للتأمّـــــل

بقلم
د.محمد كشكار
بعد الثورة، أصبح التونسي (سلطة و معارضة و شعبا) يتلف ثروته العلمية و يفعل بها ما يفعل العدوُّ بعدوِّ

 ◄ تعطّلت الدراسة بكلية منوبة للعلوم الإنسانية بطُلاّبها الثمانية آلاف، العام الماضي على مدى أشهر طوال بسبب خلافات إيديولوجية عقيمة سخيفــــة رجعيـــة وساذجـــة، داء حادث جديـــد لم يصبنا حتى في زمن انحطاطنا أو فترة استعمارنا.

◄أهدرنا ملايين من ساعات الدراسة التلمذية والطلابية في التغيب الإرادي عن حصص التكوين والتحصيل العلمي. ويعتبر هذا الإهدار أكبر خسارة علمية مُنِيت بها تونس ما بعد الثورة وأصنفها كجريمة في حق الإنسانية، جريمة لا تموت بالتقادم.
◄أهدرنا ملايين الدينارات من المال العام في تكوين تلامذة المعاهد النموذجية التونسية وفي الآخر نرى جلّهم يهاجرون ويتجنّسون ويعملون في الخارج ويفيدون غيرنا بخبراتهـــم التـــي تعلّموهـــا في تونس. نخجل من مقارنة مرتباتهم العالية في الخارج بالدولار مع مرتبات الأجر الأدنى بالدينار للتونسيين دافعى الضرائب الذين صرفوا من قوتهم وقوت أولادهم على تعليم وتأهيل خيرة أبنائنا النجباء ناكري الجميل رغم أنوفهم وقليل من البشر في هذا الزمن، قادر أن يصمد في وجه الإغراءات الماديــــة حتـــى ولـــو كانت على حساب الإيفاء بالواجب نحو وطن كريم. الله يسامحهم ويسهل لهم الطريق ولعلهم يوما يتفكرون وطنهم ويردون له الجميل!
◄ أهدرنا في المجال العلمي أيضا ملايين من ساعات العمل العلمي الذي كان من المفروض أن ينجزه مئات الآلاف من المجازين المتخرجين منذ عشر سنوات، درّسناهم وصرفنا على تكوينهم العلمي الأكاديمي ملايين الدينارات من أمــوال دافعـــي الضرائــب من أمثالي وأمثالك وأبقيناهم عاطلين عن العمل. فمثلنا إذن، كمثل دولة تشتري محركات كهربائية لإنتاج الطاقة وعوض أن تشغّلها، تتركها في المخزن حتى يأكلها الصدأ.
◄ هربا من الاستبداد قبل الثورة وخوفا من انعدام الأمن بعد الثورة، هاجر، من بلدان الديكتاتوريات العربية إلى بلدان الديمقراطيات الغربية، مئات الآلاف من العلماء والباحثين والأساتذة والأطباء والمهندسين المكوَّنين في البلدان العربية، فأصبح مثلنا كمثل فلاح يغرس ويرعى الشجرة ويسقيها ويغذيها ويقلّمها وعندما تزهر وتثمر، يأتي السارق ويقطفها فيموت الفلاح بحسرته خاصة عندما يكون السارق إرهابيا محترفا ومدججا بالصواريخ والطيران والنووي والكيميائي المزدوج مثل السارق المحترف الذي شُهِرَ باسم أمريكا أو قريبه الذي شُهِرَ باسم أوروبا.
◄ مثال أخير وشخصي، أنبه القارئ أنني عندما أشتغل على ذاتي فهذا لا يعني البتة نرجسية مرضية أو تضخّما في الأنـــا والــذات وقد سبق لي أن جَلَدْتُ ذاتي جلــــدا بصرامـــة علميـــة لا رحمــة ولا عاطفة فيها وانتقدت نفسي علنا ونشرا وأبرزت عيوبي وفضحت نقاط ضعفي، وإنما هو اشتغال علمي على الــذات يأتــي من باب المعرفة بالشيء وما دمت لست باحثا اجتماعيـــا أكاديميــا ولا تتوفر لديّ أي مادة أو معلومات موثقة على الآخرين لكي أشتغل عليها، لا يوجد في متناولي إذن غيــــــــر تجربتــــي الشخصيـــة التي لا أطرحها كنموذج ناجح بل أعرضها للنقد العلني كنموذج فاشل بامتياز وفشلها يفسّره تفاعل متواصل ومستمر في الزمان والمكان بين الأسباب الذاتية والأسباب الموضوعيـــة، الخارجــة عن نطاقي في جل الأحيان، ومن هذا التفاعل تنبثق شخصيتــي، فهي إذن ملكي وليست ملكي في آن:
 1. منذ 1998، خسرت الدولة التونسية علـــيَّ وعلـــى زملائــي في المرحلة الثالثة ملايين الدنانير و”الأوروات“ لتكوّن منّا مختصين في علم جديد نسبيّا اسمه تعلّميّة البيولوجيا وبعد تحصلنا على شهادة الدكتورا من أرقى الجامعات الفرنسية، وظفــت منـــّا في الجامعة 9 على 13، كلهم يدرّسون في غير اختصاصهم  بقيتُ أنا وزميل آخر على الرّف، ”شيء من الحنّة وشيء من رطابة اليدين“. وفي المقابل نرى أن اختصاصنـــا الــــذي أمضينـــا فيـــه 8 سنوات بحث علمي متنقلين بين تونس وفرنسا، نـــراه يُـــدرّس من قبل متفقدي ثانوي لم يدْرسوه أكاديميا ولو يوما واحدا. 
2. و أغرب ما رأيت في باب إهدار الطاقات العلمية أن يُعيَّن أستاذا مكوّنا غير مختص في التعلّميّة ولا في البيداغوجيا، أستاذ ثانوي يكوّن أساتذة الثانوي في التعلّميّة والبيداغوجيا وأُستَدعَى أنا المختص لحضور حلقات التكوين التي يشرف عليها غير مختص. كان زميلي المكوّن المحترم ”السنباتيك“- و الذي أحييه بالمناسبة على المجهود العصامي الذي بذله لاكتساب مهارات في هذين الاختصاصين - يجاملني ويطلب موافقتي بالإيماءة الرأسية على كل ما يقوله ولذلك اضطرّ لمغادرة الحصة في أولها احتراما له وتجنبا لإحراجه علميّا أمام الزملاء المتلقين. يبدو لي أن أستاذا يــدرّس ولو على غير صواب، أفضل من، أستاذ متردد في إلقاء درسه.