نقاط على الحروف

بقلم
اسماعيل بوسروال
الأبعاد الإستراتيجية لاغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد

 مقدمة

المنطقة العربية تحت حكم سلطات الفرد المطلقة قبل الربيع العربي.
كانت المنطقة العربية ترزح تحت أنظمة استبدادية طيلة نصف قرن بعد خروج الاستعمار وفي ظل الدولة الوطنية المستقلة لم ينعم خلالها المواطن بالحرية السياسية ولا بالعدالة الاجتماعية ولا بالرفاهية الاقتصادية ...أنظمة حاكمة تحولت تدريجيا الى شبكة مصالح وعلاقات ....وجاءت ثورات الربيع العربي لتنعش الآمال في قيام أنظمة تحترم مواطنيها ...
 
الثورة التونسية وعودة الامل  .
 
مثلت الثورة التونسية عودة الأمل للتونسيين كي يبنوا دولة يحلو فيها العيش، لا تمنع فيها الكلمة ولا تسلب فيها الحق ولا يخشى فيها الفرد على نفسه وذلك بعد الخيبة الاولى التي اعقبت بدء بناء دولة الاستقلال التي حققت الكثير من النجاحات. ولا يمكننا ان نبخس رجالها حقهم لأن المسائل نسبية ...ولكنها فشلت فشلا ذريعا في "بناء دولة مؤسسات " تقوم على أساس التداول السلمي على السلطة على قاعدة الانتخـــــاب مع ضمــــان احتــــــرام الإرادة الحــــرة للمواطـــــن في الاختيار ...هذا الفشل طبع العهدين البورقيبي والنوفمبري بهيمنة سلطات الفرد المطلقة على جميع أجهزة الدولة مع تأكيد الفارق بين العهدين في النظافة والنزاهة ازاء المال العام .
 
النخبة التونسية "المتوجسة " واللحظة الفارقة
 
تدرّجـــت الأحـــــداث بعـــد 2011/01/14 بشكــــل أدى الى الاتفاق على انتخاب المجلس الوطني التاسيسي ...ويبدو أن المسار يؤكد ما سبق تحليلـــه من أن النخبة المثقفة لم تجــــد فــــي أجهــــزة النظام ما يجعلها تعتقــــــد أنهــــا إزاء دولــــة مؤسســــات لذا كان مطلب اعتصام القصبة 2 يتركز على انتخاب مجلس تأسيسي، في حين كان ثلاثة من "دينصورات العهدين السابقيــــن " يعدّون وثيقة بعنوان "المجلس الوطني للوفاق والانقاذ " وهؤلاء الثلاثة هم احمد بن صالح واحمد المستيري ومصطفـــــــى الفيلالي . لقد أدرك ثلاثتهم  بحكم التجربــــة أن الثورة نجحت بفضل الحماس وأن بناء الدولة يتطلب الحكمة والعقل ...ولكن التيارات السياسية والفكرية لم تولّ المقترح أهمية. وراحت الأحزاب كل في طريق مــــن أجــــل الفــــوز في الانتخابات .
الشرعية الانتخابية:
المجلس التأسيسي وتشكيل الحكومة
 
مثلت انتخابات 23 اكتوبر 2011 محطة تاريخية فاصلة في الحياة السياسية التونسية لأنها أول انتخابات تعددية نزيهة وشفافة بشهادة المراقبين المحليين والدوليين ...وبذلك عبّر المواطنون والمواطنون بملء إرادتهــــم الحــــرّة  – دون ترغيب أو ترهيب – عن اختيارهم لممثليهم وفازحزب حركة النهضة بنسبة 42 بالمائة من مقاعد المجلس التاسيسي، مما أعطى تأكيدا على ما يعلقه الشعب التونسي على التيار الاسلامي من قدرة على بناء دولة وطنية تحفظ كرامة التونسيين بما توفره من تنمية وما تخلص المجتمع من مظاهر الفساد العام التي اجتهد النظــــــام النوفمبــــري في فرضها على السكان ...
 
