في العمق

بقلم
الهادي بريك
فقهنا السياسي بين المراجعة والتحديث (2)

 

 
المطلب الثالث : مظاهر ذلك العقوق ومآلاته. 
 
المظاهر كثيرة مما يقتضي ذكرها دون إنبساط خشية الإطناب والإسهاب.
1 ـ ضمور مدقع في الإنتاج الفقهي السياسي. وهو أمر عانى منه الباحثون المعاصرون كثيرا إذ في السياسة المالية مثلا لا تجد سوى كتاب واحد هو خراج أبي يوسف ومثل ذلك تقريبــــا في الفقه الدستوري. هذا عن حجم الإنتاج الذي ظل منتفخا متورما لفائدة الفقه الكلامي ( فقه العقيدة والتوحيد ) والفقه التعبدي الذي خضع من بعد ذلك للتحشية ( أي الشروح بطريق الحواشي ) ثم انغلق ذلك التراث الثّرّ الخصيب كله في المدونات والمتون حتى أضحى أحجيات وطلاسم سرعان ما لفظها الفقه المعاصر. أما عن مضمون الفقه السياسي فهو يسير في الأعم الأغلب في الاتجاه المعاكس للشريعة كما سنتبيّن ذلك. ذلك الضمور المدقع أثمر ثقافة عامـــة في الأمة قوامها أن الشأن السياسي في الإسلام نافلة أو قريبا من ذلك بل ربما بدعة. وفي كل الأحــــــوال فإن العلاقة بينه وبين العقيدة علاقة واهية لا شأن للمتدينين المخلصين المتقين بها وحسبه بذلك شرا ومقتا وسوء سبيل.
2 ـ الشورى معلمة للحاكم وليس ملزمة. وحسبها بذلك تشريعا للقهر والسلب والاستبـــــداد والدكتاتوريـــــة. ألا ترى معي حجم المأساة؟ المأساة أن التراث ينقل لنا المشهدين : مشهد النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام وهو يلتزم بالشورى في الخروج إلى أحــــد من بعدما عبّر عن رأيه الخاص والقاضي بعدم الخروج. فلما نظم التصويت لذلك رجحت كفة القائلين بالخروج فلبس لامته وخرج ولما حاول بعضهم إثناءه بسبب عدم رضاه قال كلمته الشهيرة : ما كان لنبـــي إذا لبس لامته أن يضعها. أي ما كان لنبي أن يستشير قومه ثم يخالفهم. والمشهد الآخر المنقول إلينا هو قول الفقهاء بأن الشورى غير ملزمة بل هي معلمة! عجب عجاب ورب الكعبة. أنى لحاكم ولو كان في وزن الفـــــاروق عمر ألا يلتزم برأي الأمة وقد التزم برأيها المعصوم المؤيد بالوحي؟
3 ـ ما يشبه الإجماع على القــــول بشرعيــــــة السيـــف المتغلـــب. أي من اغتصب السلطة السياسية في الأمة بقوته وسيفه وعصبيته القبلية فبيعته بيعة شرعية والخروج عليها بغي. أجل. تعدم الأمة ويصوّب الحاكم. لم يبق ذلك رأيا شاذا بل أصبح نظرية هي نظرية الشوكة كما نظر لها الإمام الجويني في كتابه المعروف بـ(الغياثي).
