بهدوء

بقلم
محمد القوماني
الاسلام ونظام الحكم : من الخلافة الراشدة إلى الجمهورية الديمقراطية

كانت قضية الحكم / السلطة / السياسية/ الإمامة أو الخلافة بتعبير القدماء أولى موضوعات الخلاف بين المسلمين وأخطرها. وظلت محلّ نزاع بينهم منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحتى تاريخنا المعاصر.

ففي تاريخنا القديم لم يقف الخلاف حول مسألة "الإمامة" عند حدود الجدل النظري الحادّ والحجاج العقلي والنقلي، بل جرّد المسلمون سيوفهم لحلّ هذا الخلاف.يقول الشهرستاني في كتابه" الملل و النحل" وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة.إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثلما سلّ على الإمامة في كلّ زمان."(1)

وفي تاريخنا المعاصر فجّر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق أكبر المعارك الفكرية في ساحتنا ومازال الموضوع يثير جدالا واسعا ويشكل محور صراع محتدم، خاصّة مع تنامي حركات الإسلام السياسي وصعود بعضها إلى الحكم بعد ثورات الربيع العربي.

فالإمامة (السياسية) هي الموضوع الذي يجمع بين النظر والعمل وبين العقيدة والشريعة وبين توحيد الإله ونظام المدينة (المجتمع) بين أصول الدين والفقه، وفيه تنقل القضايا العقائدية من المستوى النظري الفردي في مسائل "الأسماء والصفات" إلى المستوى الجماعي في قضية الإمامة. وفي هذا المستوى يتمّ تأويل العقائد حسب مقتضيات الواقع وصراع المصالح كما تعبّر المجموعات عن تطلعاتها السياسية بمقالات دينية. ولنا في الأصول الخمسة للمعتزلة خير مثال على ما نقول. فأصل "التوحيد" قاد المعتزلة إلى رفضهم لقدم "كلمة الله" وهو الموقف الذي تحول إلى معركة سياسية على عهد المأمون فيما يعترف بمحنة خلق القرآن. وأصل" العدل" كان وراء قول أعلام المعتزلة بالحرية في مواجهة فكرية وسياسية لحكام بني أمية الذين وظفوا عقيدة الجبر لتبرير سلطانهم. وأصل" الوعد والوعيد" كان موقفا ضدّ المرجئة الذين اضفوا الشرعية على الحكّام الأمويّين برفض زوال الإيمان عنهم. وأصل "المنزلة بين المنزلتين" كان توسطا بين المرجئة والخوارج وتحريضا على الخروج على الحكام الفسقة. أمّا الأصل الخامس وهو:" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فكان قاعدة العمل السياسي الثوري لدى المعتزلة وجوّزوا به استعمال السيف لتغيير الواقع الفاسد.

ومن ناحية ثانية يمكن القول بأنّ الموقف من الإمامة (الحكم) زاوية تكشف عن نظرة كل فرد أو فرقة أو جماعة للإنسان وللأمة أي الجماعة الإنسانية. ففيه يظهر الخلاف بين من قالوا بعصمة الفرد (الشيعة) وقصور الأمة وحاجتها إلى الوصاية، وبين من قالوا بعصمة "الأمة" أي الجماعة وبالتالي الثقة بمن تختاره الأغلبية. (أغلب الفرق)

ومن ناحية ثالثة يعتبر الموقف من الإمامة (الحكم) اختبارا عمليا للمبادئ النظرية والعقائد ومدى جدواها في معالجة قضايا الواقع واستجابتها لمصالح الناس وطموحاتهم. فالنظرية السياسية تتوج المشروع النظري للفيلسوف. وربما لهذا السبب كان مبحث الإمامة في آخر مقالات المتكلّمين في تراثنا.

 

توطئة تاريخية

 

توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبل ترتيب أمور دفنه، سارع جماعة من أصحابه إلى الاجتماع للّنظر في أمر خلافته فيما يعرف باجتماع السقيفة.