الاطار الجيو- استراتيجي للانتقال الديمقراطي 
في تونس 
 
تشكلت الحكومة الشرعية منبثقة من رحم المجلس التاسيسي القادم من عمق الارادة الشعبية ...وكان من المنطقي منذ البداية "تشكيل حكومة وفاق وطني " مثلما تقتضيه طبيعة المرحلة ووفق برنامج متوافق عليه يحوي القواسم المشتركة التي يجمع عليها التونسيون ويتم ترحيل المسائل الخلافية إلى فترة قادمة حيث تصاغ القوانين وتأجيل التنافس السياسي والايديولوجي إلى مرحلة ما بعد إعداد الدستور وتركيز المؤسسات التي تضمن استمرار الدولة والتداول السلمي على السلطة ...
لكن أحزاب شاركت ورعت "وثيقة 18 اكتوبر2007 "وجمعتها بالتيار الاسلامي مواقف عديدة  لكن فرقتها هذه اللحظة، صممت على البقاء في المعارضة ...حيث لم تدرك مختلف الأطراف التي نجحت في الدخول إلى المجلس التأسيسي حجم الأخطار المحدقة بالبلاد التونسية داخليا وإقليميا ودوليا ...فمن الناحية الاستراتيجية لا يمكن تصور اللاموقف لمخابرات دول الحلف الأطلسي (ايطاليا/ فرنسا/ المانيا/ امريكا )وكذلك الموســـاد الإسرائيلـــي بالإضافـــة الى عدم ارتياح الجزائر لثورات الربيع العربي وأيضا انزعاج بعض دول مجلس التعاون الخليجي وخاصة السعودية والإمارات. إن المرحلة التأسيسية في تونس الثورة كان عليها أن تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المحاذير.
التيارات اليسارية والنقابية بين حسابات
 الحقل وحسابات البيدر
 
أما داخليا، فلم يكن من المنطقي تصوّر حلول للمطالب الاجتماعية دون خريطة طريق متفق عليها يتم تناولها مع النقابات والمنظمات ...فلا يمكن مثلا أن تنطلق المشاريع الاقتصادية في مناخ يطغى عليه الصراخ والفوضى والاضطراب ...ولا يمكن توقع نموّ الاستثمار الخاص في أبسط أشكاله واللصوص المجرمون يهجمون على صغار الفلاحين ليسرقــــوا المواشــــي في الليل وفي النهـار، ويقطعــــون أشجــــار الزيتـــون بثمارها، في حين يتولى آخرون قطع الطرقات ومنع المصانع وبالتالي ايقاف شريان الحياة.  
تعزز انخرام الوضع الداخلي في تونس بصعود مكتب تنفيذي للإتحاد العام التونسي للشغل يتكون من نقابيين ينتمـــون إلــــى التيــارات اليسارية – باستثناء أربعة - وهو مكتب تنفيــــذي منتخب بصفة نزيهة وشفافة له الشرعية التي يتمتع بها المجلس التأسيسي والحكومة. ولكن تصريحات بعض أعضائه كانت ذات طابع حزبي بحــت وتحـوّل مــن الدفــــاع عـن حقــوق الشغالين إلى برنامــــج الأحـــزاب الدّاعيـــة إلى إسقاط الحكومة بدعــوى”الثـــورة مستمـــرة“. إنها حسابـــات الحقل وحسابات البيــــدر أي أنهم يسعون جاهدين إلى زرع الفوضى (الحقل) فسيحصدون السلطة (البيدر) اعتقادا منهم في نظرية العنف الثوري الستاليني المواتية للمرحلة .
لقد قام الاتحاد العام التونسي للشغـــل بالـــدور الأهـــم فـــــي تأطيـــــر الاحتجاجـــات التـــي مهّدت لسقوط النظام.ويجـــب الاعتــــراف بدور القيادات الجهوية والوسطى في مسار الثورة التونسية. لكن هذا  الدور تغيّر بعد المؤتمر 22 بطبرقة في أواخر ديسمبر 2011 حيث لاحظنا أن النقابات المهنية قد احتكرت الفضاءات النقابية للتيار اليساري بكل تلويناته الماركسية والقومية  ووظفتها لخدمة المشروع اليساري متعمدة أساليب اقصائية للمنخرطين وللمناضلين الاسلاميين الذين هم شركاء في المنظمة النقابية . 
 