4 ـ احتواء القضاء والتنكيل بالمعارضة السلمية. قصص التنكيل الصحيحة كثيرة وليس هنا مجال لبسطها وليس صحيحا أن السفاح الحجاج هو الوحيد في ذلك التنكيل ولكنه اشتهر فيه أكثر من غيره. ألم يحمل رأس السّبط الحسين عليه الرضوان إلى يزيد؟ ألم يقع التنكيل في الحادثة ذاتها بأهل البيت؟ بنساء أهل البيت؟ أم تعدّون اليوم المنتصر للحسين عليه الرضوان ـ حتى لو كان يخالف تقديره السياسي ـ شيعيّا؟ ألم يكن الالتزام بالإسلام يقتضي من أولئك تقديم المعارضين إلى القضاء المستقل كما فعل بعليّ نفسه ـ عليه الرضوان ـ في خصومة له مع اليهودي حول درع. وعليّ يومها الخليفة الراشد الرابع؟ أم أن استقلال القضاء نافلة من نوافل الإسلام؟ 
5 ـ ترسيخ الانقسام الطائفي في الأمة. ظهر ذلك جليا عند العباسيين الذين تحالفوا مع المعتزلة انتقاما من الأشاعرة ولو في صورتهم الأصولية الفقهية أي أهل السنة والجماعة. وفي العموم لم تخل مملكة إسلامية من التأيّد بمدرسة كلامية لضرب أخرى. أي أن السلطان كان عاملا حاسما في ترسيخ الانقسام الطائفي وليس جامعا لتعدديات الأمة. أي أن الأمر الذي لأجله اعتزل الفقهاء السياسة والسياسيين ـ أي وحدة الأمة ـ لم يبق سليما مضمونــــــا بل شتته الأمراء وبددوه. مظاهر التأجيج الطائفي كثيرة ومنها الحملات الشرسة جدا التي تعرض لها الشيعة والخوارج سيمـــا على امتداد العهدين الأموي والعباسي. لست خارجيا ولا شيعيا ولكني أقرّ بحق أولئك وغيرهم في الحياة والتعــــدد والاختـــــلاف إذ لا معنى للإقرار بذلك للمخالف الديني من مثل اليهودي والمسيحي بل وحتى الملحد في زماننا دون الإقرار به للمخالفين تحت السقف الإسلامي. الحقيقة التاريخية التي لا ريب فيها عندي هي أن الثارات الشيعية التي نراها اليوم هي ثمرة من ثمـــــرات تلك المراحـــــل من الاضطهاد. الأمر لا ينطبق على الشيعة فحسب كما يتوهم بعضنا بل ينطبق على الخوارج كذلك. خوارج العصر حسب ما يسميهم بعضنا. للتاريخ ثارات لا بد من ظهورها فلنحسب لذلك ألف ألف حساب.
6 ـ إفشاء العقائد الإرجائية. تولى وزر ذلك الأمويون الذين بثـــوا في الأمة عقيدة الإرجاء ومقتضاها عقيدة جبرية إكراهية تعيد صياغة العقل الإسلامي على أساس أن الظلم الواقع في الأرض قضاء الله وقدره سبحانه ولا فرار من قضاء الله وقدره وليس أمامنا إلا الرضى. أما العمل وخاصة في اتجاه التغيير والإصلاح فليس لنا به أرب. إذ العنوان هو : لا تضرّ مع الإيمان معصيــــة ولا تنفــــع مع الكفر طاعة. تلك العقيدة الإرجائية هي المسؤولة اليوم عن جزء كبير من معدلات البطالة والعطالة والتخلف والقعود والتواكل وتطليق الدنيا عملا وكسبا وأسبابا أما تعلقا للقلوب بها فما حصل طلاق بل الذي حصل هيام وود وجنون يفوق جنون مجنون ليلى بليلى.
7 ـ تسلل اللهو والترف والعبث إلى القصور السلطانية. وهل اندكّت حصوننا في غرناطة إلا بعد أن تسللت إليها تلك السرطانات الخبيثة التي أخبرنا الذكر الحكيم بأنها هي المسؤولة الأولى عن انحطاط الأمم وانهيار الحضارات وأفول المجتمعات؟ لست من هواة القول بأن تاريخنا مفترى عليه ولست في مقابل ذلك من نفاة المؤامرة بالكليـــة. ولكنـــي فـــي منزلـــة وسطـــى هـــي منزلــــــة : قل هو من عند أنفسكم. وهي التي ترجم لها المفكر الجزائري مالك بن نبي عليه رحمة الله سبحانه بالقابلية. إفترى المستشرقون وغيرهـــم على تاريخنا ولكن تاريخنا نفسه ليس كسبا أبيض ناصعا يعج بالمناقب وخاصة في جانبه السياســي. لكن المشكلــــة منهاجيــــة: إذا اعتمدنا المقارنة فلا ريب في أن تاريخنا هو أدنى التجارب إلى العدل ولكن إذا اعتمدنــــــا محاكمتــــه إلى الإسلام ـ وذلك هو المنهاج الأعــــدل في رأيي ـ فإن تجربتنا السياسية سوادها أكثر من بياضها. 
