تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
قوس قزح

 في مدينتنا الساحلية شرقا، وفي يوم من الأيام الباقيات من شتاء بارد وقارص، أتلفت رياحه العاتية كل سحابة ودفعت بها بحرا لعلّها لتروي أسماكه أو لتعدل ملوحته.

كانت الشمس في هذا اليوم مشرقة طيلة الصباح الذي بدأ يتمطط بعد انكماش طال شهرين كاملين أو يزيد، استبشر بها أصحاب النزل مرضاة لنزلائهم من سياح لم تسعفهم جيوبهم للاستمتاع بالشمس والبحر صيفا، فدفء الشتاء يعد بالعودة وبالرزق وبدوران الدواليب. أما أصيلي المدينة فلم تبعث فيهم الشمس سوى اليأس الذي بدأ يطارد راحة البال عند كبارهم والبشاشة من أقنعتهم التي أبت إلى العبوس.
وكانت السماء زرقاء زرقة يشوبها بياض في كبدها فيتناثر مصفرا نحو آفاقها.
 
﴿ إن الشيب يصيب كلّ يائس بائس﴾
 
لقد غادرت العصافير أوكارهــــا بحثــــا عــن الــــرزق وأوغلـــت منذ الصباح في عمق السماء ليكـــــون صيدهـــــا وافـــرا. وقصد كل ذي شغل مشغلـــه إلا من كان شغله بأرض، ضرب بيد على يد وظــــل يطــــوي الأيــــام وتطويــــه. وكان شغلــــي فــــي تبرئتــــي مــــــن جــــرم لـــم أقترفــــه، وطــــــال انتظــــاري للمحامــــي الذي أغرتني شهرته فأقبلت عليه لينوب عنـــي فــــي قضيتــــي. وفي هذا الجو الربيعي بقيت أتأمل الغيوم التي بدأت منذ الـــــزوال في الظهور صغيـــرة مثــــل الخرفــــان الضالــــة، فإذا بها صارت قطعانا متناثرة ثم تزايدت وانتظمت فتراكمت حتى كانــــت كثبانــــا من صوف يميل في بعض الزوايا إلى السواد وفي بعضهـــا الآخر إلى البياض الناصع. ومن هناك وفي اتجاه البحر من الجانب الأيمن أصبح الركام عصرا أكثر اندفاعا وعلّوا، وصارت الشمس محتجبــــــة تتـــــراءى مثل عين أمي خلف ملاءتها فتبلغ أحيانا أصابعها الذهبية مناطق السحاب فتكشف أسرار تحركاته ونواياه. أرى من حيث كنت غليانه يثير فقاعات على رؤى قممه بينما ازداد أسفله قتامــــه. فمن يــــدري ما يخفيــــه هــــذا التستــــر بالظــــلام وكيف لنا أن لا نخاف المجهــــول الغامــــض. بقدر ما يزداد الســـواد بقـــدر ما يزداد الخــــوف. لقد رأيته مرارا من ظلمته يرمينا بأحجار البرد فلا ينجو من العبــــاد إلا من كان تحت سقف من حديد وفي ركن من حجــــر. ولكن كيف ينجــــــو تحت السقف مــــن كــــان البــــرد يهشـــم لــــه الأخضـــر واليـــابس خارجـــــا ويساوي بينهما.
هاهي الشمس تنقطع أصابعها الممتدة وتنجذب هاربة خلف سحب صبغت بالحمرة. وبين الخوف والرجاء انساب النسيم بعد ركوده طول النهار. لم يستشعر أحد وقع الريح التي تهب الآن شرقية باردة تلسع الوجوه فلتوح بالأقنعة الحزينة البالية. تراكض النـــاس حيث قد يصيبهم البلل، هناك تحت الأفق تدلّت من تحت السحب أشلالا منها قاتمة في مناطق الظل ومضيئة حين تدغدغها أشعة الشمس التي انحنت فوق سطوح المباني ومالت غربا. دبّت الحركة أرضا وجوّا. عادت الطيور فتكاثر زحامها وفزعها، واستبشر الناس فاشرأبت أعناقهم إلى السماء. بلغت موجات الهـــــواء المنبعثــــة من تحت السحب فهزت أغصان الأشجار ولسعتها برطوبتها، فاستدارت ورقات الزيتون وباتت خضراء خضرة لا يشوبها بياض. أصيبت الزياتين بالشيب ثم شفيت.
 
﴿ لا يستفحل الشيب إلا باليائس﴾
 
هناك استرقت الشمس النظر بعد أن سلكت لنفسها منفذا بين الغيوم فبعثت بأصابعها اللامرئية ورسمت على قاعدة السحب من الجهة الأخرى قوس قزح بانت ألوانه كما على لوحة إشهار، الأحمر والأصفر والأزرق ثم البنفسجي.
إن القزح مبهر للأنظار. إن القوس حامل دليل براءتي. أيّها المحامي هل رأيته؟ أيها القاضــي، أرجــــو أن لا تكـــون الآن تحت القـــوس ولا خلفه، أجعل مركزك بين الشمس والرّكام.