ويبدو أن ضمان استمرار دين محمّد صلى الله عليه وسلّم وثيق الصلة بتعيين خليفة له، وربّما كان الصحابة محقّين في اعتباره أهم من دفن الرسول. وكان أبو بكر أوّل خليفة لرسول الله. ولاشك أنّ الخلافة هنا سياسية وليست دينية. فالنبيّ الذي كان يقود الأمة الناشئة لا يُخلف في نبوته وهذا ما يعطي الخلافة طابعها السياسي رغم قرار الخليفة الأول بمقاتلة "من فرّق بين الصلاة والزكاة". وإذا كان أبو بكر مؤسس دولة الخلافة، فإنّ حكمه الذي لم يدم سوى سنتين ونيف جعل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب  هو من يرسي دعائم نظام الخلافة ويعطيه تشكّله الأوّل. مستفيدا بالطبع من الخبرات الجديدة التي اكتسبها العرب بتوسّع الفتوحات. ويمكن القول دون الدخول في التفاصيل أن نظام الخلافة كان نظام الحكم الذي استمرّ عليه المسلمون بتسميات مختلفة وإضافات متعدّدة وحالات صعود أو هبوط لمدّة أربعة عشر قرنا تقريبا. وهو النظام الذي نجده مدوّنا فكرا وممارسة بين كتب مقالات المتكلّمين وكتب الأحكام السلطانية والسياسية الشرعية وكتب التاريخ ومراجع شتّى. وقد أصبغ المسلمون صفة "الخلافة الراشدة" على حكم الخلفاء الأربع الأوائل، استحسانا لحكمهم الذي كان في جوهره، قريبا من قيم الإسلام، رغم بعض الاعتراضات في التفاصيل.

 

الإمامة أو الخلافة والأحكام السلطانية

 في التراث العربي الإسلامي القديم

 

تتوزع مقالات الإسلاميين من القدماء حول الإمامة كما هو شائع بين القدماء، أو الخلافة كما الشأن لدى المحدثين خاصة، بين كتب أصول الدين وكتب السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية. وتدور تلك المقالات في مجملها حول تعريف الإمامة وحكمها وموقعها في العلوم الإسلامية وصفات الإمام وطريقة تعيينه وهل تكون الإمامة بالنص أو بالاختيار وما هي شروط عقدها وما هي أهم واجبات الإمام وحقوقه على الأمّة ومختلف الولايات التي يعقدها لمساعديه وكيف يمارسونها. وهذا المبحث الأخير اختصّ به الماوردي وأبو يعلى الفرّاء في الكتابين الذين يحملان نفس العنوان وهو "الأحكام السلطانية" ويكاد يكون مضمونهما واحد.

 

وبالعودة إلى المصادر والمراجع ذات الصلة بهذا المبحث وعناوينه المختلفة المشار إليها سابقا يهمّنا التوقف عند أربع ملاحظات:

 

 

1- السلطة المشخّصة المستندة إلى أصل ديني :

 

يقول الماوردي في مقدمة كتابه "الأحكام السلطانية": " إنّ الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوّة، وحاط به الملّة، وفوّض إليه السياسة، ليصدر التدبير عن دين مشروع وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرّت قواعد الملّــــة، وانتظمــــت به مصالح الأمــــة حتى استثبتت بها الأمور العامّة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها عن كل حكم سلطانــــي، ووجب ذكر ما اختصّ بنظرها على كل نظر ديني، لترتيب أحكام الولايات علـــى نســـق متناسب الأقســـام متشاكــل الأحكــــــام" (2).

وبالرجوع إلى تعريفات الإمامة عند الإيجي وابن خلدون والماوردي وغيرهم وبالتأمل في صفات الإمام من عدل  وتقدّم في الفضل وشجاعة وزهد وعصمة وربّما "خلود "أو"رجعة" (الشيعة). نتبيّن أنّ الجدل السياسي يدور حول الإمام "الشخص" دون التعرض لباقي جوانب المسألة السياسية مثل المؤسسات الدستورية ووسائل الرقابة الشعبية. وتعقد المقارنة بين الإمامة العظمى (الخلافة) والإمامة الصغرى (إمامة الصلاة) من أجل إضفاء الطابع الديني على السياسة طلبا للطاعة. تماما كما تؤكد التعريفات على جمع السلطتين الدينية والدنيوية في شخص الإمام.