8 ـ فرض الأحادية الفكرية والفقهية ومنع التعـــــدد. لك مثال واحد ثابت عن ذلك وهو طلب المنصور الخليفة العباسي المعروف من الإمام مالك وضع كتاب فقهي يحسم التعدد الفقهي سوى أن الإمام العظيم تأبّى بلطف وحنكة وحكمة وذكاء فجعل الموطأ المبسوط اليوم بيننا. تلك حادثة منقولة ولكنها لم تكن استثناء بالتأكيد. فرض الأحادية وقتل التعدد هو أول أبواب السقوط. ألا يعلمنا الإسلام درسا بليغا عندما يقر بالتعدد الديني إقرارا واقعيا فيمنح المخالفين في الدين حق الحياة وحق التدين حتى وهو يعتبرهم أهل كتاب أو كفارا ويتوعدهم بالنــــــار؟ لا أجد درسا أبلــــــغ من ذاك في الاعتراف بالتعدد. الحديث عن التعدد الديني فما بالك بما دونه. 
9 ـ إكتناز السلطــــــات لتكــــون دولة ( بواو المد ) بين العائلة الحاكمة فحسب. هيمنت تلك العائلات الحاكمة من بعد الإنقلاب الأموي الشنيع ضد الخلافة الراشدة المهدية الأولى على السلطات كلها إذ بيدها السلطة السياسية التي بها تورث الأمة كما يرث متاع الهالك أهله بالتمام والكمال. وبمثلها السلطة المالية جباية وتوزيعا والسلطة القضائية التي رفضها عدد كبير من الفقهاء من مثل أبي حنيفة وغيره تقديرا منهم بأنه قضاء إنتقامي من المعارضين السياسيين في جزء كبير منه. حتى السلطة الإدارية المحليـــــــة لم تفوّت فيها تلك العائلات لأهلها لاختيار العمال والولاة وغيرهم. بل عملت تلك العائلات ـ كما مرّ بنا ـ على تأميم السلطة الدينية والفقهية من خلال محاولات لشراء ذمم الفقهاء. 
10 ـ إنتاج ثقافة دينية بئيسة قوامها تسطيح الفقه الإسلامي لتكون الشريعة بذلك تطبيقات في الحقل الجنائي الجزائي العقابي وليس نظاما حضاريا ثقافيا سياسيا جامعا يقدم الحرية على الشريعـــــــة بل على العقيدة بمثل ما قدم الإسلام كرامة الإنسان على كل شيء تقديرا منه أن الإنسان الحرّ المكرّم المعلّم هو خير من يستأمــــن على تطبيق العقيدة والشريعة على نفسه ابتداء. ولتكون الخلافة ـ بأثر من ذلك التسطيح الفقهي ـ نظاما سياسيا أوحد للفقه السياسي وبذا لا يتصور مسلم اليوم ـ إلا قليلا جدا ـ نظاما إسلاميا سياسيــــا إلا ورسمه الخلافة ورأسه الخليفـــــة حتى غـــــدا ذلك حاضــــرا في اللاوعي حضور المسلمات العقدية أو المعلوم من الدين بالضرورة. تلك ثقافة بئيسة مسؤولة اليوم عن كثير من أعمال الجماعات الإسلامية القائمة على التكفير والتفجير باسم إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة وكأن الخليفة جاهز بخلافتــــه وشريعتـــه لا ينتظر سوى الإذن له ليرفع الصولجـــــــان ويحكم باســـــم الله. أي تسطيح جنى على الفقه السياسي الأصيل؟
11 ـ إهالة التراب على نظام التغطية الاجتماعية الذي أرساه الفاروق عمر. لم ينقل إلينا التاريخ أن خلافة إسلامية من بعد ذلك عملت بنظام التغطيات الاجتماعية إلا قليلا جدا من مثل ما ينقل إلينا من حفيد الفاروق ( الفاروق الحفيد أي الخليفة الراشد الخامــــس ابن عبد العزيز). أصل ذلك النظام الاجتماعي هو الكتاب الكريم ذاته وهو ما عرف في الخلافة الراشدة بنظام العطاء الــــذي اختلــــف في إدارته ـ وليس في أصله ـ الخليفتان الأوليان ( أبوبكر وعمر). ألم يقتبس الأوربيّون  إبان نهضتهم ذلك النظام الفاروقي العظيم وهم اليوم يحققون به استقرارا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا لمجتمعاتهم وشعوبهم؟ 
 
المطلب الرابع : مقاربات نظرية وعملية
 في فقه السياسة الشرعية أو الفقه السياسي.
