الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد السادس

بسم الله ناصر المستضعفين  والصلاة والسلام على نبي المساكين.

 ما نراه اليوم ونعيشه في تونس من تراوح بين استقرار واضطراب في الساحة الاجتماعية  ليس بالأمر الغريب على بلد يعيش تداعيات ثورة شعب كُممت أفواهه لمدّة عقود ومُورست عليه أنواع شتّى من القمع والظلم والطغيان وعاش تصحرا ثقافيا وسياسيا لامثيل له .

وكما في علم الجيولوجيا والزلازل فإن من الطبيعي جدّا أن تحدث عدّة رجّات إرتدادية متفاوتة القوّة بعد كل زلزال وما حدث على أرض الواقع زلزال عظيم لا يمكن قيسه على سلّم ”رشتر“ هزّ الوضع بتونس والمنطقة العربية فكان ما أطلق عليه البعض بالربيع العربي صدى لثورة الكرامة بتونس. فما عجزت عن تحقيقه الطبقة السياسية المثقفة طيلة عقود حققته جماهيرغير مؤطرة  في بضعة أيام . سقط الطاغية ورحل إلى منفاه وتسلّم من كان في السجون أو في المنفى الاضطراري مقاليد الحكم بعد انتخابات أجمع الكلّ على شفافيتها ونزاهتها . والآن بعد سنة ونصف من حدوث هذا الزلزال  مازلنا نعيش تحت وطأة رجّاته الارتدادية المتمثّلة في اضطرابات وانفلاتات أمنية متفرقة في الزمان والمكان تؤجج نارها القوى المعادية للثورة التي مازالت تنتظر اللحظة المناسبة للإنقضاض على السلطة من جديد لتسترجع ما تعتقد أنه افتك منها. وهي الآن تقوم بدور ”حمّالة الحطب“ مستعينة بمختلف أدواتها، تفتعل المشاكل والقضايا وتطلق أذيالها من الإعلاميين  ليؤججوا نار الفتنة بين قوى الثورة وعامّة المواطنين. ولأن هذه القوى ليست هامشية، بل  ذات خبرة ودراية فإنها دائما تركّز على الحلقة الأضعف في المجتمع، كما تفعل الجراثيم في جسم خرج من توّه من قاعة العمليّات، فهي تبحث عن أضعف عضو في ذلك الجسم لتنطلق منه في هجومها على سائر الجسد. فما هي الحلقة الأضعف في جسد تونس الثورة؟

 ما جلب انتباهي في ما حدث ويحدث هذه الايام  في بلدي هو أن الاسباب المباشرة لأغلب الانفلاتات الامنية لها علاقة بالمسألة الثقافية، في الوقت الذي تمّ ، بقصد أو غير قصد، تغييب بناء التحول الثقافي الموازي للتحول الديمقراطي السياسي، من طرف اصحاب القرار ومن جميع الفاعلين في الساحة الوطنية.

فمــــــن قضية عرض فيلــــم  ”لاسيدي لا ربّي“ لنادية الفانـــي وما صاحبه من تشنج وأعمال عنف بشــــارع الحبيب بورقيبـــة في العاصمة إلى قضية عرض فيلم ”جيوبوليس“ الايراني من طرف قناة نسمة وما لفته من صراعات وتجاذبات أثّرت أيما تأثير في أجواء إنتخابات المجلس التأسيسي ونتائجها ثم كانت مسألة نزع العلم الوطني من مبنى بمدخل كلية الآداب بمنوبة وأخيرا قضية عرض بعض اللوحات لفنانين مغمورين بقاعة العبدلّية بالمرسى والتي تسببت في انفجار الوضع بالعاصمة وبالعديد من المدن التونسية على خلفية أن اللوحات تسيئ للمقدسات الإسلامية مما انجر عنه صدامات عنيفة وسقوط جرحى وانفلات أمني أدّى إلى اعلان حظر التجوال بعدّة مدن.

 فهل يعني هذا أن ”المسألة الثقافية“ هي اليوم الحلقة الأضعف في بلدي؟ أليس من المفارقات أن تكون الثقافة في الواجهة وراء كل الإضطرابات ولا يفتح ملفّها بجدّية ؟

العيب في رأيي في الطبقة السياسية الحالية التي تفتقد إلى الجدّية والمسؤولية الكافية لمواجهة الاشكاليات الحقيقية وعلى رأسها المسألة الثقافية. وإنّى أرى أن الوقت قد حان ليأخذ رجال الثقافة والفكر في تونس موقعهم في منابر الحوار و مواقع القرار عوضا عن بعض الفلكلوريين من الساسة الذين لم يتعلموا في عهد بن علي غير الاحتجاج والمزايدة ولم يعرفوا يوما معنى المشاركة والبناء . فلا يمكن لتاج الثورات العربية أن تنجح بدون إصلاح ثقافة الناس وتحقيق تحول ثقافي يُغيّر ما بالناس من عادات وسلوك فعلت فيها سنوات الحكم الفردي فعلتها وصبغتها بمقومات ثقافية غير سليمة . فالله سبحانه وتعالي ”لا يغير ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم“ 

نحن أسرة مجلة ”الاصلاح“  نرى أن المسالة الثقافية جوهريّة ومحورية في عملية بناء تونس التي نطمح إليها، ولهذا فإننا نحاول قدر المستطاع أن نطرح  هذه المسألة على بساط الدرس لنساهم في البحث عن مقومات بناء ثقافة عصرية تؤكد على الابداع والابتكار وترتكز على الهوية العربية الاسلامية وتنطلق من المخزون الثقافي لدى التونسيين،  لنحقق بالتوازي مع التحول السياسي إلى الديمقراطية، تحولا ثقافيا يضمن لنا المناعة ضد محاولات قوى الرّدة وأعداء الثورة.