الاحتقان السياسي والاحتقان الاجتماعي وضبابية الافق  
 
سار الانتقال الديمقراطي في تونس في مستويات عالية من الاحتقان السياسي والتوتر الاجتماعي .
لقـــــد تمثــــل الاحتقــــان السياســـي في تصاعد العداء الايديولوجي الموروث بين الاسلاميين والحداثييــــن من خلال توظيف الفضاءات الاعلامية والنقابية واحتكارها من قبل التيارات اليسارية والنوفمبرية لتهاجم الحكومة والنهضة والتيارات الاسلامية بأشدّ عبارات القدح والذم المليء بالادعاءات. 
لقد تحوّلت المنابر الاعلاميّة إلى نوع من ”القصف الاعلامي العنيف“ يستهدف كل ما يتعلق بالتيار الإسلامي ...وبذلك أصبح الشعور السائد لدى أنصار التيار الاسلامي بأنهم يتعرضون إلى قصف إعلامي بأسلوب أطلسي ...قصف إعلامي وظف التلفزة الوطنية لتحتفي الساعات الطوال بالإضرابات والاعتصامات، وكأن ثمــــار الثـــــروة التونسيــــة ستأتــــي من الفـراغ والكســــــــــل وقطـــــع الطريــق والاعتصــــام  وسوء الاخلاق ....احتفالات بالإضرابات الجهويـــــــــــة وحفـــلات مـــــن التحاليــــل الكيديـــة التي لا تعطــــي للعمــــل قيمتــــه ولا للوضع الانتقالي التونسي مميزاته .
ونتيجة لذلك، نشأت بعض المحطات التلفزية البديلة كأداة لتعديل الصراع لتوكل إليها مهمّة كشف الأساليب الاعلامية العدائية الصارخة 
 