 
1 ـ شرعية الأمة هي أصل الإجتماع السياسي الأول. لم يقتصر ورود ذلك صحيحا صريحا في الكتاب الكريم فحسب ( وأمرهم شورى بينهم ) بل تعزر ذلك بالفعل النبوي الكريم الذي ما اتخذ إجراء دنيويا في حياته إلا من بعد إرجاع الأمر إلى أهله ( الخروج إلى غزوة أحد + إعطاء قبيلة غطفان ثلث تمر المدينة لتفريق الحلف العسكري المحشود حول المدينة في غزوة الخندق + أمثلة أخرى كثيرة ليس المجال هنا لإحصائها ). أدقق القول : كان يلتزم الشورى في الدنيا وليس في الدين لأنه نبي مرسل معصـــــــوم وإنما الشورى محلها الدنيا التي تختلف حولها التقديرات أما الدين فهو وضع إلهي موضوع للناس الذين منحهم ربهم سبحانه حرية الإيمان بمثل ما منحهم حرية الكفر وإنما حملهم المسؤوليــــــــة يوم القيامة كاملة. كان يلتزم الشورى حتى أنه لم يسمّ خليفة من بعده ولو كان يخشى فتنة ـ بمثل ما عميت المسألة على الفقهاء من بعده كما أنف ذكره ـ لسمّى للناس خليفة ولكنه عهد بالأمر إلى صاحبها وليس صاحبها إلا الأمة ولذلك لم يتردد الصحابــــة في الهــــروع إلى سقيفة بني ساعدة لانتخاب أول خليفة له ( خلافة دنيوية وليس خلافة دينية ). كان الأمر واضحا عندهم أتمّ الوضوح. فلم نتلعثم فيه نحن اليوم؟ الحاصل من ذلك هو أنه لا شرعية لأي حاكم إلا شرعية الأمة أي الانتخاب المعروف عندنا اليوم. بل الحاصــــل من ذلــــك هو أن أي حاكم منتخب من الأمة يعزل في حال عدم التزامه الشورى. الصمت عن ذلك لا يعدّ من الفقهاء إلا كتمانا للشهــــــادة إذ هم المستأمنون على بثّ العلم وبيانه للناس وحراسة القطعيات والمحكمات. 
2 ـ مشروعية الإسلام هي الأصل الثاني لذلك الاجتماع. أجـــــــل. هي الأصل الثاني وليس الأول لأن الحاكم يستمد شرعيته من الأمة ومشروعيته من الإسلام. تمييز لا بد منه بين الشرعية الانتخابية وبين المشروعية العملية التي كلفته الأمة لحراستها وخدمتهـــا وهي تنفيذ الإسلام وليس الشريعة فحسب. وبذا يعزل الحاكــــــم الذي لا يعمل على تنفيذ الإسلام قدر الإمكان. فما بالك بحاكـــــــــــم لا يعترف بمشروعية للإسلام أو يعترف بمشروعيته العقديـــــــة دون التشريعية أو يتنكر له جملة أو تفصيلا أو يتخذ خطة لتجفيف منابعه من البلاد؟؟؟ عندما يحتدم بيننا الجدال في عزل مثل ذلك نكون قد تدحرجنا إلى وهدات سحيقة. 
3 ـ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقول دهاقنة التجربة والمعارف. ولذا شرع الإسلام منذ البداية ما يعرف اليوم عندنا بالفصل بين السلطات لئلا تحتكر من لدن جهة واحدة. ولذلك ظل حبر الأمة إبن عباس حتى موته يخالف جمعا كبيرا من الصحابة ويقول بأن أولي الأمر المعطوفين في الطاعة على الكتاب والسنة هم العلماء وليس الأمراء. قال ذلك في زمان كان فيه الأمراء علماء. ماذا لو كان اليوم حيا بيننا؟ ثم سارت الخلافة الراشدة على الفصل بين السلطات بقدر ما كانت تسمح به طبيعة المجتمعات بسيطة التركيب. وخاصة السلطة القضائية التي فصلت من أول يوم. وبمثلها السلطة التشريعية التي اتخذ لها الفاروق مجلسا حبسه في المدينة لا يخرجون منها إلا بإذن ليسهل جمعهم وعرض الأمر الحادث عليهم. وبمثل ذلك كانت السلطة المالية في علاقات وصل وفصل معا بين المجتمع الأهلي وبين الدولة. أما السلطة الإعلامية فكانت بيد المجتمع الأهلي بالكامل ولم تكن السلطة الإعلامية يومها سوى بيد الشعراء والأدباء والخطباء والفقهاء والعلماء وربمـــــا كان مربطها الأســــاس هو المسجد. آلية فصل السلطات إذن هي آلية إسلامية قحة لم تتخلف الخلافة الراشدة عن الإلتزام بها وليست هي فكرة غربية أوربية ناشئة عن العقد الإجتماعي كما يردد عبيد الفكر الغربي. 
