوع  وما خفي كان أعظم ننتظر كشفه...
ثار شعبنا بكل أطيافه وخلصنا والحمد لله من الاحتلال الثاني... غير أن التحديات الجسيمة التي تواجه هذا القطاع الحيوي تقتضي منا التفكير ألف مرة قبل اتخاذ القرارات اللاحقة والإصلاحات المنشودة ، هذا العصب المركزي لكل تنمية مستدامة ولكل شعب أراد أن يفاخر الأمم بثورته ونهضته، يكفي أن أذكر أن الألمان تمسكوا بتسيير وزارة التربية وتركوا ما بقي لعدوهم إبان الحرب الثانية إيمانا منهم بقدرة المدرسة على توجيه بقيـــة القطاعـــات وقد تحققت لهم تلك النهضة بعد أقل من 30 عاما فسادوا أوروبا رغم نزوح جل طاقاتهم العلمية إلى أمريكا، والأمــــر ليـــس عصيا على شعبنا الجدير بهذه المرتبة التي ضحى آباؤنا من أجلها، جدير بمدرسة تؤسس لأجيال مؤمنة بكل معاني الحرية في شموليتها تدافع عنها حتى لا يعاد الاحتلال والاستبداد لهذه الأرض الطيبة، مدرسة تفرز طاقات فاعلة في جميع المجالات ولا تفرخ عاطلين بذريعة  حق النجاح، مدرسة تعتمد نظريات علوم التربية الحديثـــة لا النظريات المهجورة في أوطانها مستلهمة من التجارب الناجحة وتطويعها لواقعنا لا أن تسقط إسقاطا، تعليما يكون للكل فيه رأي  وتُسند مسؤولية الإشراف عليه لأيادي أمينة, تعمل بما تعلم وتعلم بما تعمل, تعليما يفرد  بفصل بالدستور المنتظر يحدد خطوطه العريضة ويحميه من التلاعب والاستغلال السياسي المقيت.