 

2- تبرير لوقائع تاريخية وليس تنظيرا سياسيا :

 

يسهل على كل متأمل في مباحث حكم الإمامة وهل تجب عقلا أم مشرعا أم عقلا وشرعا، والميل في الغالب إلى تبرير الإمامة شرعا عن طريق الإجماع المزعوم من خلال الوقائع التاريخية، والجدل حول عدد من تُعقد بهم الإمامة شرعا (واحد واثنين كما في السقيفة أو خمسة كما فعل الخليفة الثاني أو جماعة من أهل الحلّ والعقد...) استنادا إلى وقائع تاريخية أيضا، واشتراط صفات الزهد والشجاعة والخروج وطلب الإمامة... والقول بإمامة المفضول مع جود الأفضل للتوفيق بين الولاء لعليّ بن أبي طالب وأفضليّته دون الطعن في شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان من قبله...وغيرها من الآراء التي بذل السلف فيها جهودا كبيرة بدت أقرب إلى تبرير وقائع معيّنة وإضفاء الشرعية على أحداث محدّدة، منها إلى محاولات للتنظير السياسي، على غرار بعض المحاولات القليلة مثل قول الفوطي والأصمّ من المعتزلة والنجدات من الخوارج بعدم وجوب الإمامة.

فقد قال هشام الفـوطي "لا تنعقد الإمامة في أيام الفتنة واختلاف الناس وإنّما يجوز عقدها في حالة الاتفاق والسلامة" (3) وقال أبو بكر الأصم "لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام" (4). فالفـوطي يرى السلطة مشروطة بالاستقرار واجتماع كلمة الناس على الحق. والأصمّ يرسم صورة مثالية لمجتمع بلا سلطة يكون فيه كلّ فرد سيّدا على نفسه.

 

3- مصالح دنيوية أكثر ممّن هي مسائل دينية:

 

رغم ما يبدو في تعريف الإمامة من جمع بين الديني والدنيوي في شخص الإمام "رياسة عامّة في أمور الدين والدنيا" كما يقول الإيجي وابن خلدون، ورغم التأكيد على وجوب الإمامة لدى جميع الفرق الإسلامية مع اختلاف في وجوبها على الله (الشيعة) أم على الناس (المعتزلة وأهل السنّة) ورغم ما ذهب إليه القدامى من أن الإمامة أصل من أصول الدين (الشيعة) أو فرع من أصل (المعتزلة) أو باب من أبواب الفقه (أهل السنة)، رغم كل ذلك فإنّ التوقف عند تحديد مهامّ الإمام والغرض من الإمامة يجعلها أقرب إلى المصالح الدنيوية منها إلى المسائل الدينية. يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "إنّ الإمام مدفوع فيما يتّصل بأمر السياسة إلى أمرين : أحدهما أمر الدين والآخر أمر الدنيا. وفي كلّ واحد منها يلزمه النظر من وجهتيــــن : أحدهمـــا ما يعود بالنفع والآخر ما يندفع به الضرر"(5). ولاشكّ أن تحديد المنفعة والمضرّة باب عريض للاجتهاد والتعديل بحسب معطيات الزمان والمكان. ناهيك أنّها منافع أو مضارّ عامّة (للكافّة) وليست خاصّة.

كما أنّ المهام العشرة الأساسية التي حدّدها الماوردي للإمام وهي باختصار : حفظ الدين وتنفيذ الأحكام وحماية البيضة وإقامة الحدود وتحصين الثغور وجهاد من عاند الإسلام وجباية الفيء والصدقات، وتقدير العطايا واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء ومباشرة الأمور وتصفح الأحوال. هذه المهام في مجملها تعود إلى تنظيم حياة الجماعة وحفظ مصالحها وهي مسائل دنيوية بامتياز.

 

4- حكم شمولي لا فصل فيه بين السلطات :

 

مهام الإمام كما ضبطها الماوردي فيما سبق والولايات الدينية التي فصّلها في "الأحكام السلطانية". (تقليد الوزارة، وتقليد الإمارة على البلاد، وتقليد الإمارة على الجهاد، والولاية على حروب المصالح (حرب داخلية)، وولاية القضاء، وولاية المظالم، والولاية على إمامة الصلوات، والولاية على الحجّ وعلى الصدقات وعلى الفيء والغنيمة والجزية والخراج وفي إحياء الموات واستخراج المياه وفي وضع الديوان....الخ.

كلّ هذه الولايات التي تعود إلى المهمّة التاسعة التي حدّدها الماوردي للإمام تمثل خطوة نوعية وبداية اتجاه واضح للحديث عن الدولة وأجهزتها في الأحكام السلطانية، بدل الاختصار على شخص الإمام كما الأمر في علم الكلام.

هذه الخطوة على أهميّتها، لا تخفي عن العيان الطابع الشمولي لنظام الخلافة وإرجاع السلطات جميعا إلى شخص الخليفة الذي يجتهد بدوره ويشرّع ويقضي بين الناس ويتفقد الرعيّة ويؤمّ الناس في الصلوات.