4 ـ المعارضة السلمية ـ منزوعة السلاح ـ مكون أساسي من مكونات المشهد الإسلامي العام. تجلى ذلك خاصة في خلافة علي عليه الرضوان وذلك بمناسبة معالجته للمعارضة الخارجية ( نسبة إلى الخوارج ) التي نشأت في إثر صفين. أرسل إليهم حبر الأمة الذي استعاد منهم بالحوار زهاء الثلثين. ثم حدد الخليفة الرابع السياسة العامة في العلاقة مع المعارضة فقال كلمته المشهورة : لهم ما لنا وعليهم ما علينا فلا نمنعهم جهادا ولا فيئا. ثم قال : هم من الكفر فرّوا. معنى ذلك هو أنه اعترف بالمعارضة السياسية حتـــى لو كانت خارجية وقد أثبتت الأيام من بعد ذلك أن المعارضة الخارجية هي ألدّ المعارضات وأقساها ومعلوم أن فيهم غلوا كبيرا يذهب إلى حد تكفير مرتكب الكبيرة في حركة ردّ فعلية على الإرجاء الأموي إذ أن المدارس الكلامية إنما نشأت نشآت سياسية ولا علاقة للفقه بذلك في أول الأمر ولكن كان لا بد لتلك الفــرق أن تتدثر بالفقه وهو موضوع مهم جدا سوى أنه يخرج الآن عن اهتمامنا. معنى ذلك كذلك أن المعارضة السلمية لا سبيل معها سوى الحوار كما فعل الخليفة الراشد الرابع. ومعنى ذلك كذلك هو تجنّب الهـــروع إلى التكفير والتفسيق والتبديع والتخوين رغم أنه يتحدث عن الخـــــوارج ( هم من الكفــــر فـــــروا). كيف هو تعاملنا اليـــــوم مع المعارضــــــات؟ لا أظن أن مواطنا عربيا واحــــدا يجهل حقيقة ذلك التعامــل ولا أظن أن مواطنا عربيا واحدا يتشرف بالانتســاب إلى ذلك التعامل. لم يتســــع المجتمـــــع الإسلامـــي في تاريخه الطويل الثّرّ إلى المعارضة السياسية فحسب بل اتسع إلى كل أنواع المعارضات الكلامية والمذهبية والفكرية والسياسية بل وحتى الدينية. أليس لنا في ذلك درس بليغ؟ ألم تزدهر العلوم والمعارف وحركة الاختراع والاكتشاف في كل حقل علمي كوني وديني إلا يوم تشبّع المجتمع بمثل ذلك التعدد والتنوع والإختلاف؟ 
5 ـ أبرز فرائض الدولة هي : الحرية الكفيلة بتحقيق الكرامة للإنسان المكرم والعدالة اقتصاديا واجتماعيا وتوحيد الصف الداخلي مع رعاية تنوعاته مهما كانت بعيدة دينيا وعرقيا ومذهبيا وفكريا ولغويا وتحقيق علويات القانون والدستور والمساواة لمحاسبة الحكام والمسؤولين ولتكون الأمة هي مصدر الشرعية والإســـلام هو مصدر المشروعية وبناء علاقات خارجية أساسها حماية البيضة وتحقيق الندية والانتصار للمستضعفين والمقهورين وتأمين حق الدعوة السلمية. تلك هي أبرز الفرائض العظمى ولكن وسائلها كثيرة ومنها ما هو منصوص عليها في الكتاب الكريم ذاته من مثل السعي لامتلاك قوة الحديد وإحلال الشورى نظاما إداريا وسياسيا وبث العلم والتشجيع على الاجتهاد والابتكار والتحديث والتجديد وغير ذلك. أين واقعنا اليومي المعيش من تلك الفرائض الشرعية؟ ألسنا نسير في الاتجاه المعاكس بالتمام والكمال سيّما في البـــلاد التي لمّا تنفذ إليها " عدوى " الربيع العربي؟ 