الاغتيال السياسي لشكري بلعيد وبعده الاستراتيجي
 
جاء الاغتيال السياسي لشكري بلعيد في ظرف لم تبخل فيه الأطراف على التشهير ببعضها واستباحة كل الاساليب لتشويه الآخــر ... فمن يقف وراء حادثة الاغتيال ؟
الجواب يكون بيد المحققين طبعا ...ولكن التحليل العقلاني يحيلنــا إلى الأسباب العميقة التي تدفع جهة ما إلى أن تطلق الرصاص بدم بارد وفي وضح النهار على شخص معروف بمعارضته للتيار الاسلامي ومن دعاة ”تونس ديمقراطية تقدمية حديثة“ وأدواتـــه في ذلك العمل السياسي ( حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد/ الجبهة الشعبية ) والاحتجاج النقابي ( أنصار الحزب في قيادة الاتحـــاد العــــام التونســــي للشغـــــــل) والجمعيـــــات الطلابيــــة والنسائية،أنشطة ذات طابع سلمي وإن نجحت في إثارة الاحتجاجات ودعم الإضرابات فإنه يجدر التذكير بأن حزبه لم يحصــــل ســـوى على مقعد وحيد في المجلس التأسيسي  في انتخابات 23 اكتوبر 2011...وبالتالي فإن الدور السياسي للحزب لم يبلغ درجة الانتشار الشعبي المؤملة لكل هيكل سياسي لسبب رئيسي حســـب رأيـــــي وهو”التصور السلبي للأحزاب الشيوعية لدى الرأي العام التونسي“ وهو ما كان وراء حذف عبارة ”الشيوعي“ من تسمية ”حزب العمال الشيوعي التونسي“ وحذف عبـــــارة ”اليســـاري“ مــــن تسميــــة ”الحزب الاشتراكي اليساري“ وإن كانــــت بعض عمليات سبر الآراء تعطي تقدّمـــــــــا ملحوظـــــا للجبهـــــة الشعبيــــــــة من 1 في المائــــة الى 10 في المائــــة فإن ذلك يعود أساسا حسب رأيي إلى ”بطء مشــــــاريع التنميـــــة في الجهات“ والذي يعود إلى الاعتصامات وقطع الطرق...وبذلك جنت التيارات اليسارية ثمرة نشر فوضى خلاقة تقوم على الاحتجاج بعناوين مختلفة...هدفها الرئيسي تعطيل الاداء الحكومي لأسباب انتخابية أولا ...
جاءت حادثة الاغتيال لأسباب استراتيجية بعيدة المدى يمكن تلخيصها في ما يلي :
◄تعميق الصراع بين التونسيين وتحويله من صراع برامج وأحزاب تحسمه صناديق الاقتراع  إلى صراع دموي تحتكم فيه الأطراف إلى السلاح  يدوم  عقودا على شاكلة الحـــرب الاهليـــة في لبنان( الخلاف الطائفي الدينـــــي ) ...أو يــــؤدي إلى مئـــــات الآلاف من الضحايا كما في الجزائر خلال التسعينات ( الخلاف السياسي الانتخابي  ).
◄تعميق الهوة بين التيار العلماني والتيار الاسلامي في تونس ودفع التنـــافــــر والتباغــــض والتنابـــز الذي ميّز مرحلة ما قبل الاغتيال إلى الحد الاقصى برسم علامة فاصلة بين الطرفين تفيد باستحالة التعايش على أرض واحدة.
◄تأجيج الأحقاد وتغذيتها بالدماء  ليصبح المشهد ”صراع الكلّ ضـــدّ الكلّ“ حيث يحـــدث التصـــــدّع بين العلمانيين أنفسهـــــم وبين الاسلامييــــن أنفسهم وذلك بغرض خلط الأوراق خلطا مزدوجا ومعقدا يصعب بعده ”عودة الرشد“ إلى العقول.
◄نسيانُ هدفٍ كان يوما ما يتحدث عنه التونسيون وهو”إنشاء نظام سياسي ديمقراطي يستمد شرعيته من الشعب“ وذلك لإبقاء الوضع في تونس هشًا يسهّل التدخل فيه والتأثير على مكوناته وتوجيهه حسب مصالح القوى الاجنبية .
إن الأيادي التي استخدمت الرّصاص الحي لاغتيال المناضل السياسي اليساري شكري بلعيد ليست ســــوى أداة تختفـــــي وراءها أكثر من جهة استخبارية أجنبية وهي أقرب إلى سيناريو اغتيال الزعيم اللبناني ”رفيق الحريري“. فقد تمّ توجيه الاتهام للنظام السوري والمقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله. كما تــــــــمّ في حالة اغتيال شكري بلعيد توجيه التهمة إلى التيار الإسلامي ممثلا في السلفيين وحركة النهضة ...كما أن التشابـــــه حاصــــل في حالة تصعيد ”سعد الحريري“ كزعيم يخلف والده...وبين حالة إبراز صورة أرملة شكري بلعيد السيدة ”بسمة الخلفاوي“ لتكون الشخصية التي تحمــــــل الإرث النضالـــــي للشهيـــــد التونســــي. كما أن التشابه حاصل أيضا في المناداة بالتدخل الأجنبي باعتبار وجود أقليات فــــــــي خطــــر وكذلك التشابــــه فــــي الدعــــــوة إلى الالتجاء إلى القضاء الدولي.
 
الخاتمة
 
إن التحديات التي تفرضها المرحلة الحالية بعد ظهور العمليات المسلحة والاغتيال السياسي تهدد بإجهاض المرحلة التأسيسيـة التي يأمل التونسيون من خلالها انشاء مؤسسات تضمن التداول السلمي على السلطة من خلال الانتخاب وتصون الحريات الفردية والعامة وتضمن المساواة بين المواطنين أمام القانون ...إنها مهمّة ليست هينة ولكنها تقتضي أن تتحلي الطبقة السياسية بقدر عـــــــال من السمو الأخلاقي الذي يجعل المصالح الشخصية والحزبية تتراجع رويدا رويدا لتحل محلها مصلحة الشعب التونسي وضمان حاضر البلاد ومستقبلها .