هذا إضافة إلى ما يقرّره الماوردي من حقّين للإمام على الأمة

وهما : "الطاعة والنصرة ما لم  يتغيّر حاله" وذلك بسبب جرح في عدالته أو نقص في بدنه"(6)

وهو بذلك على غرار كلّ مفكّري الإسلام من السلف، لا يقيّد فترة حكم الخليفة بزمن بل بعوارض ذاتية أخلاقية أو بدنيّة.

 

الاسلام ونظام الحكم

من الخلافة الراشدة إلى الجمهورية الديمقراطية

 

انطلاقا من ملاحظاتنا الأربعة التي تقدّمت حول مقالات الإمامة والأحكام السلطانية في تراثنا القديم التي تُقدم في الغالب باسم نظام الحكم في الإسلام، وإضافة إلى ما تضمنته الفقرات السابقة من إشارات صريحة أو ضمنيّة، فإننا نخلص إلى الاستنتاجات التالية التي نراها آفاقا لرؤية مختلفة لموضوع الإسلام ونظام الحكم:

1– إن ما رآه الإسلاميون- قديما– وما قرّروه من صيغ لنظام الحكم، يمكن نقضه من داخل المنظومة نفسها بما يعارضه من أطروحات مخالفة (نقض الشيعة بالسنّة، ونقض السنة بالمعتزلة ، ونقض الخوارج بالسنة ونقض المعتزلة بالشيعة وهكذا...) كما يمكن نقضه بما نرتئيه اليوم من أطروحات جديدة وتأويلات مغايرة للإسلام، بما يؤكد أن مسألة الحكم اجتهاديّة بحتة. وهي رؤى بشرية لا تكتسي أي قداسة وإن اصطبغت بالدين لصلتها بأصوله من قرآن وسنّة ولأنها صيغت في فضاء إسلامي، لكنها تظل اجتهادات وليست مُلزمات.

2– إن الإسلام على ما تضمنته نصوصه التأسيسية من قرآن وسنة صحيحة من مبادئ في العدل والحرية، وإن التراث الإسلامي على ما احتوى من جوانب مشرقة في الدفاع عن حق الجماعة وعن  البيعة والاختيار وحق تغيير الحاكم الظالم ونزعة نحو الحرية، إن كل ذلك لم يمنع ما عرفه تاريخنا من ظلم واستبداد على يد الحكام. وإنّ ما عرفه المسلمون في تاريخهم من نظام سياسي متميز للحكم، اشتهر بنظام الخلافة رغم اختلاف التسميات. نظروا إليه دوما على أنه نظام إسلامي وإن تنازعوا في تفاصيله نظريا وعمليا. نحا به البعض إلى العدل و الحرية ومال به آخرون إلى الظلم والاستبداد، أيده فريق وعارضه آخر، لكنه لم يُعامل في الغالب بوصفه نظاما دينيا ثيوقراطيا مقدسا.

3 – إن نفي صفة القداسة أو الدينية" الثيوقراطيّة"- بمعنى السلطة المستندة إلى  شريعة إلهية- عن نظام الخلافة وعن أيّ حكم يستند إلى الإسلام ، والقول بتاريخية نظام الحكم من زاوية إسلاميّة- وهذا محل وفاق واسع بين المسلمين- وإنّ التمييز بين "الدين" و"الدولة" لا يعني ضرورة بل لا يبرّر الفصل المستحيل بين الديني والدنيوي أو الإسلام والسياسة. فمن المهم التنبّه إلى خصوصية النظرة الإسلامية إلى الأعمال وإلى "الحقيقة" باعتبارها في ذات الوقت دينية من جهة ودنيوية من جهة أخرى. وهذا ما جعل المفكر الإسلامي الكبير محمد إقبال يقول "روح التوحيد بصفته فكرة قابلة للتنفيذ هو المساواة والتضامن والحرية. والدولة في نظر الإسلام هي محاولة تبذل بقصد تحويل هذه المبادئ المثالية إلى قوى مكانية زمانية، هي إلهام لتحقيق هذه المبادئ في نظام إنساني معين. والدولة في الإسلام ليست ثيوقراطية أي دينية إلا بهذا المعنى وحده لا بمعنى أن على رأسها خليفة الله في الأرض يستطيع دائما أن يستر إرادته المستبدّة وراء عصمته المزعومة"، وقد غاب هذا الاعتبـــار الهام عن أنظار نقّاد  الإسلام"(7). فكل اجتهاد  بشري  لتحقيق  مبدأ  ديني/ مثالي يكتسي طابعا دينيا وروحانيا بمعنى ما، دون أن يصير مُقدّسا. وكل أعمال المسلم يمكن أن تُحمل على أنها عبادة، بما في ذلك الأكل والنوم.