ربما يحسن أن يقع الاقتصار على ذلك القدر خشية الإسهاب والإطناب. ولكن لا بدّ من ذكر مقاربات جزئية أخــــــرى مهمــــة من مثل : ضرورة تحديد عدد الولايات التي يحق للحاكم أن يشغلها وكذا تحديد سن دنيا وأخرى قصوى لتحمله المسؤولية. ومن مثل أن تكون القيادة جامعة بين الفردية والجماعية في آن واحد وفي كل الأحوال فإن ذلك لا يمس بالأصل المقدس في الفقه السياسي الإسلامي أي الشورى الملزمة بالضرورة. ومن مثل الموازنـــــة بين حسنات وسيئات النظام الجمهوري الرئاسي والنظام الجمهوري البرلماني وضرورة خضوع الدولة لدستور معلن مكتوب محل توافق بين الناس لا علوية فيه لأحد سوى للأمة مصدرا للشرعية وللإسلام مصدرا للمشروعية. ومن مثل الفصل بيــــن السلطــــــات وليست هي ثلاث فحسب إذ السلطات اليوم : سياسية وعسكرية ومالية وإعلامية وقضائية وعلمية وغير ذلك. ومن مثل اللجوء إلى النظام الفدرالي أو ربما الكنفدرالي في بعض الحالات لضمان أكثر ما يمكن من الحريات في تصريف الشؤون المحلية وتفرغ الدولة لأعبائها الخارجية والعسكرية ولمزيد من تحمل المجتمع لمسؤولياتــــــــه في النماء والعدالة والكرامة والمشاريع الاقتصادية الاستثمارية المباشرة. وإجراءات إدارية سياسية أخرى كثيرة ينفتح لها الفقه السياسي أو فقه السياسة الشرعية القائم أساسا على جلب المصالح ودرء المفاسد وعلى نشدان العدل ونبذ الظلم .. إجراءات سياسية وإدارية أخرى كثيرة يضيق عنها هذا المجال ولكن لا بد من الإشارة إلى فلسفتها العامة التي هي : إنتاج فقه سياسي رشيد يكون أدنى إلى مقاصد الإسلام العظمى إذ أن ذلك هو الطريق الآمن للوفاء للعقيدة والعبادة والعمارة وليس هناك طريق أقصر لإنتاج فقه سياسي أرشد إلا طريق حسن فقه مقاصد الإسلام العظمى لضمان حسن تنزيلها على الواقع السياسي. 
 
خلاصات مركزة عامة 
 
1 ـ فقهنا السياسي أو فقه السياسة الشرعية ـ بحسب التعبير القديم ـ يحتاج منا اليوم إلى مراجعة مزدوجة الميزان : كفة من ذلك الميزان تراجع ذلك الفقه ـ الذي هو غير الشريعة كما تبين آنفا ـ بمحاكمته إلى محكمات الكتاب والسنة والأداء العام للخلافة الراشدية المهدية الأولى وخاصة في الحقل السياسي. والكفة الأخرى من ذلك الميزان تراجع ذلك الفقه ببيان توافقه وخصومته مع التطورات المعاصرة بقصد تحقق مقاصد الإسلام السياسيــــة على أرض الواقع قدر الإمكان ولا بأس من اجتياز مرحلة انتقالية ( هي مرحلة الفقه الانتقالي ) كلما دعت الضرورة إلى ذلك إيمانا بقانون التدرج وسنة الإصلاح الهادئ. 
2 ـ لا بد لتلك المراجعة الجادة  والهادئة أن تركز على الحديث السياسي ( أي الحديث النبوي في الحقل السياسي) وذلـــــك بسبب أن القرآن الكريم تكفل من الفقه السياسي ـ على عادته في التشريع في الحقول الكلية ـ ببيان الأصول والمبادئ والمقاصد والكليات. بما يعني أن المراجعة هنا لا تعدو أن تكون تجديدا للفهم وتعميقا للفقه. أما الحديث السياسي المشتمل على مئات من النصوص المتفاوتة جدا ورودا ودلالة من جهة ومقاما ( نسبة إلى مقامات التشريع ) من جهة أخرى فإن الحاجة إلى مراجعته تبدو ماسة جدا وذلك على أساس قيم منها : حاكمية القرآن على السنة طرا مطلقا وفي كل الأحوال ودون أي استثناء وليس حاكمية السنة على القرآن بأي قدر من الأقدار ولا حتى التسوية بينهما في الاعتبار. ومن تلك الأسس كذلك : التمييز بين مقامات المشرع(1) إذ يكون مجرد ناصح في حين ويكون مشيرا في حين آخر وقد يكون متنبئا أو محذرا في أحيان أخرى وفي مواضع أخرى يكون حديثه خاصا بواقعة أو بشخص أو بزمان أو بمكان. ومن تلك الأسس كذلك : التمييز بين مؤسسة الإمارة التي يستخدمها عليه الصلاة والسلام في كثيــــــــــر من حديثه السياسي. إذ أن مؤسسة الإمارة كثيرا ما يقصد بها المؤسسة العسكرية وليس تعني دوما مؤسسة الإمامة السياسية. ومن تلك الأسس كذلك : وصل الحديث السياسي بمقصده وقد تبين من خلال ذلك في مواضع كثيرة جدا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما يريد التأكيد على وحدة الجماعة ورصّ صفّها لضمان وحدتها السياسية وبما أن ذلك لا يتم إلا عبر المؤسسة السياسية فإنه يحذر أيما تحذير من هدم تلك المؤسسة الجامعة ولكنه لا يقر بحال من الأحــــــوال أن تكون تلك المؤسسة ”حاميها حراميها“ كما يقال بالتعبير الشعبي أو شبه الشعبي. ومن تلك الأسس كذلك : لقد تبين لي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحدث في الشأن السياسي بكثرة كاثرة جدا بمناسبة نبوءته بالفتنة الكبرى التي شقت صفوف الجيل الأول في المرحلة الثانية من الخلافة الراشدة أي من الجمل وصفين والنهراوين حتى أواخر العهد العباسي. ليس معنى ذلك أنه يقصر حديثه عن تلك الفتنة التي لنا فيها أحاديث صحيحة منها خطابة لعمار ابن ياسر ( تقتلك الفئة الباغية ) ومنها كذلك ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة : أولها الحكم وآخرها الصلاة ).. ولكن معنى ذلك أنه لما علم بالنبوءة أن تلك الفتنة قريبة وآثارها ستكون مدمرة على قرون أخرى طويلــــــة من التاريخ الإسلامي فإنه ركز الحديث عليها وبذا يكون تعدية ذلك إلى غيرها قياسا فاسدا سيّما أن أكثر من يفعلون ذلك اليوم خاصة لسان حالهم يقــــــــول : لا بديل عن الملك القائم اليوم إلا بديل الاحتــــــــــلال أو الاقتتال. ولا حق لأحد أن يثور ضد الملك. والثورة ضد كفران وخروج عن الإسلام جملة وتفصيلا. وأسس أخرى يضيق عنها هذا المجال.
3 ـ كما يحتاج فقهنا السياسي إلى تحديث من بعد مراجعة. دور المراجعة هو دور تأصيلي أما الدور التحديثي التالي فهو يراعي المتغيرات المعاصرة اقتباسا للحكمة من أي وعاء خرجت إذ المؤمن أحق بها وأولى كما ورد في الحديث الصحيح. المعركة الناشبة اليوم بين الشورى والديمقراطية هي معركة خاطئة منهجيّا. أما المتمترسون خلف الشورى رفضا للديمقراطية فإنهم لا ينفكون عن جهل بالغ إما بالإسلام أو بالديمقراطية أو بهما معا. إنما يسعنا الفقه الانتقالي ومنه أن نستورد حسنات الديمقراطية الكثيرة آلية إدارية سياسية لحسم الخلافات وتجفيف منابع التفرد والاستبداد والقهر وليست فلسفة أخلاقية أو نظرية فكرية أو مذهبا ماديّــــا. لو أسلم ألماني على يديك هل تقول له : لا بد لك أن تستورد العادات العربية والتقاليد الإسلامية ليكتمل إسلامك أو تغير إسمك؟ طبعا لا. لم؟ لأنه ضمن الإسلام ولا حاجة له بالتقاليد العربية والعادات الإسلامية ـ وليس العبادات والفرق بينهما شاسع ـ ولا حتى بتغيير إسمــــــه. أي أنه استورد الإسلام منزوعة منه تقاليد أهله. ذلك هو شأننـــــا مع الديمقراطية في مرحلة انتقالية على الأقل : نستوردها منهاجا إداريا وسياسيا وليس فلسفة ولا دينا. حقول التحديث كثيرة منهـــا ما يتعلق بالمرأة ومسؤولياتها السياسية والأقليات من كل جنس وليس غرضنا هنا الإحصاء ولكن غرضنا بيان إمكانيات التحديث. 