5 – إنّ غالبية المسلمين اليوم يتطلعون إلى نظام سياسي قوامه الحرية والعدل واحترام حقوق الإنسان، وهو الحكم الصالح الذي نراه فيما نصطلح عليه حديثا بالنظام الديمقراطي. بما فيه من مبادئ أساسية في المواطنة  والفصل بين السلطات والتعددية الحزبيّة وتنظيم للتّداول السلمي على الحكم، واحترام الحريات الفردية والعامة وضمان حقوق الانسان والاحتكام إلى الرأي العام عبر إعلام حر وانتخابات نزيهة... وهذه المبادئ لئن خلا منها تراثنا السياسي ولم يقم عليها نظام الخلافة في تجربتنا التاريخية، فإنها تُعدّ من إبداعات عصرنا ومكاسبه، ولا أرى في نصوص الإسلام التأسيسية أو في تعاليمه ومبادئه ما يناقضها أم يمنع تحققها في ربوعنا، خاصّة إذا استحضرنا مرونة التشريعات في النصوص التأسيسية ذات الصّلة . وان مزايا الديمقراطية الحديثة التي عرفها الغرب فكرا وممارسة جعلت كثيرا من مفكري الإسلام يتبنونها كشعار بما في ذلك المودودي الذي دعا إلى ما سمّاه " ثيوقراطية ديمقراطيّة" أي "حاكمية شعبية مقيده بسلطة الله القاهرة". (8). ولسنا نفهم المانع من وصف نظام الحكم الذي نراه مناسبا لواقعنا المعاصر من زاوية إسلامية بـ: "نظام الحكم الديمقراطي".

6 – ان الأنظمة الديمقراطية بتجاربها المختلفة في عصرنا على ما فيها من فضائل لاتمنع الإقرار ببعض نواقصها و"عيوبها"، مثل انتزاع السلطة من الجمهور لصالح "رأس المال" الذي يحتكر الإعلام ويتلاعب بالرأي العام ومثل تركيز السلطة في يد أحزاب تقليدية تشكل "دولة الأثرياء" أو المجالس النيابية التي ينتخبها الجمهور فتصبح في خدمة "فئات معينة" أو الحكومات الديمقراطية التي تشرع غزو الشعوب واستعمارها ونهب ثرواتها وتمارس سياسته خارجية تعمل بالمكيالين. وهذا ما يشرّع للمسلمين المعاصرين التطلع إلى نظام ديمقراطي تكون فيه الخصوصية والإضافة النوعية، ويغتني بقيم الإسلام الخالدة وتعاليمه السمحة.

ختاما، إن نظاما ديمقراطيا نتطلع إليه في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، بعد الثورات المباركة خاصة، يحتاج إلى الحوار الهادئ والمعمّق باتجاه آفاق أرحب وصيغ أكثر تناسب مع بيئتنا الثقافية والاجتماعية والحضارية. ولا نجانب الصواب إذا اختزلنا تطلعنا السياسي في القول بأن الخلافة الراشدة في صدر الإسلام،التي نستأنس بها ولا نقيس عليها، تتحقق في عصرنا عبر بناء الجمهورية الديمقراطية، التي تحفظ قيم الإسلام وتأخذ بمكتسبات العصر لفظا ومعنى.

 

الاحالات

(1) الشهرستاني، الملل  والنحل ، ج1 ص21 دار المعرفة، بيروت ط2 (1975)

(2) أبو الحسن الماوردي،الأحكام السلطانية، ص3، دار الكتب العلمية، بيروت (1978)

(3) الشهرستاني، ن.م ص92

(4) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص460،تصحيح هلموت رويتر، دار النشر فرانزشتايز بقيسنبادن، ط3 (1980)

(5) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج20ق1ص97، الدار المصرية للتأليف والترجمة (دت)

(6) الماوردي ن .م ص17

 (7) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام،ص177 القاهرة ط2(1968)

(8) المودودي، نظرية الإسلام السياسية (محاضرة في طبعة تونسية خاصة دون تدقيق)