4 ـ لا بد من الإقرار بتواضع الكبار أن فقهنا السياســـــي ـ بحسب ما ألّفته الفتنة الكبرى بدء من الجمل وصفين وتداعياتهما إلى يوم الناس هذا ـ  مسؤول عن تردي أوضاعنا السياسية ولعل عنوانها الأبرز : بلوغ مناسيب تغوّل الدولة العربية ضد شعوبها ومجتمعاتها شأوا من القهر والنهب والسلب كان سببا مباشرا في الاحتلال العسكري والاختراق الثقافي والاغتراب الفكري والاستلاب الحضاري والتفكك والتجزئة والتبعية والمديونية والفقر والجوع والمرض والتخلف والجهل والأمية. ذلك هو تقديري. كانت البداية حزينة كئيبة فظلت كذلك بل ازداد الطين بلة. هذا السؤال الكبير والخطير لا بد من طرحه : بأي شيء نفسر السرعة القياسيـــــة التي اغتيلت بها الخلافة الراشدة المهدية الأولى؟ ولم أخفقت محاولات الإصلاح كلها ـ دون استثناء إلا الاستثناء الثوري الحاصل قبل عامين فحسب بدء من تونس حتى سوريا ـ في استعادة الحكم الإسلامي الصحيح أي المبني على الأسس ذاتها التي إنبنت عليها الخلافة الراشدة المهدية الأولى؟ محاولات الإصلاح قديمة قدم الاغتيال نفسه. لو تركنا تلك المحاولات القديمة فإن المحاولات النهضوية المعاصرة عمرها اليوم زهاء ثلاثة قرون كاملة. لماذا نمضي دون طرح السؤال؟ أليس السؤال هو الذي هدى الله به خليله إبراهيم عليه السلام إلى الحق؟ أليس السؤال هو الذي رفع الله به يقين كليمه موسى عليه السلام؟ أليس إمام الثائرين ضد القهرـ محمد عليه الصلاة والسلام ـ هو القائل في الحديـــــث الصحيـــــح : نحن أولى بالشك من إبراهيم؟ 
النهضة المنشودة تمر حتما من هنا : مراجعة فقهنا السياسي وتحديثه كفيل بإقترابنا من قيم الحق والعدل والكرامة والحرية والوحدة والتنوع والتعارف والتراحم ورص الصف والاعتصام والشهادة على الناس والقوة والخير. وكذا تحقيق أهداف الثـــــورة لا بد لها أن تمر من هنا كذلك. 
 
الهوامش 
 
1 ـ مقامات المشرع : ضرب من ضروب الفقه كتب فيه فقهاء المقاصد قبل الإمام إبن عاشور أشياء قليلة ولكن الإمام إبن عاشور هو أكثر من كتب في ذلك في كتابه مقاصد الشريعة وهو علم يريد الإستقلال عن علم مقاصد الشريعة بمثل ما إستقل هذا بـــــــدوره عن علم أصول الفقه على يد الإمام الشاطبي. مقامات المشرع معناها الصفة التي يتكلم بها النبي محمد عليه الصلاة والسلام إذ يتحدث أحيانا بوصفه نبيا مبلغا وأحيانا بوصفه بشرا وأحيانا بوصفه إماما وأحيانا بوصفه محاربا وهكذا. والتمييز بين تلك المقامات مهم جدا لحسن الفقه وتعميقه وصحة تعديته بالقياس.
————————-